بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

تأديب الطفل بين حق التربية وجرائم التعنيف..

الدكتور/ سعيد بن عبدالله المعشري

مستـشار قانـونـي

 

تأديب الطفل بين حق التربية وجرائم التعنيف..

 

إن تنشئة الطفل من القضايا التي شغلت الراي العام حديثاً، بعد أن أصبحت من المسائل التي أخذت حيزا من الاهتمام وخاصة لدى التربويين والقانونيين، لما أحدثته الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة المسموعة والمرئية من تحولات جذرية في قيم وهوية المجتمعات الانسانية لما أحدثته من تمازج وتداخل بين ثقافاتها نتيجة للمحتوى التي تبثه بغثه وسمينه، فأن الموجهات الرئيسية في ذلك هو استهداف الناشئة لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية برعاية دول وشركات كبرى تهدف إلى تغيير نمط عيش وسلوكيات المجتمعات من خلال تحطيم بناءها القائم على تنشئة الفرد وتقوية الروابط الأسرية وكل ذلك من أجل أن تنضوي هذه المجتمعات مكرهة تحت سيطرتها في تلبية حاجياته ورغباته المعيشية لما تحتكره تلك الدول والشركات من قوى انتاج مادية ومعنوية.

إن ما تواجهه مجتمعاتنا اليوم من عقبات ومعوقات للاحتفاظ بهويتها وعاداتها بقواعدها الأخلاقية والسلوكية لا يقتصر على التداخل بين ثقافاتها فحسب، وانما على ما تفرضه القوى العالمية الكبرى عليها من قواعد لتنظيم سلوك الافراد بها دون مراعاة لخصوصيتها الثقافية والأخلاقية تحت شعار حق الانسان في الحرية المطلقة في اختيار طريقة عيشه وسلوكه دون قيداً أو شرط،، وكل ذلك لغاية وهدف كسر القواعد الأخلاقية الاجتماعية بها في سبيل تحقيق مآرب واهداف سياسية أو اقتصادية، مستغلة الأوضاع السياسة والاقتصادية التي ترزح تحت وطئتها لتعجزها من مقاومة ما هو آت إليها من خارج الحدود، وما كان نتيجته إلا بتمكين القوى السياسية والاقتصادية الكبرى في العالم من فرض توجهاتها لجعل هذه الدول تتماشى مع ما تفرضه عليها من قواعد بالابتزاز السياسي والاقتصادي.

ولهذا فإن نتيجة هذه المؤثرات الدولية أصبحت الوسائل التربوية التقليدية في مجتمعاتنا العربية والاسلامية التي تقوم على وسيلة التوجيه ومن ثم العقاب الجسدي في تقويم سلوكيات الطفل في حالة مبالغته بسلوكياته الشاذة عن قيم المجتمع واخلاقياته، لا تجدي نفعا في علاج الواقع أو التصدي له دون أن يعاد النظر فيها بما يتلاءم مع التغيرات والتحولات في ظل الانفتاح الذي يشهده العالم في ظل عولمته التي أدت إلى تقليص المسافات وكسر الحدود بين مجتمعات الدول.

ولقد بدأ فرض القواعد السلوكية على الدول من خلال إعادة ترتيب البناء المجتمعي فيها مع صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 نوفمبر 1959م باعتماد إعلان حقوق الطفل الذي نادى على أنه يحق للطفل التمتع بطفولته وبجميع حقوقه المقررة في هذا الإعلان بلا استثناء ودون أي تفريق أو تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو الدين كالحرية والكرامة والضمان الاجتماعي والحق في التعليم والحماية من صور الإهمال والقصوة، ولا مناص لما لهذا الإعلان من أهمية في وقف الممارسات التي تنتهك حق الطفل في أن يعيش طفولته أو استغلاله في العمل أو الاتجار بالبشر أو الجنس.

وعلى أثر هذا الاعلان أُبرمت اتفاقية الطفل التي تعتبر ضمن خضم تدخلات الدول الراعية للنظام الدولي الجديد في إعادة ترتيب القواعد الاجتماعية والأخلاقية في مجتمعات الدول، وإذ تقوم هذه الاتفاقية على المبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة، التي تشكل الاعتراف بالكرامة المتأصلة لجميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية وغير القابلة للتصرف، إذ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفى العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان، الذين يقومان على مبدأ أن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات الواردة في تلك الصكوك، وعلى أن تضمن الدول الأطراف عدم فصل الطفل عن والديه، إلا عندما تقرر السلطات المختصة، وهي تضع في اعتبارها أن الحاجة إلى توفير رعاية خاصة للطفل، ويعنى الطفل بموجب هذه الاتفاقية هو الانسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه.

وقد انضمت السلطنة إلى اتفاقية الطفل بموجب المرسوم السلطاني رقم (٥٤/ ٩٦) مع تحفظها على بعض الجزئيات وأهمها التحفظ على جميع أحكام الاتفاقية التي لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية والتشريعات المعمول بها في السلطنة وبصفة خاصة الأحكام المتصلة بالتبني المنصوص عليها في المادة (٢١) منها، وكذلك  تعتبر السلطنة أن مفهوم المادة (٧) من الاتفاقية والخاصة بجنسية الطفل أنها تعني أن يكتسب الطفل المولود في السلطنة (من أبوين مجهولين) الجنسية العمانية، كما ينص على ذلك قانون الجنسية بالسلطنة، ولا تعتبر السلطنة ملزمة بما ورد بالمادة (١٤) من الاتفاقية التي تمنح الطفل الحق في اختيار ديانته، وكذلك المادة (٣٠) منها التي تمنح الطفل المنتمي إلى أقليات دينية الإجهار بدينه.

ولا مناص من الاعتراف بأن الاتفاقية قد أرست بعض القواعد الجيدة في حماية الطفل من المعاملة التعسفية والتمييز وغيرها المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، إلا أن هناك منها ما يتعارض معها، والتي تفرض على الدول بمنح الطفل الحرية المطلقة بما فيها حرية اختيار الدين والسلوك، وكذلك أن كانت الوسيلة المتبعة في مجتمعاتنا في المجال التربوي تهدف الى تقويم سلوك الطفل من خلال العقاب الجسدي، الذي قد يفضي الى تعنيف الطفل مشكلة بذلك جرائم العنف المجرمة بموجب قانون الطفل  كالاستخدام المتعمد للقوة أو القدرة البدنية من قبل فرد أو جماعة ضد طفل أو تهديده باستعمالها، ويكون من شأن ذلك إلحاق ضرر فعلي أو محتمل به.

ولئن كان قانون الجزاء العماني يعتبر حق التأديب للإبن ليس مُجَرَّماً في حدود معينة وفق ما نصت عليه المادة (٤٤) منه على أنه “لا جريمة إذا وقع الفعل بحسن نية استعمالاً لحق أو قياماً بواجب مقرَّرَيْن بمقتضى القانون، ويُعَدُّ استعمالاً للحق: أ – تأديب الآباء ومن في حكمهم للأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً.

إن هذا النص يُعَدُّ عذراً معفياً من جرائم الاعتداء المنصوص عليها في قانون الجزاء العماني في حالة إذا كانت أفعال الاعتداء تدخل ضمن أفعال تأديب القاصر في الحدود المقررة شرعاً وقانوناً، فإن الحدود المقررة في ذلك بحسب ما ذهب إليه الفقه الإسلامي والقانوني بأن لا تؤدي أفعال التأديب إلى إلحاق ضرر جسيم بجسد القاصر من شأنها أن تحدث له عَجْزاً مستديماً أو تعَطُّلاً في بعض حواسه وقدراته الجسدية.

ولهذا فإن التوجه التشريعي بالسلطنة وفق النص المشار إليه في قانون الجزاء العماني قد راعى القيم والأخلاق التربوية في المجتمع العماني المتمثل أن يكون لولي القاصر دور في تربيته وتنشئته، ونثني على المشرع العماني الحكيم بما أخذ به في قانون الطفل والتحفظات التي أوردها على اتفاقية الطفل بمرسوم الانضمام إليها لتنافيها مع قيم وتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وكذلك لا مهرب بأن يكون للمجتمع الدور الرئيس في حماية الأسرة وأفرادها من المهددات القادمة التي يروج لها كثيرا في أي مناسبة أو محفل عالمي كالترويج للمثلية والحركات النسوية التي تهدف في حقيقتها إلى تدمير الفرد والأسرة التي هي دعائم بناء وقوة المجتمع.

تعليق واحد

اترك رداً على صالح بن ناصر بن حمدان الخنبشي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى