بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

هل هناك ربيع عربي جديد ؟..

زاهر بن حارث المحروقي

 

هل هناك ربيع عربي جديد؟..

 

أعاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر ما سُمّي بـ “الربيع العربي” إلى الواجهة الإعلامية من جديد، عندما أفاد يوم الأربعاء 26 أكتوبر 2022، في حوار مع مجلة “لو بوان” الفرنسية أنّ مسببات احتجاجات الربيع العربي، والجذور العميقة المسببة له، لا تزال موجودة، كالفقر والبطالة والخريجين العاطلين عن العمل، “وأنّ هذه المشاكل تفاقمت وإذا لم تجد الحلول، فستتكرر الأحداث التي أدت لها هذه الأسباب”. وتزامن تصريح الشيخ تميم، مع بعض التظاهرات في بعض العواصم العربية، ودعوات لإطلاق ثورات جديدة، حُدّد لها يوم الجمعة 11 نوفمبر 2022، بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة.

وكان رأي الشيخ تميم بأنّ “الطريقة الأمثل لتفادي الاضطرابات في المستقبل هي تنفيذ الإصلاحات بشكل تدريجي”، ورأى أنه “يتعين علينا أن نعطي شعوبنا أملًا حقيقيًا وليس مجرد كلمات، وأن نؤَمّن الوظائف والفرص، وأن نسمح للشباب بالتعبير عن آرائهم واختلافاتهم”.

لم يكن أمير دولة قطر الوحيدَ الذي رأى أنّ أسباب الثورات لا تزال حية، فقد سبقه في ذلك يوسف بن علوي بن عبدالله، الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية المتقاعد، عندما أعلن أنّ هناك إشارات لما سماه “ربيعًا عربيًا ثانيًا”؛ إذ رأى أنّ الظروف الراهنة تشبه الأجواء التي سبقت ثورات الربيع العربي.

وأثار ذلك التصريح حينئذ تفاعلًا على منصات التواصل الاجتماعي، رأى فيه بعض المعلقين أنه إنذارٌ ونصيحة – وهو ما ذهبتُ إليه – فيما اعتبره البعض أنه تحريض.

كما أنّ عمرو موسى الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية قد حذّر من أنّ التحديات والتهديدات التي تواجه دول العالم العربي كثيرة وخطيرة، لذا أرجعَ تكرار ثورات الربيع العربي، إلى “غياب الحكم الرشيد”، الذي يعني حسب تفسيره “حكم القانون والدستور وإعطاء الناس الأمل في مستقبل أفضل بمحاربة الفقر والتخلف، ومعالجة هموم المواطن بمشروعات حقيقية لا مجرد خطب وشعارات”.

وقد ألمح الشيخ تميم، وقبله عمرو موسى إلى نقطة هامة، هي أنّ الناس قد سئموا الوعود والكلمات الإنشائية والأغاني التي تُسمّى وطنية، ولم تعد الخطب والشعارات تقنعهم، لأنهم أدرى بشؤون حياتهم وبمعاناتهم اليومية، فإذا لم تُحوّل تلك الخطب والخطط والشعارات إلى واقع يلمسه الناس في حياتهم، فستبقى دون قيمة، وسيتأجّل الانفجار فقط إلى حين توفّر الظروف.

في مقال سابق لي عن الثورات العربية قلتُ إنه من الصعب إنكار أنّ ما حدث في بعض الأوطان العربية كان بفعل المؤامرات الخارجية؛ ولكنّ الحقيقة الأخرى هي أنّ الأوضاع الداخلية ساعدت كثيرًا في إنجاح تلك المؤامرات؛ فمعظمُ مواطني البلدان العربية يعيشون “حالة ثورية”، بسبب فشل الأنظمة العربية في توفير الحياة الكريمة للمواطنين.

بل العكس من ذلك تمامًا، نجد أنّ هذه الأنظمة تضيِّق الخناق على الناس حتى في لقمة عيشهم، وهذا بدوره يحوِّل المواطنين العاديين المسالمين إلى ذئاب، تريد أن تنقض على السلطة في أيِّ لحظة من اللحظات.

والأستاذ محمد حسنين هيكل يعرّف “الحالة الثوريّة” في الصفحة 142 من كتابه “ملفات السويس، حرب الثلاثين سنة” الصادر عن مركز الأهرام للنشر والترجمة : “إنّ نشوء حالة ثوريّة في وطنٍ من الأوطان، هو ظرفٌ لا يصنعه طرفٌ واحدٌ، أو تنظيمٌ معيّن مهما كانت كفاءته؛ وإنّما نشوء الحالة الثوريّة يجيء نتيجةَ أوضاع اجتماعية واقتصادية تتراكم فوق بعضها، ثم تطرأ حادثةٌ أو أحداث تُقنِع الكلّ، أنّ الأمر الواقع قد تردّى إلى حدِّ لا يُرجى إصلاحه، وأنه وصل بما لا يقبل الشك إلى طريق مسدود.

وهكذا فإنّ الحالة الثوريّة في وطن لا يخلقها من العدم فردٌ بذاته، أو جماعةٌ بعينها – بالقصد أو بالتدبير – لأنّها تاريخيًا وعمليًا أكبر وأعمق من أيِّ قصد وتدبير، وكلُّ ما هناك أنّ هذه الحالة تصبح احتمالًا مفتوحًا لأيّ طرف أو تنظيم، يستطيع تحليل عناصرها، وتشخيص عوارضها، والتصدي لقيادتها في اللحظة الحاسمة”.

إذن؛ الحالةُ الثوريّة موجودةٌ في معظم الدول العربية حتى الغنيّ منها؛ فالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تتراكم فوق بعضها البعض، بانتظار الحادثة البسيطة – التي تحَدّث عنها هيكل – لتَحدُث، فتُقنع الكلَّ أنّ الأمور قد تردّت إلى حدٍ لا يُرجى معه الإصلاح.

وإذا كانت بعض الشعوب العربية بدأت تنادي بثورات جديدة، فيعني ذلك أنّ الأمور ليست على ما يُرام؛ فيكفي أنّ هذه الشعوب تمارس “المعارضة السلبية”، وهي عدم التفاعل مع الأنظمة في قراراتها، بما يشير إلى عدم الاعتراف بها؛ فالشعوب تعاني من التراكمات الكثيرة من تردّي التعليم، وسوء أحوال الناس المعيشية، وشدة الضغط على الناس في حريّة التعبير، وغياب العدالة الاجتماعية، وانتشار الفساد والمحسوبية وغير ذلك، وكلها تنذر بقرب الانفجار؛ قد تمنع القبضة الأمنية الشديدة الناس من التحرك، لكنهم عندما يتحركون سيتحركون بعنف، وهذه ردة فعل طبيعية حسب قانون نيوتن بأنّ “لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة له في الاتجاه”.

المؤشرات تدلّ على أنّ هناك ثورات أخرى قادمة – قد تكون عاجلة وقد تكون آجلة – ويبقى أنّ الحلول بيد الأنظمة العربية نفسها؛ فلا ينبغي الالتفاف على مطالب الشعوب، كما حدث في الثورات السابقة؛ إذ زاد الظلم في بعض البلدان التي اندلعت فيها الثورات، وساء وضع الحريات أكثر من السابق، وفي بعض الأقطار كشّرت الأنظمة عن أنيابها أكثر، وباتت أكثر دموية وإجرامًا بحق شعوبها، بل باتت أكثر حرية في التعبير عن فسادها، وفي أقطار أخرى عادت الأنظمة السابقة بوجه جديد، أكثر لمعانًا وبريقًا، وأكثر دموية وظلمًا وقهرًا لشعوبها، ولكن لماذا وكيف حدث ذلك؟.

يرى الكاتب أوّاب المصري في مقال نشره في صحيفة “الشرق” القطرية تحت عنوان : “الحلقة المفقودة في ثورات الربيع العربي”، أنّ الإجابة على تلك الأسئلة تكمن في افتقاد شعوبنا العربية لشيء واحد اسمه “الوعي الجماعي”، ويرى أنّ هذا الوعي يشكّل شرطًا لازمًا لنجاح كلّ ثورة، وبدونه تذهب كلّ الجهود والدماء والتضحيات والتظاهرات والاعتصامات سدى، “بعدما تنجح الطبقة الفاسدة من خلال وسائلها وأدواتها الشرعية وغير الشرعية في استدراج الشعوب إلى المكان الذي تريد، ودفعها في الطريق الذي تريد، وإقناعها بما تريد”.

وقد وُفّق أوّاب المصري في تحليله عندما رأى أنّ “الوعي الجماعي حلقة مفقودة، لكنها ضرورية لوقف استغلال الفاسدين لجهل الشعوب واللعب بأفكارها وعواطفها، وإلا فإنّ استمرار غياب هذا الوعي عن الشعوب سيجهض كلّ ثورة، وسيُفشل كلّ محاولة للإصلاح، وسيثبّت كلّ فاسد، طالما أنه حريص على تجهيل شعبه، لأنّ ذلك يساهم في بقائه على كرسيه؛ بينما الحريصون على توعية الشعوب تم تهميشهم والتضييق عليهم”.

وإذا كانت الأوضاع غير مستقرة وغير مطمئنة في بلدان الوطن العربي، وهي حقيقةٌ واضحةٌ وليست رأيي الشخصي فقط، بل هو رأيٌ قاله الحكام مثل الشيخ تميم، وقاله المسؤولون والمفكرون، فإنّ على الحكومات العربية أن تأخذ الأمر بجدية، وعليها أن تختار بين بقاء الأوطان مستقرة وآمنة، وبين أن تختار التشبث بالسلطة وإن كان في ذلك خطر كبير على الأوطان والأنظمة نفسها، ولا أعتقد أنّ الحلول صعبة ومستحيلة، بل هي سهلة وفي متناول الجميع إن خلصت وصلحت النية، فلا يمكن أن يقنعنا أحدٌ أنّ نداءات الاحتجاج والتظاهر جاءت من فراغ.

إذا كان للعملة وجهان، فإني قد تناولتُ في مقالي هذا وجهًا واحدًا عن الأسباب المؤدية إلى الاحتجاجات، وبقي الوجه الآخر وهو هذا السؤال : ألم تضر ثورات الربيع بالدولة الوطنية العربية ؟ هذا يحتاج إلى مقال آخر…

* تم نشر المقال بموافقة الكاتب ، نقلاً عن جريدة عمان .. عدد الإثنين 7 نوفمبر 2022م.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى