قصص ، رواياتمنوعات

رواية وادي الرمال .. الحلقة 33..

حـمـد الـنـاصـري

كـاتـب و قـاص

 

رواية وادي الرمال .. الحلقة 33..

 

وفي اليوم التالي، وقف الجد الكبير أمام جمع من الناس، وكان يُحدثهم عن جمال الحياة وزينتها، فقال:

ـ اتركوا الأحداث والقصص والحكايات واستشعروا بعظمة وجودكم على الرمال؛

وأخذ يَنظر إلى السّماء البعيدة تارةً، ويمدّ عينيه في ارجاء فضاء السماء الواسعة.. وتمتم بصوت يكاد لا يُسمع:

ـ يا سماء وادي الرمال اجْعلي السعادة امتداد للقريتين واجعلي قرية الوادي نعيم مُقيم.؛

تعالتْ أصوات الباقين وكثُر همسهم، وكان في مُقدّمتهم رجل ذو رأس كبيرة وأنف عريضة ـ نهض الجد الكبير وتفرّق الرّجال ولم يبقى أحد في مكانه غير رجل لزم مُجالسة وليد وجماعة كانوا بصحبة السدّاح بقوا في أماكنهم، لم يُغادر منهم أحداً.

أخذ السدّاح يُحدّق في وليد بنظرات شَذْرا، لكأنّ في نيته الانتقام، وقد فطن وليد إلى تلك النية.. وأدرك الرجل الذي لزم مُجالسة وليد وتنبّأ في حدسه بأنّ خطأ سيقع لا محالة ، فأحنى رأسه خائفاً مُترقباً من المجهول، وهمس إليه ناصحاً بالانصراف حالاً، لكن وليد رفض الابتعاد عن الرجال وقال معبراً عن رفضه :

ـ لا اعتقد من المناسب أن اخذل الجمع الذين بقوا في مكانهم ووثقوا بنا ولم يُغادروا كما غادر غيرهم ، وأنا مُطمئن أنّ للأقدار مقاييس وأن همّي وتفكيري بوسيلة ، أستطيع من خلالها إخراجهم من بؤس الرجال وصَلفهم.

أصرّ عُون السدّاح بالبقاء على مكانة الجد الكبير، بلا خوف أو جزع؛ فقال بنفس وقحة مُنتقصاً من هيبة وليد ومكانته بين الرّجال:

ـ ذهب المُسالم بدماثته وأخلاقه الرّفيعة، وبقيَ سَليط اللسان، ليُؤذينا بها.؛

قال وليد وهو ينظر في المُتحلقين حوله وشرع يُحدثهم وكأنه يردّ على عُون السداح:

ـ كان جدي الكبير يَكره التّخاصم بين الناس رجالا ونساء ولا يُبغض أحداً. وخيبة الأمل لا مخرج منها.!

سحب عون السداح نفساً وقال:

ـ أيها الناس. أنتم الرجال الأشدّاء الذي نَعتد بهم، ابْتعدوا عن افكار وليد وسُلوكه المُتهورة في الوادي والرمال؟

وأي مُغامرة تقود إلى الحمق والجنون ، مُغامرة تافهة، لا قيمة لها غير التمرّد على قِيَم وتقاليد وادي الرمال.؛ فلا يشغلكم بمغامرة تافهة ، ولا تنشغلوا بمغامرة قاسية تُحمّلكم مسؤولية اندثار القِيم والموروث ، وتمحو ذكريات من عبق السنين وتتمرّد على تقاليد توارثناها.

مطّ بُوزه وأطلق ابتسامة تهكميّة:

ـ أفْكارك يا وليد، هَوجاء ولسانك أهوج. يُدهِش الناس وكلامك العجيب يُحرّك الساكن، لكنّا سنقف ضدّك ، ولنْ تجد من يَستجيب.؛

ومهما حاولت إدْهاشنا، فلن تُجْدي مَعنا فضاوة القول ولا تدفعنا إلى خُرافة ناقصة ولن نُصدق حديث خزعبلات ولو غازلت أفكارنا بتفاهاتك.؛

انسحب بعض الرجال و” عُون السدّاح” يُحدّث الناس، وكان إلى جانبه ولده سَدْح وحفيده ” عَدّار ” الذي هو أقرب الشبه بجده عُون، في ملامح وجهه ومشيته وسُلوكه.

همس أحد الرجال للذي بجانبه:

ـ يقولون أنّ “عائلة السداح” مشكوك في نسبها.؟

ـ أليست من الوادي.؟

ـ لا.. تاريخها مجهول؛ وذات مرة ذكرَها الجد الكبير ، وقال عنها ، عائلة عُون السداح ، تمتد إلى آرون الاعجم.؛

جاءا طلباً للحماية، استنجدوا بنا، فأعطاهم الجد الاكبر الأمان.. ومنذ ذلك اليوم، ظلوا في قرية الوادي، وأصبحوا جزءً من منظومة وادي الرمال.؛

وقف ابن السدّاح وقال مُخاطباً الرجال:

ـ المُتغطرسون لا نُقيم لهم وزناً ولا نُطيعهم في أمر، وأخذ يُهدد، ويتوعّد ويُغلظ القسم بالتنكيل بهم.

وقال:

ـ أرجو أنْ لا تُجبرنا الأيام القادمة إلى أيّ فِعل يَسبق مُروءتنا.؛

قام حفيد عُون السداح، وأخذ يُهدد كما فعل جده، وسفّه بقوله الرجال ولم يُعطي أحداً قَدْراً أو بالاً ولم يكترث لوجودهم، وألقى عليهم كلاماً زلزلت نفوسهم.؛

واستمرّ يُحدّث جموع الرجال بإزدراء:

ـ سُحقاً للرّجال الذين اسْتمعوا لقصص مُغامرات وليد.؟

سكت ثم أردف بغلطة:

ـ لا يلتفت أحدكم إلى خزعبلات وليد، إنها تفاهات وتُرّهات تُخالف الواقع.؛

نظر إلى الجمع المُتحلّق حوله، وهزّ رأسه بغضب.. وقال:

ـ احذروا وليد وقريته الظالمة.؛ إنّا تاركوه.؛

هزّ رأسه وتحدث بصوت غاضب:

ـ والآن، جاء دور الذين لم يلحقوا بنا، وخرجوا عنّا، نقتلهم جميعاً، ونُقطع أجسادهم، إنّا عازمون على انشاء قرية تخصنا عل ضفاف الوادي.؛

نهض رجل قويّ البُنية، ضخم الجسم، مفتول العضلات، طويل القامَة، يطلق عليه الرجال بـ “دايم ” مُقترباً من عُون السداح، وقال:

ـ أنت المسؤول عمّا يحدث في الوادي من فتنة.؟ إنّي أفهم ما ترمي إليه، وأدرك تلميحاتك الباهتة.؛

ذلك هو الانتقام الذي أفْضَيت إليه، حين لم يُقْبَل بك أنْ يكون لك اسْماً ومكانة ومقاماً كالجد الكبير.؟ إياك أنْ تُضِلّ الرجال بترّهاتك.؟

توقف برهة ثم قال بنبرة قوية:

ـ يا عُون السداح هل تُريد الثّأر من وليد أم من الجد الكبير أم كنت تُريد عقاب الرجال الذين خالفوك بنزعة تمرّد كامنة في نفسك أم تُريد أنْ تكون من المُجرمين.؟

قال رجل مربوع القامة، حازم القول:

ـ احْذر يا عُون ـ كل الحذر ـ وابتعِد عن كل ما يُشين علاقتك بنا ولا تَكن مُجرماً كيْ لا ينتشر خبرك في وادي الرمال فيكرهونك.؟

وفي الأثر الجميل ” يُقال:

ـ لا سعادة لهم ولا راحة بالْ.؛ للذين يقتلون النفس بغير حق.؟

ردّ عون باستهزاء:

ـ نحن رجال لا نفعل الفضائل الكاذبة.؟

قال ” دايم” بعد أنْ حكّ شُعيرات رأسه وهرشها عدة مرات:

ـ يا “عون” نحن جميعاً، نُؤمن بأنّ وليد هو سرّ الجد الكبير وكلّ خبر غير جميل عنه سيعود عليك بالخسارة.؟

انهمرت من عيني عُون السداح دموع حزينة والتفت إلى ولده سدح وحفيده عدار وقال:

ــ إني أحدثكما بما فاضتْ به نفسي.. فقد آمنتُ بكلام وليد، وأشعر بالمودة لكم جميعاً. والتفت إلى الحضور، اعلموا أنى تخليتُ عن ابني سَدح وابنه عدّار ما لم يعودا إلى الرشد الجميل، وإني ناصح لهما، إنْ يتّبعان سبيل الرشاد.؛

ردّ سدح بصره إلى ابيه عون، وقال:

ـ لا تلومنّ إلا نفسك ولك الخيار.؛

وصوّب نظره إلى وليد بغضب، وقال:

ـ لا أجد لك أثراً طيّباً في الوادي غير المتاعِب التي جلبتها لنا، وقريباً لن نراك على ظهر رمال الوادي.؛

قال عُون الاب لولده سَدح مُقاطعاً:

ـ لا تُكلّف نفسك مشقّة الجمْع.؛ ولا تُحدثهم بأساليب ماكرة.؛ ولا تُقحم نفسك في خيبات، لا ناقة لك فيها ولا جمل.؛ أنا من سيقتلك.؛

وهزّ يده وأردف، بيدي هاتين.؛

قال رجل يُلَقّب بـ “كاشف” وقد أشار بغضب إلى سَدح:

ـ كُل الرّجال الذينَ اسْتمعوا إليك انْكشفت لهم حقيقة حماقتك، وبيّنت لهم نقطة ضَعفك وكانت البداية التهديد بالضرر النفسي لوليد ومَن اتّبعه، ولجأت الآن إلى تهديد أبيك عُون بعد أنْ آمن بوليد.؟

اعلم أيها الاحمق، الثأر جنون وحماقة.؛

لا تزال عين وليد مَشدودة في سَدح السدّاح وأوقفها في عينيه وظلّ صامتاً لبُرهة، ثم قال:

ـ لا أقول أكثر ممّا قاله الذين عَقلوا أباك عُون وأخاك كاشف، إنهم رجال، عادوا إلى رُشدهم.؟

وأشار إليهم واستطرد قائلا:

ـ وهما يَملكان التغيير اليوم وبأيديهم، وكل رشاد هو أبْقى لحياتهم.! فالتغيير من سُنن الرمال.!

اقترب ” دايم” من وليد، مُطأطئ الرأس وقال:

ـ سيّدي أنا معك، وعزمتُ أمري وآمنتُ بعزم أكيد بأنْ أكون جزءً من سيرتك المباركة.؛

قال وليد وهو يبتسم:

ـ أنت مِن عزم الرجال.؛

قال “دايم” بابتسامة:

ـ نعم أنا معك، فأنت أكرم الرجال واصدقهم.؛

ابْتسم وليد ورحّب به قائلاً:

أنت سَالم بإيمانك، كبير بوفائك، صادق بقربك، عميق بقولك وإنْ بقيتَ سالماً بإيمانك فاطمئن.؛

وسيأتِي اليوم الجميل الذي ستكون فيه أكثر عزماً وأشدّ قوة وبأساً لسيرة الرجال.؛ ولن أخْفيك سراً.. وكما يبدو لي، بأنّ لك أثراً طيّباً في حياة الرمال وعزم أكيد في الوادي وأنا مُطمئن بك.؛

ومُنذ ذلك اليوم عُرف ” دايم ” باسم سالم، لكن البعض منهم أصرّ بإلصاق اسمه بوليد، فاشْتهر بـ “سالم وليد ” وطغتْ كُنيته الجديدة على اسمه الأول دائم.؛

أخذ وليد يُحدّث الجمع الذين لزموا مكانهم برحابة صَدر، واستطرد قائلاً:

ـ هذه القرية التي وصَفها جدي الكبير بالوصْف المَكين، وقال عنها يومئذ بأنّها ذات دِلالة باقية ومكانتها في الرّمال ثابتة.. بلدة طيبة، نفخر باسمها ويَشهد بمكانَتها المُؤرخون، تُراث عميق وتاريخ كبير وإرث عظيم، هي على كل وجْهٍ ذات مكانة.؛

قال سالم وليد مُبتسماً:

ـ قل لنا شيئاً عن القرية، فبلدتنا كبيرة، ومُترامية وأطرافها كالمِشط، البحر ينضح من حولنا، والارض طيبة المنبت.

سحب وليد نفساً عميقاً وقال:

ـ قريتكم جميلة، ورجالكم أولو عزم وصدق، وصدورهم نقية.. ولا أخفيك سِراً.. فالبلدة عظيمة ضاربة أعماقها في جذور التاريخ المكين.؛

ولكنّ المُرجفين سينتشرون في أرضها وستكثُر البَغضاء والشَحناء وتزيد الاحقاد وقد تكون سبباً في خيانة البعض لكنها لن تَصِل لحدّ القلق المُخيف.؛

وأؤلئك المُنْبتّون هم رجالكم، اشْتقوا من أرض قحلاء مُتقطعة، يَبست رمالها وأقحلت زرعها، وقد اختلطت تُرّهات عُقولهم برَهْبانيّة ابتدعوها وتلك هي رزيئة يَخلقونها خوفاً، ويشغلونكم بها.؛

من أكبر المُشكلات الفعلية التي سوف تُواجهونها هي أنْ لا ثقة مُتبادلة بينكم والأمر الآخر استغلال ثقتكم، سعياً نحو خلق ظروف قادرة على إضعافكم.؛ وكل ذلك يعود إلى أسباب اختلاط أنسابكم مع الذين كانوا من أصْلاب وفدتْ من أعالي الرمال.؛

سكتَ وليد، ثمّ قال لصديقه سالم:

ـ هيّا قل شيئاً عن بحركم.؟

تململ “سالم وليد” قليلاً، وعدّل جلسته:

ـ بحرنا عميق كما وصفته لنا، لكأنه حاضر في مَشهد أمام ناظريك.؛

وأزيدك قليلاً من كثير، فبحرنا ـ يا سيدي ـ عَميق كعُمق مكانتنا، وذلك العُمق المُبين، له امتداد كساقية طويلة لا تنتهي، يصل إلى القرية العتيقة وينقطع، لكأنّه ظَهْر عجوز تقوّسَ، واحْدودبت قوسه كما لو كانت فكّ حوت.؛

وقد يأخذك فكّ الحوت صُعوداً إلى أنْ ينتهي بك إلى بحر عميق تصل دائرة عُمقه كطبقات رُكّبت فوق بعضها ويضيق عند صَدر البُقعة المباركة.

وهنا تَظهر لك جناحان، جناح يَمتد طولاً كظُلّة على باقي الرمال، والجناح الآخر طويل تمتدّ لسانه طولاً ثم تكون في تعرّجات، تصل بك إلى أقصى البحر الطويل.

ومن هُنا قد ترى بحدّ الشوف، سُفناً كبيرة تسير في عُمقه وسُفناً على حوافّه تسير ببطء آمنٍ، ويكون قُبالتها الوجه الأعْمق للبحر الكبير، ويُشرف على ذلك البحر، ملكٌ ذو رباطة جأش وعزم يجوب البحر، أشبهَ بأسد يسير في هضبة لا يُنافسه فيها أحد، يجوب عرض الهَضبة وطولها.؛

ذلك الرجل عُرف بأنه ذو أُنْفة وعزم وقوة وكبرياء، رجل ذو مواقف تتجلّى فيها صِفات الشِيَم والكرامة والفزعة.

قال عنه الملك بأنّ البحر الكبير عَمِيق، وعُمقه ثابت هادي بلا هدير ولا ضجيج، وقِيْل أنّ كل عُمق ثابت قوة مُباركة.؛

ومن ذلك الامتداد والعُمق دخلتْ تأويلات، منها أنه يَحرس الرمال.؛

توقف وكأنه يستشعر من وليد حقيقة التأويلات وصِحّة قوله. فأردف:

ـ تلك الحكاية ثابتة لدينا وصحيحة بشهادة ذوي المعرفة بأخبار الرمال والبحار.؛

عقّب وليد بهدوء:

ـ ربما حكاية البحر صحيحة، وأمّا عن الرمال فقد سمعت، بأنّ رجالاً، خالفوا ما آمنَ به الجد الكبير.

حتى أنّ البعض منهم جاء بفرية كاذبة وخِسّة ماكرة وحكايات شقّت بين رجال الوادي وبين رجال القريتين واختلفوا بينهم وانْشَقوا وتفرّقوا..؛ وكما يبدو لي، أنّ أؤلئك الرجال كانوا فِتنة الرمال.؛

فعقّب سالم مشاركاً السيد وليد الحديث:

ـ نعم وكما قرأت، أنّ فِتن سِيْقت إلى قرى الوادي وأقاصي البحر الكبير. بتواتر الاخبار الصحيحة وتلك الفِتن تفتّقت كقطع النار، وانشطرت إلى كل أرجاء مَعمورة وادي الرمال.

توقّف فجأة وكان يَتفحّص العيون المَشدودة إليه. ولم يُكمّل.

يـتـبـع 34 ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى