الاقـتـصاد محـرك التـاريـخ..
طـلال بن حمـد الربيـعي
الاقـتـصاد محـرك التـاريـخ..
منذ عدة سنوات قرأت كتابا للمؤرخ البريطاني دوبين كولينجوود بعنوان (فكرة التاريخ) حيث حاول كولنجوود إيجاد تقارب بين احداث التاريخ وبين الفلسفة، وكان قصده من ذلك أن يدرك الفلاسفة والمفكرين أهمية الفهم التاريخي لحل المشكلات التي تواجه البشرية في حاضرها، على اعتبار أن أكثر هذه المشكلات هي في صميمها تاريخية، ومن هنا برزت قيمة تحليل الأحداث التاريخية والأزمنة السحيقة اللذَيْن تجاهلهما الفكر الإنساني فترة طويلة من الزمن.
ولعل هذا ينطبق أيضا على الجوانب الأخرى ذات الأهمية الكبيرة في حياتنا، فمنذ فترة طويلة استوقفتني عبارة أن (الاقتصاد هو محرك التاريخ) ومازالت هذه العبارة تتردد في ذهني وأنا أبحث عن هذا الموضوع وأربط الأحداث التاريخية بالأحداث الاقتصادية، فعلى الرغم من أن هذه الفكرة طرحت سابقاً من قبل عدة مفكرين من بينهم عالم الاقتصاد آدم سميث في كتابه الشهير (ثروة الأمم) ، واختلف الكثيرون حولها، وخاصة في الأدبيات الكلاسيكية اليسارية التي تعزو سيرورة التاريخ إلى الصراع الطبقي ، وتطور وسائل الإنتاج دون غيرهما ؛ إلا أنها أصبحت جامدة عندما ربطت حركة التاريخ بما يسمى بالحتمية التاريخية ، وعزلت الثقافة والأدب والفنون واعتبرتها أشياء فوقية للطبقات ليس لها تأثير مباشر.
والمتابع للأحداث التاريخية يجد أن التاريخ تحكمه معادلة (الحاجة والاستجابة) ؛ فالحاجات الإنسانية بشتى أنواعها وأصولها ساهمت في تطور النظرية الاجتماعية التاريخية والتي ساهمت بشكل كبير في صنع التاريخ وتفسيره وفهمه ؛ طبقاً للقواعد العلمية والمنهجية المنطقية للأشياء.
ولكن لماذا يُعَدُّ الاقتصاد محرِّكاً للتاريخ ؟؟!!..
قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من تعريف الاقتصاد ؛ حيث يُعرَّف حسب موقع ويكيبيديا على أنه «المجال الاجتماعي الذي يركز على الممارسات والنقاشات والتعبيرات المادية المرتبطة بإنتاج الموارد المحدودة واستعمالها وإدارتها» ؛ فاقتصاد مجتمع ما هو مجموعة العمليات التي تشمل ثقافته وقيمه ، وتعليمه ، وتطوره التقني ، وتاريخه ، وتنظيمه الاجتماعي ، وبنيته السياسية ، ونظامه القانوني ، وجغرافيته ، وموارده الطبيعية ، وبيئته ، وهذه العوامل الرئيسة تحتاج إلى مجموعة من الشروط والمتطلبات حتى يعمل فيها الاقتصاد.
بعبارة أخرى فإن المجال الاقتصادي هو المجال الاجتماعي للممارسات البشرية المترابطة ، والمعاملات ، وعمليات الانتاج التي لا يمكن عزلها عن بعضها البعض ؛ فعلى الرغم من أن النقاشات حول عمليات الإنتاج والتوزيع دارت منذ بدايات التاريخ ، إلا أن مفهوم الاقتصاد أخذ بالتبلور في صيغته الحالية كفرع علمي مستقل ؛ منذ أن قام آدم سميث بتعريفه ووصفه ؛ بأنه أحد فروع علم السياسة والتشريع ؛ حيث يهدف إلى تزويد الأفراد بكمية كافية ومستمرة من المنتجات ، من خلال العمل على جعلهم قادرين على توفير هذه المنتجات بشكل متواصل ، بالإضافة إلى تزويد الدولة أو إثراء كل من الأفراد والحكومات.
فمنذ البدايات الأولى للإنسان ، ومع ظهور التجمعات الحضارية ؛ كان توفير الاحتياجات الأساسية من أهم الأشياء التي أثارت فضول الإنسان واهتمامه ، لذلك ارتبطت حركة التاريخ وتطور البشرية في العصور ما قبل التاريخ ارتباطًا وثيقاً بالموارد والمواد المستخدمة ، وسميت تلك العصور بأسماء المواد الأكثر استخداما فيه ، فرغم تسجيل التاريخ للتحولات اللغوية والاجتماعية والدينية ؛ إلا أن الموارد والأدوات ظلت هي من تعطي الهوية لهذه الحقب التاريخية ، ثم جاء بعد ذلك ما عرف بالعصور الوسطى الذي ظل فيها التاريخ جامداً نوعاً ما بسبب محدودية التنوع الاقتصادي ؛ إذ أخذ يراوح مكانه بين تلك الحضارات القائمة آنذاك، إلى أن جاء القرن الحادي عشر ، وبدأت معه عجلت التاريخ تأخذ شكلاً متسارعاً من جديد ، يحركها رحلات البحث والاستكشاف الدؤوبة عن الموارد والمواد ، التي قامت بها الدول الأوروبية الناشئة من تفكك الإمبراطورية الرومانية ، ومع اكتشاف القارات والدول وطرق الملاحة الجديدة ، قامت كثير من هذه الدول ببناء مستعمرات لها في تلك المناطق ، وقد نتج عن ذلك ظهور العصر التجاري وبدايات ظهور ما أصبح يعرف لاحقاً بــ (الاقتصاد الوطني) ؛ حيث انتعشت التجارة البحرية التي كانت قائمة على تصدير الفضة والسكر والتبغ من الأمريكتين إلى (أوروبا) ، واستيراد العبيد من (أفريقيا) ، كما قامت (آسيا) بتصدير البهارات والمنسوجات والخزف الصيني إلى (أوروبا).
ومع ظهور عصر الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر ، والتي كانت بداياتها في انجلترا ثم لاحقاً في بقية الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية ، أخذت الأحداث التاريخية مع هذا العصر سياقاتٍ أخرى ، وأصبحت الدول تتنافس على الصناعة والطاقة والتكنولوجيا ، ومعظم الحروب التي قامت بين الدول كان للاقتصاد والسيطرة على الموارد دور كبير فيها إذا لم يكن سبباً مباشراً لها ، وحتى يومنا هذا ، وما الحرب الروسية الأوكرانية إلا دليل على ذلك ، وكما ذكرت في مقال سابق ؛ فهذه الحرب تعيد مفهوم الاقتصاد وارتباطه بالتاريخ والجغرافيا ، والنزعات الغربية للسيطرة والتأثير على العالم ؛ فهذه المنطقة ومعها الشرق الأوسط يمثلان نصف موارد الطاقة العالمية.
في بداية التسعينات من القرن المنصرم ؛ صدر كتاب للمفكر الأمريكي من أصل ياباني ميشل فوكوياما بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) ، ذكر فيه أن التاريخ قد انتهى بدخول العالم عصر الاقتصاد الليبرالي الرأسمالي ، طبعاً فيما بعد تراجع عن هذه الفكرة ؛ لأن ربطه نهاية التاريخ البشري بانتصار نهج الاقتصاد الليبرالي الرأسمالي وسقوط الاشتراكية كان غير صحيح ؛ حيث ظهرت فيما بعد اقتصادات تتبنى الاشتراكية الطوباوية أو الاجتماعية ، وحتى الديمقراطية الغربية التي بشر بها فوكوياما ، واعتبرها أسمى ما يمكن أن يصل إليها الإنسان في حركته الدؤوبة نحو الكمال متأثراً في ذلك بالفيلسوف الألماني هيجل الذي كان أول من طرح ذلك في كتابه (فلسفة التاريخ) ، أثبتت فشلها في كثير من الدول ، كما ان تَوَحُّش الرأسمالية ، ومحاولة سيطرتها على مقدَّرات وموارد الدول أعطى لهذه الفكرة بُعْداً استعمارياً.
لقد بات واضحاً وجليّاً ارتباط الاقتصاد بالتاريخ الجيوسياسي للعالم ، وأصبحت مقولة : إن حركة التاريخ مرتبطة بحركة الاقتصاد وتطوره من المُسَلَّمات التي لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال مهما حاولنا ذلك ، وهناك تساؤل مهم طرحه عالم الاقتصاد جون جالبريت في كتابه (تاريخ الفكر الاقتصادي) حول ما الذي يريده من التاريخ فقال : إني أسعـى إلى النظر إلى التاريخ ؛ باعتباره رؤية للعالم الذي تطورت فيه أفكار اقتصادية محددة : أفكار آدم سميـث فـي سـيـاق الـصـدمـة المبكرة لـلـثـورة الصناعية ، وأفكار دافيد ريكاردو في المراحل التالية الأكـثـر نـضـجـاً لـتـلـك الثورة ، وأفكار كارل ماركس في عصر القوة الرأسمالـيـة المطلقة الـعـنـان ، وأفكار جون مانيارد كينز استجابة لكارثة (الكساد الكبير) العنيفة.
لذلك فإنه على مر التاريخ ، كان للاقتصاد دور كبير في نهضة الشعوب وتقدمها وازدهارها ، فالإدارة الناجحة لموارد الدولة توفر موارد إضافية لاستثمارها في جوانب أخرى ، كتحسين التعليم ، وتطوير الخدمات الصحية ، وبناء بنية أساسية قوية ، كما أنه يساعد أيضا على امتلاك الدول لمراكز الأبحاث العلمية ، والتكنولوجيا المتقدمة.
وفي الختام يقول (مالك بن نبي) : إن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان ، ليس الاقتصاد إنشاء بنك ، وتشييد مصنع ، بل هو قبل ذلك تشييد إنسان ، وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحركه إرادة حضارية.