بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

لا تكن مثلَ آباء الهليكوبتر..

الدكتور/ محمد بن ناصر الصوافي

 

لا تكن مثلَ آباء الهليكوبتر..

 

الهليكوبتر : هي طائرة تتميز بوجود مراوح تدور أثناء طيرانها؛ مما يسمح لها بالنزول بطريقة عمودية، وأهم ميزة لها هي مقدرتها على الوقوف في أي مكان دون الحاجة إلى مطار أو مدرج؛ مما يتيح لها الوصول لأماكن مكتظة أو منقطعة، لا يمكن للطائرة ذات الجناح الثابت فعل ذلك، وتسمى أيضًا بالطائرة العمودية أو الحوامة. 

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما علاقة الهليكوبتر بتربية الأبناء ؟؟..

دما يكون الأهل حاضرين في حياة طفلهم، ويخوضون المعارك بدلًا منه فلا يمنحونه فرصة الدفاع عن نفسه، ويغالون في الحَوم فوق الطفل كطائرة الهليكوبتر، ويتدخلون في حياته بطريقة مفرطة، تمنعه من تنمية مهارات الاستقلال والحرية والاعتماد على النفس.

ومن أسباب اختيارنا لهذا الأسلوب في التربية أنه يؤدي إلى القلق والاكتئاب لدى الأطفال، وهذا ما أكدته دراسة نشرتها مجلة ” Journal of Child and Family Studies” والتي أُجريت في عام (2013) على ما يُقارب (300) طالب من طلاب الجامعات، كانت النتيجة أن الطلاب الذين كان آباؤهم يعاملونهم في التربية مثل الحوامة قد سجلوا مستويات مُرتفعة جدًا من الاكتئاب وعدم الرضا عن الحياة بشكل عام، بالإضافة إلى دراسات عدة أظهرت النتيجة ذاتها.

وقبل أن نعطي أمثلة على هليكوبتر التربية في حياتنا اليومية، لا يفوتنا أن نذكر أن هذا المصطلح أستخدم لأول مرة في التربية من قبل الدكتور “هايم جينوت” عام (1969م) في كتابه الذي حمل اسم “بين الآباء والمراهقين”، وبعدها أصبحت العبارة شائعة الاستخدام في التربية.   

ومن أمثلة “هليكوبتر التربية” :

حل الواجبات المدرسية الخاصة بالطفل نيابة عنه؛ خوفًا من خطأ الطفل في الإجابة، وبالتالي حرمانه من الحصول على درجات أفضل، ومن الأمثلة أيضًا اختيار الأصدقاء بدلا عنه، وإشراك الطفل في أنشطة معينة قد لا تتوافق مع ميوله من دون أخذ رأيه، وكذا عندما يتعثر الطفل ذي الثلاثة أعوام ويقع أرضًا بعد ملامسته لطرف الفراش تهرول الأم لتساعده على النهوض رغم عدم إصابة الطفل وقدرته على النهوض بنفسه.

ومن صور الحقيقة أيضًا لهذا النوع من التربية :

عدم السماح للطفل أن يلعب بمفرده نهائيًا، فلا يشجع الطفل على الاستقلال بطريقة تلائم نموه وتطوره الطبيعي، وقد تمتد هذه الطريقة الخاطئة في التربية حتى سن متقدم من حياة الأبناء، مثل: اختيار المواد الدراسية بدلًا عنهم، والتواصل مع الأساتذة في المرحلة الجامعية للحديث عن مستواهم ودرجاتهم والمبالغة في ذلك، والتدخل في حل المشكلات والنزاعات بينهم وبين أصدقائهم وزملائهم في الدراسة أو العمل، ورفض حل مشكلاتهم الخاصة بأنفسهم وتقديم الحلول بدلاً عنه.   

ومن هنا جاءت عبارة “آباء الهليكوبتر” للإشارة إلى الآباء الذين يسبحون باستمرار في فلك الطفل كمروحة الهليكوبتر، ويراقبون حياته ويحاولون التحكم بكل كبيرة وصغيرة فيها، وحرمانه من الاستقلال، ولذة المحاولة والخطأ.

وقد أطلعت على دراسة منشورة في الشبكة العنكبوتية صادرة عن جامعة فلوريدا عام (2016م) أكدت أن الأطفال الذين يتعرضون لتلك النوعية من التربية؛ هم الأكثر عرضة للمشاكلات الصحية عند وصولهم لمرحلة البلوغ، إذ خَلَصْت هذه الدراسة أن هؤلاء الأطفال لم يتعلموا كيفية الاعتناء بأنفسهم وصحتهم؛ وهذا لأن  آباءهم يتولون تلك المهام نيابةً عنهم، وينظمون كل شيء دون أن يعلِّموهم إياه؛ وكأنها رغبة دفينة لديهم بأن يظل الطفل معتمدًا عليهم طوال حياتهم، والأمر الأكثر خطورة هو عدم قدرة الأبناء على تنظيم عواطفهم وتكوين انطباعاتهم الخاصة؛ ومع الوقت فهم يغضبون مما يُغضب والديهم ويسعدون بما يسعدهم؛ فيكبر هذا الطفل دون أن تكون له هوية مستقلة عاطفياً أو شخصيًا.

ما المسوغات التي تدفع الآباء إلى استخدام هذه الاستراتيجية ؟..

1- سعي الآباء لتعويض إخفاقاتهم في مجال ما من خلال أبنائهم، فيحاولون دفع الأبناء إلى طريق أخفقوا في الوصول إليه في حياتهم، فيجعلون من أبنائهم دمى تمشي بدلًا منهم في الطريق نفسه الذي لم يتمكنوا من السير فيه.

2- الاعتقاد السائد لدى بعض الآباء أن الأبناء هم أحد أملاكهم الشخصية الخاصة؛ مما يترتب عليه التسلط المطلق والتحكم الصارم في شتى شؤون حياتهم، واتخاذ القرارات بدلا عنهم.

3- خوف الآباء من شعور أبنائهم بخيبة الأمل أو الفشل في أي عمل يقومون به، فيصنع الآباء هالة تحمي أطفالهم من السعي إلى الاستقلال، وفرصة التعلم عن طريق المحاولة والخطأ.

4- افتقاد الآباء للشعور بالحب والاهتمام في صغرهم، فيسعون إلى تجنيب أبنائهم الشعور ذاته، وتعويضهم بفرض سيطرة كاملة عليهم.

5- أسباب أو ظروف خاصة بالطفل مثل: إذا كان وحيدًا، أو إذا أُنجب بعد فترة طويلة من الزواج، أو إذا كان الصبي وحيدًا بين بنات، أو العكس.

وفي الختام نقدم مجموعة من النصائح والإرشادات تقينا من أن نكون من (آباء الهليكوبتر) :

  • أترك طفلك يخوض بعض التجارب بشكل مستقل، ويتكيف مع الوسط المحيط به، مع تقليل المخاطر المحيطة به قدر الإمكان.
  • دع طفلك يختار بعض القرارات -التي لا تمثل خطر عليه- بنفسه، وأن يتحمل المسؤولية المترتبة عن قراره.
  • إغرس معنى المسؤولية لدى طفلك في سن مبكر؛ حتى تصبح سجية من سجاياه، وسلوكًا تلقائيًا.
  • لا بأس أن تتسخ ملابس الطفل في بعض المواقف، أو أن يقع على الأرض، مقابل أن ترقى ذاته، ويتعلم الاعتماد على نفسه، والاستقلالية عن والديه.
  • شجع طفلك على اكتشاف العالم من حوله في جو آمن ومسؤول، لأن خوف الآباء المبالغ فيه قد يفوت على الطفل فرصة ثمينة لتطوير وتنمية مهارات ضرورية لا يستغني عنها مستقبلًا.

مع نهاية هذا المقال أذكر هنا بالمناسبة إحدى العبارات المشهورة في هذا المجال : “بصفتنا آباء، نميل إلى الإفراط في حماية الطفل، فلا بأس أن نحاول أن نظهر جميعًا الإيجابيات، ولكن لا يمكننا أن ننسى أن العالم الحقيقي لديه أسنان”.

تعليق واحد

اترك رداً على احمد البلوشي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى