الاعـتـزاز بالهـويـة..
رحمـة بنت مبارك السـلـمانـي
الاعـتـزاز بالهـويـة..
المجتمع هو ذلك المكان الذي يجمع مجموعة من الأفراد الذين يؤثرون فيه ويتأثرون به، تجمعهم فيه الكثير من السمات والمصالح والعادات والتقاليد والأحداث على مر الأزمنة، ومع تغيّر العصور وتقلّب الدهور، تغيّر بنو البشر كثيراً أصبحوا منطوون لأبعد الحدود، تُشكّل هويتهم وترسم ملامحها أجهزة رقمية تتملكهم ويقدسونها حتى النخاع، يحدثونها ويهمسون لها ويتأملونها ليل نهار يثقون بها ثقة عمياء لدرجة البوح لها بأصغر أسرارهم وأكبر خطيئاتهم وأخطر خططهم وتحركاتهم، تشاركهم حتى خلواتهم وأوقاتهم الخاصة، يزوّرون من خلالها الحقائق ويخدعون أنفسهم، ويتلصصون على الآخرين، ويسرقون تفاصيل كثيرة لا تعنيهم، يقرأون ويكتبون ما لا يعوون، تلك الأجهزة اللعينة غدت كجنية فاتنة تغري كل من يرى مفاتنها وتجره لمخدعها، لتتمكن منه وتَسكُنه وتحركه كدمية أو كآلة كيفما تشاء، ثم تدفنه قبل الفناء، عرف صانعوها صنائعها في البشر فأحسنوا استغلال محاسنها وتفادوا بفطنتهم مساوئها.
تُعد تلك الأجهزة أحد الأسلحة التي غيرت نمط الحياة والكثير من السلوكيات، ودمرت الكثير من مقومات الهوية كالدين والقيم والأعراف، وحرّفت حتى اللغة التي هي هويتنا العربية، فأصبح الكثير من الناس متخبطين ليس لهم هوية محددة بل منغمسين في تقليد الآخرين في لغتهم ومظهرهم وسلوكياتهم، لذلك فإن الحفاظ على اللسان العربي هو حفاظاً على الهوية التي هي قيمة النفس الإنسانية، ولست أعجب سوى من أولئك الذين يلبسون لغتهم العربية ثوباً بشعاً مرقعاً بألوان أخرى ليبدون كالمهرجين، ويعتقدون أنهم وصلوا لمستوى عالٍ من الثقافة والمعرفة بلغتهم تلك، حتى يدفنون أجمل وأرقى الألفاظ العربية الفصيحة في مستنقع لغتهم المصطنعة، وما شجعهم على ذلك حرص بعض الآباء على تعليم أبنائهم لغة غير لغتهم الأم منذ الصغر، معتقدين أنهم بذلك يسارعون لمواكبة متطلبات العصر ومسايرة الحياة العصرية.
بالطبع نحن لا نعيش بمعزل عن العالم، كما أن مواكبة الحياة العصرية والانفتاح على العالم لا يعني بالضرورة دهس الهوية الوطنية ونسفها، بل الواقع يحتم علينا إبراز الجوانب المهمة في الهوية العربية بشكل عام وترسيخ ملامح الهوية العمانية بشكل خاص، والعمل على تطبيق ذلك التوجه عملياً وليس مجرد شعارات برّاقة، فمن المفترض والمأمول أن يعمل التعليم على تعميق الهوية الوطنية من خلال العملية التعليمية بمختلف مناهجها ومراحلها، إذ لا يمكن فصل الهوية عن التعليم فهما يمثلان عملية تكاملية وتكافلية، من شأنها أن تُعزز من الاهتمام باللغة والدين والقيم الأخلاقية والعادات والتقاليد والموروثات الاجتماعية والعلاقات والأحداث التاريخية، لذلك فمن المهم إيجاد أدوات ووسائل تفاعلية تعتمد على الكيف وليس الكم؛ لضمان الوصول إلى الغاية المنشودة، والمساهمة في جعل الأجيال القادمة قادرة على فهم مقومات الهوية، واستيعاب أهمية الحفاظ عليها والاعتزاز بها في كل زمان ومكان.
الهوية هي عنوان وكيان لكل إنسان وتأشيرة دخول لكل الأماكن والوجهات حول العالم، وبها نحمل الوطن على رؤوسنا وأكتافنا لنباهي بها جميع البشر، الهوية تمثل لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وأرضنا ومصالحنا وجميع سماتنا المشتركة، ولا بد أن نمارس اعتزازنا بها ليل نهار، ونزرعها في أرواح الأجيال القادمة وأذهانهم ونبثها في دمائهم، فينبغي أن نعلمهم أن الهوية هي سلاحهم ومصدر قوتهم، وهي أمانهم في حاضرهم ومستقبلهم، ويجب علينا جميعاً التمسك بها والمحافظة عليها، وعدم التخلي عنها مقابل ملايين الريالات، فالهوية قضية تستحق أن تدار دفتها باهتمام وإيمان ويقين كامل بمدى أهميتها في الحاضر والمستقبل، وأن يدقق في تفاصيلها الكبيرة والصغيرة، ولا بد أن تبقى مرآة لامعة للأبد، ويجب ألا نرضى أن يَمس هويتنا الدنس، أو أن يطمسها طامس من قريب أو بعيد.
ما أجمل أن يتباهى العماني بهيبة عمامته وأناقة دشداشته معتزاً بعادات وتقاليد أجداده وآبائه، حاملاً عقيدته ومبادئه وقيمه في قلبه مترجماً لها برُقي في تعاملاته، ساكباً شيمه النبيلة في صولاته وجولاته، معتزاً بأصالته وثقافته وبتاريخ أسلافه ليكمل تسطير الانجازات في حاضره ليرسم خارطة مستقبله الزاهي المتفرد، ليميزه العالم عن غيره ويزداد شموخاً وسمواً بحضوره في كل المحافل، وتتحدث عن أصالته هيبته وقوة هويته، بغض النظر عن مكانته أو منصبه أو حسبه أو نسبه أو جنسه، المهم هو أن تبرز الهوية العمانية بوضوح وشموخ كراية ناصعة البياض نُسجت من طُهر، وزُينت بدرر وقلائد من ذهب، يكسوها النور لتبقى براقة على مر العصور، خالية من الشوائب مترفعة عن النواقص.
لازلت أتذكر جيداً أحد الأخوة العرب الذي أطلق عبارته المدوية “الأرض تتكلم عربي” حين رأى سحنتي التي تلوّح بعربيتها من بعيد، في عاصمة إحدى دول شرق آسيا قبل عدة سنوات، تلك العبارة التي ظل صداها يتردد في مسمعي (عربيٌ أنا) ولا زال عالقاً في ذاكرتي، فقد جعلني أزداد فخراً بعربيتي واعتزازاً بعروبتي، وأدركت أنه يفخر بهما أيضاً أينما حل وارتحل، فلغته العربية هي أصل هويته التي بدى متفاخراً بها، كما يفخر بكل لسان عربي يتحدث أو ينطق بها، كما داهمتني مشاعر ممزوجة بالسعادة والقوة والعظمة في آنٍ واحدٍ، لتزيل عن صدري وفكري الشعور بالغربة والتيه، فبعض اللحظات تصبح مجرد ذكريات ولكنها في الواقع تمنحنا دروساً وعِبَراً لسنوات، فمنذ ذلك الحين وأنا أشعر بأني أملك ثروة لا تُقدّر بثمن.
صحيح بالفعل مقال رائع ولابد من الاعتزاز بالهوية في زمن الكثير منا تركها ليتباهى بالموضه