
“أم قيس” الأثرية شمال الأردن.. أيقونة تربط بين الماضي والحاضر
عمّان/ العُمانية/أصـــداء
إلى الشمال من العاصمة الأردنية عمّان، تفضي الطريق المتعرجة صعوداً إلى تلة خضراء تتربع فوقها مدينة أم قيس الأثرية، التي تتسم بإطلالة بانورامية ساحرة، تقود البصر نحو نهرَي اليرموك والأردن، ومرتفعات الجولان، وبحيرة طبريا.
وما إن تطأ قدم الزائر أرض المدينة حتى يطالع العبارة المنقوشة على حجَر الشاهد الذي ينتصب فوق قبر الشاعر القديم “أرابيوس”: “أيها المارّ من هنا، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فانٍ”.
تروي بقايا هذه المدينة الأثرية من أبنية ومسارح ومعابد وأعمدة وأسواق وشوارع ومقابر مزينة، حكايات أنتجتها الحضارات المتعاقبة التي سكنت الموقع منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وكانت أم قيس (إحدى مدن التحالف العشر “حلف الديكابولس” وكانت تمر بها القوافل التجارية)؛ صلة الوصل بين سوريا وفلسطين، وقد أطلق عليها العديد من الأسماء خلال الفترة الرومانية ومنها “أثينا الشرق”، و”جدارا” وتعني الحصن المنيع أو الجدار الحصين، وفي الفترة العثمانية سُميت “أم كيس”، المشتقة من الكلمة العثمانية “مكوس” وتعني الضرائب، نظراً لما تمتعت به المدينة من خيرات الأرض حيث توفر المياه واعتدال المناخ.
ومثّلت المدينة في عصور ازدهارها خلال الحقبتين اليونانية والرومانية موطناً للفلاسفة والشعراء، ونموذجاً للهندسة المعمارية المدهشة وبخاصة فيما يتعلق بأنظمة تخزين المياه ونقلها؛ فقد بنى الرومان في أم قيس وعلى طول الوادي جسراً يعتمد على الأقواس المبنية من الحجارة الجيرية، وتمتد فوقه قناة لنقل المياه عبر تقنيات فتحات التصريف، كما بنوا أنفاقاً وشبكات من الأقنية المبتكرة والموزعة بشكل هندسي مدروس لتلبّي احتياجات المدينة كافة، سواء للحياة المدنية فيها أو للزراعة.
إلى جانب ذلك، اعتنى سكان المدينة بحفر الآبار التي بلغ عددها أكثر من مائة بئر، استُخدمت لتجميع مياه الأمطار، وجميعها مطلية بطبقتين من القصارة لمنع تسرب المياه أو تلوثها، كما شُيّدت الخزانات البازلتية الكبيرة، منها ما اعتمد على مياه الأمطار ومنها ما اعتمد على تجميع الماء المنحدر للمدينة عبر قنوات التصريف.
وتضم أم قيس نفقاً من أطول الأنفاق في العالم، يتجاوز طوله 140 كليومتراً، ويُستخدم اليوم عنصر جذب لمحبي المغامرات، حيث يمكن عبور هذا النفق في رحلة استكشافية يتعرفون خلالها على إحدى عبقريات الحضارات القديمة.
ويتوسط أم قيس -كجميع حلف المدن العشر- مدرج روماني واسع مشيّد من الحجارة البازلتية الضخمة، وشارع أعمدة تنتهي بتاجيات حجرية مزينة بالنقوش، ويتوزع على جانبي شارع الأعمدة البناء الخاص بسبيل الحوريات وميدان سباق الخيل ومعبد “جوبيتر”، وكنيسة نصف دائرية، وكنيسة خماسية الأروقة تقع أسفلها المقبرة الملكية التي تضم ثمانية عشر قبراً ملكيّاً جميعها شُيدت من الحجارة البازلتية، وللمقبرة فتحتات يمر عبرها الهواء والضوء.
ويضم متحف الآثار في أم قيس مجموعة من اللوحات الفسيفسائية الملونة، وقطع الفخار والزجاج، والمسكوكات التي تمثل فترات مختلفة من حياة المدينة منها الرومانية والبيزنطية والإسلامية، وتنتصب على واجهات المتحف خزائن زجاجية منها ما خُصص للأسرجة والأقنعة والجرار متعددة الأحجام والتي كان السكان قديماً يستخدمونها لأغراض الحياة المتنوعة، وتعود في معظمها إلى الفترتين الهيلنستية والإسلامية، ومنها ما خُصص لعرض اللقى والآثار التي تم اكتشافها داخل المقابر التاريخية في المنطقة، ومنها ما يحتوي على التماثيل والأحجار البازلتية والكلسية ذات النقوش، وفي قاعة مفتوحة على الفضاء الخارجي بالمتحف يمكن للزائر رؤية التوابيت الحجرية، وتيجان الأعمدة، بالإضافة إلى بوابتين من الحجارة البازلتية والعديد من الأرضيات الفسيفسائية التي حافظت على نقوشها حتى اليوم.
وما تزال أم قيس مقصداً للسياح وأهالي المنطقة، حيث يقام بها العديد من الفعاليات والأنشطة الثقافية والفنية، وهو ما يبث فيها الحياة، ويجعلها أيقونة تربط بين ماضٍ سحيق وحاضر ينظر للمستقبل.