قصص ، رواياتمنوعات

رواية وادي الرمال .. الحلقة (24)..

حـمـد الـنـاصـري

 

رواية وادي الرمال .. الحلقة (24)..

 

تبادل وليد مع جدّه الكبير أحاديث ونظرات هادئة، مِلْؤها المحبة والألفة والود الجميل، وشرع بعزم يُحدّث الرجال:

ـ أيها الرجال ، لم نجد في قصص الوادي ولا في كُتب الاولين ما يُوثّق تلك الأساطير المكذوبة، غير حكايات ، مُثار جدل ، شَغلت كثير من الناس في الوادي ، وذلك الجدل هو الخطر الدّاهم على القِيَم والأخلاق، ولا شكّ ، فقد انعكست آثار الجدل على الحكايات بمجتمع الوادي والقرية ، وشابَت مرجعيّات الوادي والقريتين تحريف مَكذوب ، صِنْوان وغير صِنْوان ، رغم أنّ المرجعية التاريخية واحدة ومَنبتها واحد .. وعلى مرّ الزّمن ، شابَ تلك المرجعيات زَيْف في اسانيدها وضَعف في مُتفرّقاتها ، قريب وغير قريب ، فظهرتْ مَرجعيات بغير صِنْوان، وغُثّت بسمين رديء ونحيف مُخيف، وكان لزاماً مواجهة الغثّ والفُحش وكل كلام ساقط ، حتى يُميّز الرجال بين الرديء والجيّد وبين ركاكة المرجعيات التاريخية وضَعف أسانيدها.

سكت وهزّ رأسه .. سَحب نفساً ثم رفع جسده إلى أعلى ، وقال :

ـ نعم ، توسّعت المصادر المكذوبة في القرية المَكينة ، وكتَب الرجال بأيْديهم الرديء وكتب غيرهم الخلاف والشقاق والتعنّت والعِناد ، وبدتْ المصادر والمرجعيات كسيرة ، بأيْدي شرذمة قليلة من ساكني مشارف القرية ، وبأقلام الذين أظْهروا فِعْل الخير للناس ، ولكنهم قد كذبوا على انفسهم ، واستطاعوا من خلال كذبهم ، نقل أقاويل مُعصّراتهم ، وبثّ حكايات مُغرضة للتشويش على أفكار الرجال النيّرة بالاطمئنان والأمان.. ولكنّ الأكاذيب تصاعدت والأفكار الضالّة تطوّرت ومارسَ المُغرضين حَفر بُؤر الاختلاف ، وساد ضَرر كبير في قرى الوادي وسائر الرمال ، وظهرتْ كتابات مُبطّنة وتأليفات انحرفتْ عن فِكْر الجد الأكبر وأساءت مُتفرّقاتها إلى فلسفة الجد الكبير وعجز عن سدّها رغم رشادته العقديّة وحكمته البالغة لتقويم الناس بالوادي.؛ وكانت تنظيرات المغرضين بلا انتماء عَقدي غير نقل تنظيرات تائهة وسرد حكايات تُثير الجدل، وقد تصدّى البعض إلى تلك التنظيرات المُثيرة للجدل بردة فِعْل قاسية كتأليف حكاية مَشؤومة عن سيرة رجال تائِهين اختلطوا بأقوام ليسوا منهم ، فأصبحوا بَعد حين أقوياء بالكلمة التي تُباع وتُشترى بلا عزّة ولا كرامة حتى غدو إلى ذُلّ ومَسكنة وباؤوا بضَعف باهِت ، وبقي الباب مَفتوحاً على مصراعيه ، يخوض فيه الخائضين من هبّ التافهين من رجال الحكايات المبثوثة ومن دبّ المُندسين من الغُرباء الحاقدين على وادي الرمال ، بَعْد أنْ كان الباب مَسْدوداً على كل مُغرض دنيء وغريب حاقد، وكانت أمْنية الغُرباء ، أن يبقى الباب ولو مُوارباً غير مُحكم بسَدّة عقدية او مُغلق بتأويلات شِدّتهم وغلظة سردهم وفظاظة عنادهم وفُجاجة تعصّبهم.

ولم يستطع أحد إيقاف الجدل الدائر والشر المُستطير ، فعرض الغُرباء على كبار الرجال افكاراً  يمكرون بهم وحُلولًا يُقنعوهم بها بأنهم معهم، ويَطّلعونهم على خُبثهم  ويُمنونهم في لحظتها بشرّ أعمالهم ومكرهم، وقالوا: ـ سنوقف الجدل وسنخمد الشر المُستطير مهما كان وشيكاً ، ولكن بشروط : تأتمرون بأمرنا ويكون الولاء بنا ـ للغرباء ـ وتسكين بعضهم وفق ما تقتضيه الحالة الجدلية ليكون المسعى صائب لا زلل فيه ، والقبول بقيام قرى على رأس ساحل مَجن ولنكون ـ أي الغرباءـ جزء من بيئة المكان والسادسة ، المَيْل إلى حياتنا ـ حياة الغرباءـ  وإيجاد مداخل لتجانسٍ لا شِيَة فيه .؛ فإنْ اختلطت الاجناس في بعضها ، وسُقيت بعبق المكان ، ومُدّت بساقية امتزجت في بيئتنا ـ بيئة الغرباءـ وبيئة مجتمع وادي الرمال؛ شريطة أنْ تكون خالية من العيوب وليس لها ضعفاً يُخالف رأي الغُرباء في قيام قرى ظاهرة على مشارف الوادي او ساحل مَجن.

*****

وافق ذي الرشادة والحكمة بالقرى الناشئة على مشارف الوادي وساحل مَجنْ؛ وتعاهدوا بالانفصال وتسليم امرهم إلى الغُرباء بذل وضَعف وانكسار وانهزام، فعاش ذو الرشادة الجهل، وضلّ ذوي الحكمة إلى ضلال كبير.. وأثار الغُرباء الضغائن التاريخيّة بين قرى وادي الرمال ، ضَغائن غامضة لا يَعلمها إلا الذين يُريدون إصلاحاً في الرمال ولا يَسبر غور حقيقتها إلا من قام على الرشاد واصلح الناس في مجتمع الوادي.

قال أحد أبناء قرية مجن :

ـ الغرباء لا يُؤتمن بهم ،فقد عاثوا في مجتمع القرى الناشئة وجاؤوا بسيرة زائفة بالوادي.؛ فواجه مجتمع مجن الكبرى الفتنة فتعاموا عن صغائرها ، ونجحوا في تكوين منهج طريق وسلوك قويم فكان لهم طوق النّجاة.؛ وتعاملوا مع مُطالبات الانفصال عن قريتهم الكبرى ، بشقّ اختلاف لم يفطن إليه المطالبين بالانفصال بأمر الغرباء، وقالوا لهم لن يُتم الانفصال إلا بالقيام بالخلافة والرشادة التي سوف تتولى زمام الأمور وزعامة الرجال ، فهل القرى الناشئة على مشارف الوادي والمُطالبة بالاستقلال هي مَن بيدها الزعامة ام قرى الساحل المُنفصلة عن مجن الكبرى هي التي سوف تكون لها إمرة القيادة ، وزعامة الرجال، وتتشرّف بحضور اجتماعات الجد الكبير.؟ أتذكّر ما قرأته في كتاب المجد الأول ، للجد الأكبر ، أن حادثة سيقتْ على غرار انفصال هذه القرى وشُق عليها تمثيل مجتمعها ، ولم يعرفهم الجد الاكبر، فطردهم من مجلسه .؛ وكما يبدو لي أن أولئك الرعاع من الرجال هم الذين اليوم يتحدثون اليوم بجدل مِعْوَج ، فقد أعادوا سيرتهم مرة أخرى في زمن جدي الكبير الذي بينكم.

تنحنح ابن قرية مجن ، واضعا يده على فمه :

ـ ما أعرفهُ أن جدي الكبير ايضاً ، همّش المطالبات سواء اكان بالانفصال عن مجن الكبرى او بالاستقلال عن قرية الوادي ودعىَ أولئك الرعاع التائهون بالعودة التاريخية وزجرهم: اتركوا الوادي .. دعوهُ مُستقراً ، لا يشعل أحدكم الفتن ، فإنّ الفِتَن كقطع النار.؛ وقيل عزلهم كي يَرشدون ويعودون إلى الصواب، ولكنهم جاؤوا في صباح شتاء جميل إلى رجال الوادي وهُم برأيهم يمكرون ، وقالوا :

ـ نحن ندعم توجهكم وسنكون بمرجعية واحدة، إذا استطعتم إقناع رجالنا بأنْ يَعدلوا عن رغبة الانفصال عن مجن الساحلية، ويتوجّب عليكم القيام بعزل من عزله الجد الكبير أو تُثنونهم على رغبة الاستقلال عن الوادي.. وما عدا ذلك فافعلوا ما شئتم.

همس رجل للمتحدث باسم الرجال الذين جاؤوا يستفتون الجد الكبير ويطلبوا منه التأييد :

ـ لماذا قلت ذلك ؟

قال محدث الرجال :

ـ اسكت أنت …؟ لقد فعلت ذلك لكي يكونوا في حيرة من امرهم.. فلعلهم يَعدلون ؟

قال كبير قرية الوادي التاريخية :

ـ نحن لم نعرف من هم الذين يُطالبون بالاستقلال ومن هم الذين يُطالبون بالانفصال وأشار إلى الجمع الذين التفوا حول الجد الكبير.؛ لا اعلم لماذا تستخفّون برجالنا، إنهم قادرين لمواجهة الغرباء وردعهم، فلماذا ُتهيئون غطاءات للانفصال ؟ من أجل ماذا ؟ ولصالح من ؟ وممن تخافون ؟.

قال الهامس مُجاهراً بالخروج عن الرجال الذين اجتمعوا بالجد الكبير :

ـ نحن رجال القرية الناشئة، نقول أن الجد الكبير سيظلّ مَرجعنا ومقام تاريخنا، وسنبقى إلى جانب مرجعيتنا التاريخية بقرية الوادي؟.

نهض رجل مُتحمساً وتحدث أمام الجد الكبير :

ـ أنا من رجال قرية مجن الكبرى ونرفض الخروج عن طاعتها، و أقول للرجال جميعاً، الانفصال عن مجن فلتة تاريخية؟.

قال كبير الرجال بالوادي :

ـ إني ناصح لكم، ابقوا مع رجالكم، كونوا على مرجعية تاريخية واحدة ؟ لا تتفرقوا، لا تختلفوا، واتركوا الغرباء، واطردوهم من قريتكم؟.

أحْنى أزهر رأسه احتراماً لمكانة جده الكبير وعظمته، وقال : صدقَ كبير الرجال، فجدي الكبير ـ في كل مرة يُؤكد ـ أنّ سيرة رجال مجن ، سيرة طيبة ، فهم رجال مفخرة للتاريخ العميق بوادي الرمال ، وقد ابْتَلَت مجن الكبرى بالأشرار كما ابتلتْ قرية الوادي بالمخالفين ، فالشر ـ يا سيدي ـ شيء مُظلم .. لا تُعرف عاقبته، ولا خير فيه غير المحن والمصائب.؛ واذكر هنا، سيرة قرية مَجن الكبرى ورجالها مُستلهماً من جدي الكبير وسيدي وليد أنّ تقسيم قرى الوادي إلى قرى ظاهرة وأخرى باطنة مكينة، ليس فيها دلالة إلى الأصْل فسيرة أهل قرية مجن الكبرى ، ومجن اسم على مُسَمى ، صَلبة وعتيّة على المُغرضين، وهي الإرث الحقيقي لسيرة رواسي التاريخ وشموخه ، وتحمل في عُمقها هيبة وسيرة غابرة عُرفت منذ التكوين الأول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى