قصص ، رواياتمنوعات

رواية وادي الرمال .. الحلقة 38..

حـمــد الـنـاصــري

كاتـب و قـاص

 

رواية وادي الرمال .. الحلقة 38..

 

تحدث التاجر ساعد إلى السيدة وجون، قائلاً:

ـ التقيت بإبن عمك عّدار في رحلة العودة وأبلغني ، أنّ له رغبةً لزيارة قرية مجن التاريخية وأنه يسرّهُ أنْ يلتقي بإبْنة عمه مَعْن، وكما يبدو أنّ له شوقٌ ما يدفعه إليكِ.

تململت في جلستها، ثم أردفت:

ـ لكني أكره أنْ تأتي أُمّه معه فأنا لا أطيقها، هذا كل ما في الشُقة بيننا.
اسْند التاجر ساعد ظهره إلى وسادة واتكأ :

ـ مهما يكن .. فالزيارة مكسب وتغيير ، لعلّ نظرة اليوم تختلف عن الامس ، فإنْ غربت شمس اليوم ، أشرقت شمس الغد ، وستغيب شمسنا وستشرق مرة أخرى.. وهكذا هي الحياة في ديمومة لا تتوقف ، وذلك هو سرّ التكوين.!

مدّت نظرها إلى البعيد.. ثم استطردت:

ـ أمه إمرأة من الصَعب أنْ تتغيّر ، دائماً نظرتها بائسة ، فالمَكاسب لديها بكل صُنوفها وأنواعها هي أساس المُعادلة .؛ فقولها مثلا ، أن الحياة لا تُفرق بين خطأها وصوابها ، بينما المكسب منفعة والتفكير به ربح والكسب لا يُراعىَ مشاعر الآخرين ، وثقة الكاسِب بنفسه نجاح ، والنجاح ما كان ليحصل لو تعاطفنا مع الآخرين؛

أنا طبعا أختلف معها وبيننا تباين واضح حتى وإن بدتْ قريبة مني، فأنا اعتبر المكسب قيمة وخدمة ، قيمة ينتفع به طرفا العلاقة وخدمة يتحصّل عليها الطرفان بالجهد والخبرة والمال.؛ وذلك المكسب إنْ خلا من سلامة التفكير فإنّ بقية المُعادلة هي الجهد والخبرة ـ قد تكون محدودة البقاء او مشحونة بالأنانية ، وطالما تصادمت معها شأن تلك المُعادلة ، فحب المال غريزة متأصلة في ذات الانسان لكنها ثقافة قابلة للترويض ويُمكن أنْ تتغيّر بفعل الانسان نفسه.؛ وهي علاقة بها قيمة وخدمة ، ومن دونهما لا ينتفع بها الانسان.؛

فمثلاً، حُبّ الذات غريزة ، وتعميقها أنانية وثقافة الانانية تكتسب من البيئة وحب المال أيضاً مُكتسب ، وما يُكتسب يتغيّر ، وما يتغيّر ، يكون على علاقة بالقيمة والخدمة.

كحال الاعتقاد والايمان ،فهما يتولّدان وفق ثقافة اكتسبها الانسان بالتجربة والمعرفة ومن خلالهما يتحدّد أسلوب وتعامل الانسان ، والفِكْر مَنبعه المعرفة المُكتسبة ، والمعرفة مهما ارتقت لا بُدّ وأنْ تُصاحبها مُنحنيات تصحيحية ، إضافة إلى تطور الإدراك والوعي ولهما مُستويات تنمو وتتطور بقدر حجم ومساحة التجارب ، والمعرفة تأتي عن طريق التأمّل والتفكير العميقين.

سكتت وفي داخلها حديث تخشى أنْ يُستخدم ضدّها كنقطة ضعف ، وتمتمت بحديث لنفسها ، واقع الحال يُؤكد أنه ليس من الضرورة بمكان ، أنْ يطّلع على فلسفة أفكاري أحد.؛

لا تزال عيناها في عيني ساعد .. تكاد تُظهر ما تُخفيه في نفسها .. ثم اتّبعتها بتنهيدة ..وقد غيّرت حديثها إلى ابن عمها ، ليت عدّار تتغيّر نظرته ، فنكون معاً في القرية التاريخية.. مجن الكبرى.؛ تُرى ، مَن يستطيع تغييره إنْ وجدّته على ما هو عليه.؟

توقفت قليلا وسرحت بعيداً ثم استطردت ولا يزال حديثها مع نفسها قائماً :

ـ ما اهتمّ به هو الوصول إلى البحر العميق وبحر الظلام.؛ ثمّ يكون الوادي والرمال والقريتان والسواحل وبحر الظلام في قبضتي.؛ لا بُد وأنْ تتحقّق سيرتنا الاولى ، لتستمرّ صفحات مجن التاريخية الكبرى نقيّة باقية وعامرة .

هزّت رأسها وتحرّكت يمينا وشمالاً ثم التفتت إلى التاجر ساعد :

ـ هناك من يستحق أنْ يطول الحديث معه ، وهناك مَن لا يستحق العَناء أبدا.؟ أليس كذلك.؟

قال رجل بجرأة شديدة كان قادماً لتوّه من قرية الوادي وحضر جلسة الحوار التي ترأسته السيدة وجون في قلعة مجن الكبرى:

ـ سيدتي .. اسمحي لي أنْ أقول ما أعلمه عن حكاية أبيك وعمّك سدح ، ومن باب الأمانة ، أنا أحد الفارّين عن أبيك مَعْن وعمّك سدح ؛ اشتغلت مُخبراً لعمك سدح بدعم وتأييد مِن أبيهما عُون السداح ، لكوني أقرب الناس إلى الاخوين مَعن وسدح ، وكلاهما وثق بي.

وذات مرة عاتبني عمّك سدح عِتاباً فيه شدة ووبّخني كطفل، وتطاول عليّ وقد وكزني بضربة أوجعتني وشعرتُ بألمها ، وأقسمت بأني سألحق الضرر به.. وقد فعلتها ، نعم فعلتها وكنت يومها من الموثوق به، وعملتُ مُخبراً للكاهن مَعْن السدّاح ، ووقفتُ بصلابة بلا خوف ولا جزع، وادّعيت رغم وجع الضربة بأني وفيّ لعمك سدح ومُخلص لجدك عُون السداح وأمين لأبيك مَعْن. وثلاثتهم كانوا يثقون بي.

وبعد أيام معدودة ، تحقق الهدف ، فتعرّضت تجارة عمك سدح وأبيه عُون إلى خسارة مُوجعة ، كانت الأشدّ وجعاً من الضربة التي وكزني بها.

فقد اتفقت مع تُجار لهم قوافل سائرة وغادية لا تتوقف ، وحاصروا تجارة عائلة السداح ومَنعوا وصولها في وقتها ، مما أدّى إلى فساد كثير منها وتلك أكبر خسارة مُوجعة وأصابتهم بالخذلان.

وجئت لأبيك مَعْن الملك الذي يثق بي ، فهو يَعلم بأني كنت مُخبراً أميناً وهمستُ في أذنه :

ـ سيدي العظيم ، إن مجن الكبرى أهم ما نُفكر في بقائها ، ولا نُريدها أنْ تهوى ، كالقرى التي خلتْ من عتادها المَشيد ومُلكها التليد ، فأصبحت خاوية على عروشها ، وذكرت له قصة الرجال الذين أتوا على قرية كانت هادئة ، وتسببوا في إضعاف تجارتها فخسرت وكان نهايتها في قبضة الاشرار.

وطلبت منه أنْ يصدر قراراً يمنع تُجار مجن حمل تجارتهم الى خارج حدود القرية لفترة محدودة وهي الفترة التي تتزامن مع خروج تجارة عمكّ إلى المدينة القديمة ، وشرحت له العوائد المُستفادة من هذه الخطة ، وأنّ مردّ القرار سوف يوقع الضرر على تجارة أعداء قرية مجن ونتائجها ، وأنه سوف يَصْعب الوصول إلينا بسهولة ويُسر ، وبهذه الطريقة سوف يتزايد الطلب على تجارة مجن وستتوقف تجارة قرية الوادي ، وسيحدث تصادم بين تجار القرية القديمة وتجار الوادي ، وسيزيد الطلب على تجارتنا ، واسمح لي ، بأنْ أبلغ تُجّار القرية نيابة عنك ، بأنّ هؤلاء التجار لصوص وقطاع طرق ويجب ألا يتعامل أحد معهم .

قال الملك معن بضيق :

ـ لماذا ؟.

ـ فقلت ، سيدي ، أنا اهتمّ بتجارة مجن لتبقى مُستمرة ، وقرار المنع سوف يُساهم في رواج تجارتنا خارج الحدود في الأشهر المُتزامنة مع تجارة عمّك سدح.؛

فسمح لي سيدي الملك مَعْن وقال :

ـ على شرط أنْ تُخبرني بما تقوم به؛ وإلا أوجعتك بضربة قاسية .؟

ضحكت في سري .. وضَعت يدي إلى صدري ، ليطمئنّ ، وكانت تلك إشارة إلى رحابة الصَدر ، مُظهراً الامانة والوفاء إلى أبيك معن.؛

وأطلقتُ خبراً أكثر جُرأة ، فأقنعت عمك سدح ، بضربة موجعة لاقتصاد مجن ، فأبوك هو العدو التقليدي له ولأبيه عون السداح ، وأكدت لهما بأنّ مَعن هو سبب خسارة تجارتهما وما قرار المنع المُتزامن مع أشهر تجارتهم إلا ضربة مُوجعة تسَبّبت إلى إنْهيار تجارتهما وإلى خسارة كبيرة. ولا بدّ أنْ يتلقّى مَعن الضربة الاشد وجعاً.؛

قال عمك سدح وكان أبوه إلى جانبه:

ـ كيف .؟ وماذا يُمكن أنْ نفعل ، فنرد الصّاع صاعين.؟

ولكي يردوا الضربة المُوجعة لتجارة مجن ، قلت لهما :

ـ عليكما بإيصال فكرة إلى التجار بتفاصيل مكذوبة أنّ السيد مَعْن يُريد ايقاع الخسارة الكبرى كي تبقى كل القرى في قبضته ، فإنْ لم يفعلوا شيئاً ، فسوف تحدث مَعمعة اقتصادية يكون الخاسر فيها قريتهم الناشئة.؛

ولتأكيد قولي ، قلتُ ، نعم، هذه الفِعلة سوداء ولا تخلو من العُدوانية الشريرة.

قال جدك عون وهو يسحب نفسا، ويشعر بضيق :

ـ وماذا نفعل ، لكي تنتعش التجارة في الداخِل . نحن نخشى أنْ تبور تجارتنا وتكون علينا حسرة وخسارة كبيرة ، إنْ تعرّضت إلى نقص أو كساد ، فقد يُصاحب ذلك تدنّي في الانتاج وهبوط في الاسعار .. فالقوة الشرائية هي مَحصلتنا ، فلو صادف حالة البيع ركود فتلك هي الخسارة بل هي ضربة مُوجعة.

قلت له بعد تفكير مصطنع :

ـ عليكم بالمُواجهة الاكبر.؛ وهي اغْلاق كل منافذ تحرك التجارة إلى مجن سواء بالقرصنة البحرية او مُحاولة تعطيلها وتأخير بضاعتها عن طريق البر . ويعني ذلك كله ، كساد تجارة مجن الكبرى ، وتلك هي الخسارة المُوجعة وهي ردة فِعل أكثر إيلاماً من الخسارة نفسها.

وطمأنتهما بأنّي سأتولى اقْناع التجار بطريقتي ، بعد موافقتهما، وسأخبركما أولاً بأوّل ، فأنا أعمل معكما منذ زمن ، وتعرفونني جيداً.

نظر كل منهما في الآخر:

ـ ومعاً قالا .. كيف.؟

ـ وشرحت لهما الأسباب وجعلتهما مُوقنين ، بأنّ تحكّم تجارة البحر في أيديهما ، وهم عنها بعيد ، ولكن بلعبة ماكرة مني ، قلت لهما .. جميع السفن التجارية مُثبتة باسم مملكة مجن ، وعليهما الاطاحة بها في عرض البحر بالقرصنة ، ولن يسمحوا بإبْحار أو مُرور أية سفينة صغيرة او كبيرة تحمل بضائع او مُسافرين دون إذنٍ منهما مباشرة ، ليكونا الاقوى في تاريخ وادي الرمال ، فوافقا في الحال.

قاطعتهُ السيدة وجون بضيق وعيناها كالجمرة :

ـ كيف استطعت أنْ تقنعهم جميعاً بطرق مُختلفة وبأساليب مُلتوية ، وكيف استطعت أنْ تتقمّص تلك الادوار وتُمثلها بطريقة مُحكمة.؟

ـ أنا ابن القرية ، وعائلة السداح تثق بي إلى حد بعيد ، فيستحيل أنْ يَشك أحدهم بي ، فأنا أظهر الوُدّ والوفاء بطريقة غير عادية ، وأمْلك الاسرار ولا أبوح بها وانزعها كيف أشاء وأقدمها لمن أشاء.؟

سكت وبقي مُتجهما صلباً واردف :

ـ ليتك تعلمين اكثر من ذلك.؟

ـ ماذا لديك .. هات .. تفضل..؟

ـ كُنت أنا الرشيد في عائلة مَعن السداح ، وكنت سبباً رئيساً في تمكين انتقال قداسة المعبد إلى من يستحقها ، فكانت السيدة وجون هي من تستحقّ ، وهكذا هو فِعلي ورشادي ، وما ترينهُ الان ،يُؤكد قولي.

وبعين غاضبة لفتت انتباهه ، فتوجس خيفة منها ، وقال:

ـ كانت أمك ماجْنا ، من حيث عرفها الناس بأنها العظيمة من البلدة القديمة ، وكانت مُخلصة لأبيك ، ولذلك وصفها أبيك وصفاً يليق بحبها ويليق بإخلاصها لأبيك.

سكت وبدّل كلامه بطريقة فهمته السيدة وجون .. ولكنها تركته حتى لا يظن بها غير الظن الذي عرفها به:

ـ السيدة ماجْنا ، ذكية وفطنة، فقد أبْعدت سدح عن كهانة المعبد وقرّبت المعوشري بن مسيعيد ، وكان ساعد من ضِمْن المُجتمعين ، لم يَنتبه إليه ، يَسمع ويرى .. شَعرت السيدة ماجْنا بخيانة عمك لزوجها مَعن ، مَلك الرجال والقرية وتاج رؤوس نسائها ، ولأنها حصيفة فقد تنبأتْ بحدوث غدر بالقرية ، فعالجت الامر باسْتئصال رأس المشكلة عون السداح. ومن ورائه إبنه سدح بن عون. والمعوشري بن مسيعيد.

سكت ثم استأنف :

ـ ما زلتُ أردد مقولة السيّد مَعْن ” الغدر صفة ذميمة ولن تجدها إلا في أنفس مُخادعة شريرة حتى وإنْ مَلّكتها كنز مجن.”؛ وأظنّ أنه كان يُشير إلى المعوشري بن مسيعيد.

وكان السيد معْن هو الكاهن الشريف والملك الاعظم ، استأصل رأس الأفعى وقطع رؤوس الغدر في قرية مجن بثلاثتهم . وحين اسْتشعر رأس الافعى عُون السداح وإبنه سدح بالخوف، وبن مسيعيد ، هربوا بثلاثتهم ليلاً مع أصحاب لهم وفرّوا هاربين في خِزي وعار ، تُلاحقهم عُقوبة الذلة والهوان ، وكان العيب يُلاحقهم إلى أطراف قرية الوادي، وقد سُررت بأبيك الملك العظيم ، و الكاهن الشريف سيدي مَعن ، فجعلني المُخبر الحصيف والوفي الرشيد والنقي الامين، فسرتُ مُتخفّياً ، أرقُب كل شيء، ولا تغيب عيناي عن أحد.

هزّتْ رأسها غضباً وقالت:

ـ من كشف هذه الحقيقة ، يستحق أشدّ الحذر ، فكما افتعل خطيئة افتتن بها رجال قرية مجن ، واقتتلوا وتفرّقت بهم سُبلهم ، وجعل الحق في ضَلال والصواب في بُهتان ، وحقق أهدافه ونفّذ أفكاره المُريبة ومارس نُكرانه لجميل سادته عائلة السدّاح، هو ما يتوجب قطع رأسه وفصله عن جسده ، استئصالاً للأسباب التي تعلمونها ، واشارت للرجال الذين أحاطوا بها ، من العدل الراشد ، أنْ نتبع سيرة أهْلنا ، سادة مملكة مجن الكبرى ، ونقتدي بهم ، فإنْ لم نفعل فنحن مُحاسبون على تصرفنا في تقويم الخطأ وبتر الايدي المُلطخة بدماء البشر.

اهتزّ عايد العائد إلى قريته وهو يستشعر الخطر بسبب خطأ جسيم وقع فيه ، وحدّث نفسه ، سيدة مجن الكبرى ، لن تدعهُ يمرّ دون عِقاب ، ولمّا أيقنَ أنه واقع في مَصيدة تاريخية لا ترحم، وأنه جنى على نفسه ، وأنه وقع في كمين نصبهُ بلسانه وها هو وقد افتضح ، والناس عليه شُهود، ولسانه لم يُخطئهُ، ومهما حاول إقناعها بالرُشد تارة وبالحصافة تارة أخرى ، لن يجد مُتسعاً لشرح ما بيده وما جاء به، وأنّ حديثاً كهذا آثمٌ عليه ، فقال مُستعطفاً إياها ومُعتذراً :

ـ يا ابنة عزتي وكرامتي ، إنّ الخطأ لواقع ، وأنّ النقص في الصفات الآدمية حاصلة ، وأن المُتربصين بي ، ولّدوا في داخلي الزلات، والاخطاء، فأنا كحال غيري من الناس خُلقت ضعيفاً .؛ فالعقاب شرّ مُحدق والمروءة شرف ومنزلة.

صرخت في رجالها :

ـ امسكوه ، اقبضوا عليه . كتّفوا يديه ورجليه ، واقطعوا رأسه وافصلوه عن جسده.

أخذت شمس الرمال تغيب في ضوء داكن غامض، فيملءُ الكون الظلام في كل بُقعة، لكأنّ كل شيء أخذ يَغرق.

يـتـبـع 39 ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى