بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حين يُعاد تعريف الثروة

ياسمين عبدالمحسن إبراهيم

المدير التنفيذي لشركة رواق الابتكار
مدربة في مجال اكتشاف وتطوير المهارات
مهتمة بمجال تطوير الأعمال

 

قال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: “إذا كنت تخطط لعام، فازرع الأرز، وإذا كنت تخطط لعقد، فازرع الأشجار، وإذا كنت تخطط لقرن، فاستثمر في الإنسان”.

يعد الاستثمار في الإنسان حجر الأساس لبقاء هذه الحياة، فمهما تسارعت مجريات الحياة، مهما بلغ من التطور والابتكار، سيبقى الإنسان هو العنصر الرئيسي الدائم لاستمرارية هذه الأرض، فهو من يفكر، ويبتكر، ويصنع، ويخترع، حتى وإن جاءته اختراعاته بديله لبعض مهامه، سيبقى الإنسان هو من يدير كافة الحياة إلى مرساها الأخير.

الاستثمار في البشر هو المحرك الأساسي للنمو والازدهار. فالدول التي تدرك أن ثروتها الحقيقية تكمن في عقول وسواعد مواطنيها والمقيمين على أراضيها؛ هي التي تتصدر مشهد التقدم، بينما تتخلف تلك التي تركز فقط على الثروات المادية.

الاستثمار في الإنسان ليس رفاهية، بل هو ضرورة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة، حيث يُعد التعليم، والصحة، والتدريب، والتمكين الاقتصادي الركائز الأساسية لبناء مجتمعات قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.
يتجاوز مفهوم الاستثمار في البشر مجرد تحسين جودة الحياة للأفراد، فهو استثمار طويل الأمد يعود بالنفع على المجتمع ككل.

عندما تُوجه الموارد نحو تطوير المهارات، وتعزيز القدرات، وخلق بيئات عمل محفزة، فإن النتائج تنعكس في زيادة الإنتاجية، ورفع معدلات الابتكار، وتقليل البطالة، وتحقيق التماسك الاجتماعي.

تشير دراسات البنك الدولي إلى أن كل دولار يُستثمر في التعليم والتدريب يحقق عوائد اقتصادية تفوق عدة أضعاف قيمته، إذ يسهم في خلق قوة عاملة مؤهلة تساهم بفعالية في الاقتصاد الوطني. على سبيل المثال، الدول التي استثمرت بشكل مكثف في رأس المال البشري، مثل سنغافورة وفنلندا، نجحت في بناء اقتصادات قائمة على المعرفة والإبداع، مما جعلها نماذج عالمية في التنمية المستدام، وجاءت سلطنة عمان لتكون في مصاف الدول المتقدمة التي تولي كل الاهتمام بالإنسان حيث تتبنى رؤية عُمان 2040 نهجًا استراتيجيًا يركز على بناء رأس مال بشري متقدم، باعتباره حجر الأساس لتحقيق التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي.

وتركز الرؤية على تعزيز مهارات العمانيين والمقيمين على أراضيها، وتحسين جودة التعليم والصحة، ودعم ريادة الأعمال، بما يضمن اندماجهم الفعّال في الاقتصاد الرقمي العالمي.

الاستثمار في البشر : رؤية استراتيجية
التعليم والتأهيل : حجر الأساس للتنمية
التعليم هو الأساس الذي يُبنى عليه الاستثمار في الإنسان.
فهو لا يقتصر على المناهج الأكاديمية، بل يشمل التدريب المهني، والتعليم المستمر، وتنمية المهارات الرقمية والتكنولوجية التي تتطلبها أسواق العمل الحديثة.
إن بناء أنظمة تعليمية مرنة ومبتكرة، تعتمد على التكنولوجيا والبحث العلمي، يعزز من قدرة الأفراد على التكيف مع التغيرات السريعة في بيئة العمل.
في فنلندا: تعتمد على نموذج تعليمي متكامل يركز على الإبداع والاستقلالية، مما جعلها من الدول الرائدة في جودة التعليم عالميًا.

سنغافورة: تستثمر بشكل مكثف في التعليم التقني والمهني، مما جعلها مركزًا عالميًا للابتكار والتكنولوجيا.
كما تسعى رؤية عمان 2040 إلى تحسين جودة التعليم وربطه باحتياجات سوق العمل، من خلال تطوير مناهج تعليمية حديثة، وتعزيز التعليم التقني والمهني، والاستثمار في البحث العلمي والابتكار، وإدخال التكنولوجيا في التعليم عبر التحول الرقمي في المدارس والجامعات، واعتماد أدوات الذكاء الاصطناعي والتعليم عن بُعد.

الصحة : قوة العمل المنتجة تبدأ من صحة جيدة

لا يمكن الحديث عن الاستثمار في البشر دون التركيز على الصحة. فالمجتمعات التي تتمتع بأنظمة صحية متطورة، قادرة على توفير بيئة عمل أكثر إنتاجية، وتقليل الأعباء الاقتصادية الناتجة عن الأمراض المزمنة.

ولعل جائحة كوفيد-19 كانت مثالًا واضحًا على أهمية الاستثمار في القطاع الصحي، حيث أدركت الدول أن الأنظمة الصحية القوية هي جزء لا يتجزأ من استقرارها الاقتصادي والاجتماعي.

ويعد استخدام التكنولوجيا في الطب: مثل الذكاء الاصطناعي في التشخيص، والطب عن بُعد، هو العامل الذي يوفر رعاية صحية أسرع وأكثر كفاءة.

وتركز رؤية عُمان 2040 على تطوير نظام صحي متكامل، يضمن الوصول إلى خدمات طبية عالية الجودة، مما يعزز الإنتاجية والكفاءة في سوق العمل، وتعزيز الصحة الوقائية والتأمين الصحي لتقليل العبء الصحي والاقتصادي على الأفراد والدولة.

التمكين الاقتصادي : من الموهبة إلى الإنتاج

تمكين الأفراد اقتصاديًا هو أحد أهم أوجه الاستثمار في البشر، إذ يشمل دعم ريادة الأعمال، وتوفير الفرص العادلة في سوق العمل، وتعزيز مشاركة المرأة والشباب في الأنشطة الاقتصادية.
إن بناء سياسات اقتصادية تدعم الابتكار وريادة الأعمال يخلق فرص عمل جديدة ويحفز الاقتصاد المحلي، مما ينعكس إيجابيًا على رفاهية المجتمع.

وجاءت سلطنة عمان برؤيتها العالمية لتضفي المزيد من التمكين لأصحاب المهارات والمبتكرين من خلال العديد من المبادرات منها:

(البرنامج الوطني لتنمية المهارات تنمية 2040)
يهدف إلى تطوير المهارات المستقبلية للعمانيين في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، وريادة الأعمال.

برنامج “اعتماد” لتطوير الكفاءات العمانية
مبادرة حكومية تهدف إلى تأهيل الكوادر الوطنية لقيادة المؤسسات الحكومية والخاصة.

أكاديمية الابتكار الصناعي
تهدف إلى دعم الباحثين عن عمل ورواد الأعمال في تطوير مشاريعهم من خلال الابتكار والتكنولوجيا.

مبادرة “رواد عمان” لدعم ريادة الأعمال
تستهدف تمكين الشباب العماني من إنشاء مشاريعهم الخاصة عبر تقديم تمويل، واستشارات، وبرامج تدريبية.

مبادرة “التدريب المقرون بالتوظيف” تهدف إلى تأهيل الباحثين عن عمل من خلال توفير دورات تدريبية متخصصة بالشراكة مع القطاع الخاص.

برنامج “عمان الرقمية” للتحول الرقمي
يركز على تمكين المواطنين رقميًا من خلال تدريبهم على المهارات الرقمية والتكنولوجية.

فالتحول الرقمي هو مفتاح المستقبل، وهو ما يجعل الاستثمار في المهارات الرقمية ضرورة حتمية.
يتطلب العصر الحالي قدرات في الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والأمن السيبراني، مما يستدعي برامج تعليمية حديثة تتناسب مع هذه الاحتياجات.

“جائزة الإجادة التربوية” لتحفيز التعليم والابتكار
تهدف إلى تحسين جودة التعليم من خلال تكريم المعلمين والمبدعين في المجال التربوي.

ماذا لو كان الإنسان مقيما في غير موطنه؟

يُعد الاستثمار في البشر مفهومًا شاملاً لا يقتصر على المواطنين فقط، بل يمتد ليشمل المقيمين والوافدين، الذين يشكلون جزءًا مهمًا من النسيج الاقتصادي والاجتماعي في أي دولة، فالاستثمار في المقيمين والوافدين جزءًا أساسيًا من التنمية المستدامة، حيث يسهم في تعزيز الاقتصاد، ونقل المعرفة، وخلق بيئة عمل تنافسية.

ومن خلال السياسات الحكيمة والمبادرات الداعمة، تواصل سلطنة عُمان تحقيق التوازن بين احتياجات سوق العمل وضمان حقوق، ويظهر ذلك جليا من خلال :
– تعزيز الكفاءة الإنتاجية : العمالة الوافدة تمتلك مهارات وخبرات متنوعة تساهم في تنمية القطاعات المختلفة.
– نقل المعرفة والخبرات : يسهم المقيمون في تبادل الخبرات مع القوى العاملة المحلية، مما يعزز التنمية المستدامة.
– تعزيز التنوع الثقافي والابتكار: يعمل التنوع في بيئات العمل على تعزيز الإبداع والابتكار من خلال تبادل الأفكار والخبرات المختلفة.

لم تكتف سلطنة عمان بتقديم الكثير من المبادرات للاستثمار في كوادرها الوطنية، ولكن شملت بفضلها وحكمة قائدها الرشيدة الوافدين والمقيمين فيها.
حيث تعمل سلطنة عُمان على توفير بيئة داعمة للمقيمين عبر عدة مبادرات.

العائد الاستثماري في البشر : نظرة مستقبلية

عندما تستثمر الدول والشركات في رأس المال البشري، فإنها لا تبني مجرد أفراد متعلمين أو موظفين أكفاء، بل تبني مجتمعًا قادرًا على الإبداع، والابتكار، والتكيف مع المستقبل. في ظل التحولات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحديثة، سيكون الرهان الحقيقي على الإنسان القادر على استيعاب هذه التغيرات وتحويلها إلى فرص للنمو والتقدم.

تشير التقارير إلى أن الدول التي تركز على الاستثمار في رأس المال البشري تحقق معدلات نمو اقتصادي تفوق غيرها بنسبة تصل إلى 30%؛ على سبيل المثال، دول مثل كوريا الجنوبية نجحت في تحويل اقتصادها من اقتصاد يعتمد على الصناعات التقليدية إلى اقتصاد معرفي متقدم بفضل استثماراتها الهائلة في التعليم والتكنولوجيا، وغيرها من النماذج الناجحة للدول التي تسعى باستراتيجية واضحة نحو مستقبل أفضل لشعوبها.

وفي الختام :

يبقى الاستثمار في البشر هو الرهان الوحيد الذي لا يخسر، فالمباني تنهار، والتقنيات تتقادم، والثروات تتبدد، لكن العقول تستنار، والمهارات التي تصقل، والقلوب التي تتعلم كيف تفهم وتتعاطف، هي التي تصنع الفريق الحقيقي في مسيرة الحضارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى