بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

عاصـفـة محـمّـلة بالشَّـلـل..

عـبـدالله الفـارسـي

 

عاصـفـة محـمّـلة بالشَّـلـل..

 

منذ ثلاث سنوات وربما اكثر يقتحمني شعور بالتبلد. 

يغزوني في مواسم معينة وفي أجواء ومناخات متكررة كعواصف رملية عاتية .

احيانا يطول هذا الشعور فيجثم على صدري وعقلي زمنا طويلا ومملا اخاله ابديا .

ونادرا ما يقصر هذا الشعور القاتم ويتلاشى بسرعة عجيية  .

حاليا انا مصاب بهذا النوبة الحادة من الشلل .. إنني غارق في هذا الشعور التبلدي العنيف .

يخيم على قلبي شعورا عاما بالتبلد الكامل. 

شعور مغبر يحقنني ببرودة الحماس للحياة .

يجعلني لا أرغب فيها مكتفيا بما اخذته منها غير متطلع ولا شغوف بما سيأتي منها.

كنت قبل سنوات اتطلع إلى أشياء كثيرة.. أشياء مزركشة وجميلة .

كنت راغبا في الاستمرار واللهث إلى تحقيق غايات معينة والقبض على أشياء معنوية ومادية عديدة .

كنت بانيا أحلاما طويلة 

ناسجا أمانٍ عريضة.

حاليا اختفت كل تلك الرغبات وانطفأت كل تلك الأحلام .. وجفت كل كل الآبار و الأفلاج و العيون .

وكأن ريحا عاتية كنستها من صدري واقتلعتها من روحي.

حاليا لا أملك تلك الرغبة الحارقة  الجارفة في الحياة ولا احتفظ بذلك الشعور الصاخب نحوها. 

لا أسعى لتلك الأحلام ولا أشتهي تلك الاماني. 

لا أعرف يقينا ما الذي حدث معي بالضبط. 

لا أعلم ما الذي انطفأ في داخلي فأغرقني في العتمة والقاني في هذا الظلام  .

رغم بركة هذه الايام وإيمانياتها المشعة إلا أنني لا أشعر بالنور .. ولا أرى الضياء ولا أشعر بوهج الحياة ودغدغاتها وقشعريرتها الندية. 

لا أعرف أي خلية من خلايا دماغي أصابها التلف .. لا أعرف اي جزء من جمجمتي ضربه العطب .

هل وصلت مبكراً جداً إلى مرحلة الإكتفاء الروحي من الحياة وما فيها ؟؟

أم هو مجرد تبلد نفسي موسمي وصدود عاطفي  صيفي عن مباهج الحياة ..؟؟

أم هي نقطة النهاية التي يصل إليها العقل اللاهث 

وتعانقها الروح المنهكة ؟؟.

كل الذي أشعر به الآن في هذه اللحظة هو الانطفاء الكلي من الرغبة في التحرك والمضي قدما إلى الإمام  …

لا أملك أية رغبة في النهوض والقفز والطيران. 

أنهض من نومي لأصلي ولولا وخزة الصلاة لما نهضت. 

أنهض صباحا بدافع العمل .. ولولا فريضة العمل لما نهضت. 

أدخل المطبخ بدافع الجوع .. ولولا غريزة الجوع لما أكلت .

لقد فقدت كل الأفعال التي يجللها العمل ..

لقد انطفأت كل الشموع التي تغمر الروح بالدافعية والشغف والانطلاق .

هذا طبعا ليس تشاؤما.. لا  إنه حالة نفسية غريبة مبهمة . 

إنها حالة لها رائحة التشاؤم ونكهة اليأس وملمس الإحباط وملامح الانطفاء. 

إنها حالة موسمية جافة حارقة مدمرة  .

إنه موسم انتشار الجراد في حقولي والذي يلتهم كل اغصاني وازهاري وأعشابي ؛ فيحيل أرضي الى أرض سبخة وبقعة يباب. 

هل أوضاع العالم وتعاساته تساهم في تأجيج هذا الجفاف في صدري وإشعاله..

هل أحوال اليمن الحبيب والعراق العزيز وسوريا العظيمة وليبيا العزيزة وفلسطين الشريفة لها دور في إغراقي بهذا التبلد وتغرق روحي بهذا الانحسار والجفاف واليبس ؟؟.

هل كورونا واغتيالاته له سهم في هذه الموجة البائسة التي تعصف بالفؤاد وتقتلع الحياة من صدري ؟؟.

لا أدري لماذا يقتحمني تفكير دائماً بالهروب والاختفاء واحيانا يغزوني شغف إلى النهاية ولإنتهاء…

لماذا أشعر دائما بالاكتفاء والشبع من الحياة . الاكتفاء من العيش .. الاكتفاء من الوقوف .

هل شبعت حتى التخمة من الحياة ليراودني هذا الشعور ويقتحمني في كل ليلة   ..؟؟

أحيانا أسأل نفسي :

ما الجدوى من حياتي ؟؟

هل هناك شيء جميل ينتظرني ؟؟

كم سنة سأعيش بعد الخمسين هذه التي أترنح فيها منذ أربع سنوات ؟؟

هل هناك جمال يختبئ في مستقبلي ويندس بين ثنايا أيامي القادمة؟ ؟

هل هناك أيام سعيدة بهيجة تقف في المحطة البعيدة القادمة تنتظرني وترقب وصولي ؟؟.

هل هناك سعادة قادمة ؟؟.

هل هناك فرحة مختبئة ؟؟.

هل هناك متعة منتظرة ؟؟.

وأي نوع من السعادة هذه التي تنتظرني في المحطة البعيدة القادمة ؟؟.

ما شكلها ؟؟.

ما طعمها ؟؟.

كيف هي رائحتها ونكهتها ؟؟.

وهل روحي قادرة على عناقها وامتصاصها ؟؟.

هل جهازي العصبي جاهزا لاستيعابها وهضمها وتحويلها إلى ضحكات ورقصات ومرح وابتهاجات..؟؟

لماذا أشعر بأن هذه الحياة كذبة كبيرة سمجة ؟ ؟

لماذا أعتقد جازما بأن هذه الحياة كذبة سخيفة بائسة؟ ؟

متى سأتحرر منها ؟؟ متى ستظهر الحقيقة وتتضح الصورة ؟؟.

لماذا أشعر بأن كل الأيام متشابهة ؟؟.

نفس الأصوات نفس الروائح نفس الأنفاس ونفس الأكاذيب ونفس السخافات تتكرر كل يوم ؟؟.

إنها حلقة مفرغة خانقة من الاكاذيب والتفاهات والسخف اليومي الطازج.

يتكرر أمامي يوميا.

هل خلقت لأعيش هذه الكذبة العظيمة ببطء ؟؟.

هل خلقت لتقتلني هذه الكذبة ببطء وتمهل وهدوء ؟؟.

هل وجدت لأعيش هذه الكذبة وأتجرع تفاهاتها جرعة جرعة ؟؟.

هل في الموت نهاية سعيدة مريحة ؟؟.

لماذا أحيانا أحسد الأموات على موتهم ؟؟.

لماذا يرحل الطيبين بسرعة كبيرة ؟؟.

لماذا يختفي الرائعون قبل أن نستمتع بروعتهم وجمالهم ؟؟.

ولماذا يبقى الشياطين والأبالسة يجثمون فوق صدورنا دهورا طويلة ؟؟.

آآه .. يا لها من ذاكرة مؤلمة تؤلم صدري وتمزق نياط قلبي.

كم تمنيت أن استيقظ بدون ذاكرة ..

كم تمنيت أن استيقظ وانا ممسوح الذاكرة ..

لا أعرف شيئا عن الحياة ..

ولا اعرف الوجوه ولا أميز العيون والسحنات والأشخاص ..

كم تمنيت أن أعيش فاقداً الوعي  

هذا الوعي اللعين الذي يجلدني. 

هذا الوعي المتكبر المتغطرس الذي يقتحم صدري ويعبئ روحي بالسواد والعتمة ..

روحي المخنوقة المتدلية على مشنقة الحياة ..

انها تتنفس بصعوبة ..

إنها تجدف ضد تيار عنيف ..

إنها تتألم وكأنها تحاول الخروج والهروب والانعتاق والتفلت من عقالها.

لا أشعر بأي رغبة للمضي والمشي والاستمرار.

إنني أجر نفسي جرا لأنهض وأتحرك.

ولكنني لا أستطيع أن أموت.

لا أستطيع أن اقتحم الموت.

لست شجاعا وباسلا بما يكفي لاقتحام أسوار الموت الحادة الشائكة.

رغم كراهيتي الحياة لكني لا أملك ملغماً واحداً  من الشجاعة للتوجه إلى الموت واقتحامه.

مهما كانت مشاعرنا غاضبة ساخطة نحو الحياة يظل الموت مرعبا ومفزعا ولا ممكنا. 

لذلك .. انا مضطر أن اعيش دون دفاعية دون رغبة دون شهية ..

أنا مضطر أن آكل دون شهية .. وان اضحك دون شهية وان اعيش دون شهية وان اكمل الطريق دون شهية .. فأنا واحد من مليارات البشر الذين عاشوا ويعيشون الحياة دون شهية ..

ولكن يظل هناك سؤال يقرع جمجمتي الصلبة آناء الليل وأطراف النهار.

سؤال مزعج ملح ومثير للدهشة: 

هل هناك شهية قادمة ستفتح شهيتي للحياة ؟؟.

هل هناك سعادة قادمة ستلقي بذورها في تربة القلب لتنبت فرحا وبهجة وضحكا وسرورا في مواسم المطر والغيث والهطول ؟؟.

لست أدري ..!!

ولكني مازلت احتفظ بتفاؤل ضئيل خافت وخجول بأن مواسم الجفاف لا تدوم إلى الأبد.

وأن السحب الكثيفة لا يمكنها أن تحبس المطر !!.

تعليق واحد

  1. سأكتب هذا التعليق وانا اراجع ملاحظي التي كتبتها اثناء قرائتي لكتاب (في السعادة: رحلة فلسفية) لفريدريك رينوار، ترجمة خلدون النبواتي.

    رغم أن البحث عن السعادة هي هدفنا، بل انه حق من حقوقنا، كما تنص على ذلك دساتير بعض الدول، مثل الدستور الامريكي، إلا أن السعادة بصفتها (المرح والفرح والضحك) غالبا ما تمر بسرعة ولا نشعر بها. يقول الشاعر جاك بريفير: (أدركت أن هناك كانت سعادة من الفوضى التي تركتها حين ذهبت). أما الشعراء الرومانسيون فقد جعلوا الكئابة والحزن أرقى وأعلى منزلة وأنبل من السعادة التي اعتبروها أجدر بالمعتوهين، وحذا حذوهم بعض الفلاسفة. يبقى أن ندرك أن السعادة، ربما، هي غياب المشاعر السلبية والالام الجسدية. هي فقط ذلك الادراك بأننا بخير، أو لا بأس بنا. لدينا ماء نظيف لنشرب، انظر كم هو نقي!! أو كما قال محمود عبد الوهاب (وهذه ليست من كتاب فريدريك رينوار): (شعرية العمر هي في ديمومة الدهشة، وهي الشباب الذي لا يشيخ، …. ومن هنا، ما لم يخضع العمر لقانون الشعرية بهذا المعنى، فإن المرء سيتثاءب حياته ويبصقها من الضجر.)

اترك رداً على سامي عادل البدري إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى