لآثـارنـا دلالات ومآثـر..
حبيب بن مبارك الحبسي
لآثـارنـا دلالات ومآثـر..
للبشرطبائع وأمزجة وأساليب في التعامل ، من الطبيعي أن ترتاح النفوس للقلوب الطبية ، ومع هذا فإن أغلب من نصادفهم ونتعامل معهم راقون ، وذوو حس جمالي في الكلام ؛ فعندما تتعامل وتتعايش معهم تكتشف معدن النقاء والصفاء ، محيّا قلوبهم عطف ، وعلى وجوههم تشرق الابتسامة التي لا تفارقهم ؛ لا يسقطون على واقع تعاملهم ما يمرون به من ظروف ؛ يظهرون بلون وثوب جميل ؛ هؤلاء تعشقهم النفوس ، ويطيب اللقاء معهم .. الوقت إن جلست تتمناه أن لا ينتهي ، وإن غابوا أو رحلوا ينكشف لك بوح من الشوق الراقي ؛ حتى في ارتاحلهم تشتاق إلى أخلاقهم الراقية ، هؤلاء يتركون حنينا في قلوبنا ويضعون وجعا في النفس إن طالت غيبتهم ، وتبقى مآثرهم صفحات نقلبها ونقف عندها كلما مر طيفهم ، نتلذذ بصدى أثير تلك الكلمات التي يمنحوننا إياها في حديثهم ؛ فأثارهم حنين وفقدهم أنين لا يعوض .. في آثارهم قصص لا تُمَل ، هؤلاء إن رحلوا لا تموت.
إذا كان هذا من خواص البشر ، حتى الأمكنة لها أثر أيضا ارتباط معنا .. حينما تألف مكانا ما تظل تربطك به أحاسيس وذكريات كأن بينك وبين الجماد لغة متبادلة .. فكل ما هو موجود يشاركك تقاسيم الحياة ، حتى في أثناء مرورك للمكان المعتاد إليه ستمر بمشاهد مألوفة لك وتصادف بشرا ومخلوقات ، تتأثر بهم ويؤثرون فيك ، ونكتسب علاقاتهم وصحبتهم ، ويتحولون إلى جزء من الحياة اليومية ، حتى مع المكان تبقى الأحداث والمواقف عالقة ؛ هذا التناغم في الإحساس يصور لنا حياة البشر الذين كانوا ورحلوا ؛ نفتقد حسهم وضحكاتهم ؛ فكان لوجودهم أنس وألفة.
طبيعي أحيانا نقاوم التغيير في الانتقال بحجة أننا عهدنا المكان وحسه النابض والأفراد ونعطي حججا لانفسنا، ونرغب في البقاء فيه ؛ لأننا نسقط على الجديد والبديل القادم ببعض المخاوف ، وأنه غير مألوف ، ويظل مجهولا تحتاج النفس إلى التكيف فيه مزيدا من الوقت ، وربما في كوامن النفس هواجس من الإشارات التحذيرية التي قد تحدث ، هذه الافتراضات تأتي جزافا ، وتشغل حيزا من وقتنا ، وتظل تشكل صراعا في دواخلنا حتى يستقر القادم المجهول في الوجدان ويشعرنا المكان الجديد بالألفة والارتياح ، ونقول عندها لوكان بهذه الصورة لانتقلنا من زمان.
شدة المقاومة تبدأ بالإنكسار تدريجيا وتتلاشى بعد مرور الوقت ؛ لتجد أن المكان الجديد أفضل بكثير عما كنا فيه ؛ درجة التأقلم أتاحت لنا الحس الجديد وألفة المكان والأفراد هذه النفسية المتجددة تشعرك أن لا ترضخ لرغباتك وأهواءها ، فالقادم والجديد إضافات تكسبك معارف وارتياح وألفة تنير لك باقات من الروائح المعطرة بتواجدك فيه ، فقد تجد أن الجديد يختصر لك مسافات من الوقت والجهد ويعوّضك عما كنت تواجه من صعوبات ، وتجد هذا الشعورعلى نطاق أفراد الأسرة قد يغمرهم أثر السعادة.
مع رحلة الانتقال ووصولك إلى المكان الجديد ربما قد لا تصادف آثار من سبقك ، أما إذا كان المكان قديما ستجد فيه معاني وكلمات من خلال قراءة الرموز المتبعثرة فصاحبه يدون ما يشعر به ؛ فبين الأحداث هنالك قصة ومواقف لفرد من خلال آثار ما تركه ، كان لديه نبض ونفس تتوق إلى الطموح متسلحا بالإيمان يعنيه الإخلاص فيما يقوم به من عمل.
أدركت في المكان الجديد ضالتي المنشودة فقد وجدت كنزا غمرني بألفة المكان ، وتوقفت عند آية كريمة تركها من سبقني في ذلك المكتب (وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) سورة الذاريات 55. ، ما أحوجنا إلى التذكير ؛ ففي حياتنا قد نمر ونسمع ونشاهد مواقف وأحداث يجب أن لا تمر علينا مرور الكرام ، ففيها العبرة والدروس.
لسنا دائما على استحضار كل شيء فأعباء الحياة قد تسقط منا أشياء في لحظتها فما علينا إلا بالتذكير ؛ هكذا طبع البشر يعتلينا النقص والنسيان ، نحن مخلوق ضعيف.
وقعت عيني كذلك على ملصق أبى من كان قبلي إلا أن يترك رسالة له ؛ فقد شاءت الإرادة الإلهية أن أكون أنا من يكون في هذا المكان فقد كان لوقع النفس لحكمة وضعها : (هذا الوقت سيمضي) ؛ أصبحت هذه المصلقات جزءا من اهتماماتي اليومية التي تجعلني أعيش هياما في ما تحمله من دلالات ذات معنى ومغزى.
فعلا العمر لا يتوقف .. والأفراد يرحلون ويتوالدون فهم لا يتوقفون .. والمسافرون يغادرون ويرجعون ، والانتظار لإنجاز حدث ما أو قضاء مصلحة سيمر ، الصحة لا تستمر ، والمريض سيشفى من ما ابتلاه الله به ، ومن يبحث عن زواج سيجد ما كتبه الله تعالى له ، ومن يبحث عن عمل سيجد فرصته بفضل الله ، ومن بات مهموما وحزينا لا تظل حياته هكذا ، ومن ملئت حياته بالليل هما ليكن إيمانه بالله أن النهار يحمل تباشير ثوب الفرح ، الصغير سيكبر ، والكبير سينتهي والقوافل ستمر وتصل ، لتدرك أن تلك الآثار التي تركت معلقه ومتناثرة لها أحداث ومواقف ولها أثر ، ولم توضع جزافا ؛ فقد كان انتقاؤها مدروسا ، ووضعها في مكان ملفت ليس من فراغ .. فعلا الذكرى تنفع كل لبيب ، وأن الوقت سيمضي ، واعمارنا ستمضي ووجودنا سيمضي.
يقول لي صاحبي ليس مقامك هنا الذي اخترته بنفسك اخبرته تعلقت بالآية الكريمة والحكمة المكتوبة فالفت المكان وشعرت بأني أنا المقصود ، ايضا بعد فترة تركت المكان إلى مكان آخر ثم غادرته نهائيا لتنتهي قصة رحلة عمل.