قصص ، رواياتمنوعات

روايـة : وادي الرمال .. الحلقة 23..

حـمـد الـنـاصـري

 

روايـة : وادي الرمال .. الحلقة 23..

 

يَعتز الرجال بمكانة الجدّ الكبير؛ لكنهم على اختلاف دائم مع جماعة الوادي وعلى رأسهم وليد؛ فالرجال يَرون أنّ أصول تكوين الحكايات هي عبارة عن قصص مَبثوثة مُثيرة للجدل ولا تضرّ بمصالح الوادي ولا برجاله؛ بينما يرى وليد وجماعته؛ أنه ليس بمُستحسن أنْ تُروى القصص وتُسرد كحكايات مُتفرقة مُلتوية ومكذوبة ثم لا تلبث أنْ تتحوّل إلى خزعبلات مُثيرة للجدل، وإذا ما تحوّلت الأساطير إلى حكايات تقليدية؛ فإنّ مَتْنها سيتحوّل إلى أفكار يَعتقدها الإنسان؛ بل وقد يظن بأنها قدر وجودي.

رفع وليد رأسه قليلاً ونظر في الوجوه وكأنه يتفحصها .. وقال :
لا أُحَبّذ الأساطير الخالية من القِيَم الأخلاقية؛ فالحكايات المبثوثة غالباً ما تكون مَسمومة ومَتْنها يكون سَقيماً بالعلّة نفسها؛ فثقافة التشويش لا تُفرز غير سُلوك سَقيم مِعْوج، وذلك الاعوجاج سيُعيدنا إلى أساطير مكذوبة بسقم حكايات باهتة؛ لا سبيل للمجتمع إلّا بتقديس حكايتها؛ سواء أكانت بسلوك مُشوشة، أو بأفكار مُتفرقة؛ فالقِيَم المَبثوثة خاليَة من الحقيقة، وخاوية من إرثها الأخلاقي.

★★★★★

بدا ثُلّة من الرجال يتزاحمون على مجلس الجد الكبير؛ فهو الشخصية التي لها أثر كبير، ولها سطوة الهيبة وقوة الجاذبية المُهابة؛ بل إن أكثرهم يرى أنه فيض من أولئك الأقوام السحيقة، وحين فرغ مكان الجد الكبير لقضاء حاجة؛ تقدّم وليد وقد تقمّص شخصية جده المهابة :
لا أخفيكم سراً؛ لقد انتشرتْ الحكايات في أرجاء مَعمورة الوادي بطرق مُختلفة مَبثوثة ومُتفرّقة .. فالحكايات المسمومة تُثير الأسْقام وتُسبّب الأوجاع، وتُهيّج التخاصم، أعني بذلك، أكذوبة الأساطير، وانْتشارها في المجتمعات .. فأولئك الأقوام من الناس عقولهم هوجاء خاوية، ونفوسهم بالشر حاقدة.

أحنى رأسه إلى صَدره، وتلىَ كلاماً على مسامع الرجال لأول مرة يَسْمعوهُ من كتاب المجد الأول للجد الأكبر :
“وإذا قُرئتْ عليهم أحاديثنا، قالوا سمعنا وعَلمنا وإذا خلو إلى بعضهم، قالو لا نُطع أحداً ولم نسمع قولهم ونحن عُصبة، فماذا هم فاعلون ؟ إذا هم في أساطيرهم مُختلفون؛ أؤلئك الصلْف من الرجال لم يقتنعوا بل عَصوا وصَمّوا آذانهم، وترفّعوا عن قومهم، واغلظوا وجعلوا من انفسهم فوق الناس وعلو عُلوا كبيراً، وتباهوا بقوة بأس الرجال، واستكبروا استكباراً كبيراً، وتعاظموا برفعة شأنهم ولم يُذعنوا للحق، وازدجروا كل ضَعيف وتكبروا واغتروا غروراً كبيراً، وتعامُوا عن الحقّ ولم يذعنوا إلى أدلة الرمال، ولم ينظروا إلى السماء، ولم يَلتفتوا إلى شمسها وقمرها ونجومها، إنهم قوم لا يَرشدون؛ قوم أنكروا وجحدوا كل شيء !! فخاف ضِعافهم واستكانوا وذلوا أنفسهم”.

وحسبما قرأت في المجد الأول، أنّ رجلاً قوي العزم، انتصر للضعفاء وقال لقومه :
إنّا تاركوا تُرّهاتكم وأكاذيبكم، فاغلظوا قولكم كيف شئتم ؟ واعلموا أنّ الرجال ـ وأشار إليهم ـ سوف يتركونكم ليس عِناداً ولا ضَعفاً منهم، ولكنهم لنْ يَصبروا على الذل ولا إلى إهانة كرامتهم، وتلى الرجل ذي العزم، شيئاً من السيرة الأولى : لقد جئناكم بالحقّ ولكنكم عنه تَعدلون؛ ذلك القصص فيه عِبْرة لكم من سيرة أبيكم الأول، الذي أنتم من صُلبه أُخرجتم، وإياكم وتخرجون عن مزيّة الفضيلة؛ فيُصيبكم ما أصاب غيركم، من مَعرّة، واخشوا زواجر قادم أيامكم ولا تميلون إلى غير سَداد رأيكم وحصافة ألْبابكم، فإنّكم عن مَيلكم سوف تُسألون.

★★★★★

ساد هرج بين المُجتمعين وازداد مَرجهم كنباح الكلاب في سَواد اللّيْل!. وتقطّعت بينهم سُبل التفاهم، واختلفوا وتفرقوا، وجاهر بعضهم بالاختلاف!. فخاف وليد عليهم تفرّقهم، وقال :
هدوء أيها الرجال؛ لا أقول إلّا خيراً؛ أولئك النّفر من الناس أو غيرهم والذين يأتون بعدهم؛ أقول لهم : كُفّوا ألسنتكم، وصُمّوا آذانكم وتَعاموا عن الحكايات المُثيرة للأسْقام والأوجاع.

سكت وهو يتفحص الوجوه ويُطلق نظره إليهم باندهاش :
أنا أسألكم فأجيبوني :
هل سُموم الاسْقام بها شيء مُفيد ؟
وهل بواطن الأوجاع تأتي بغير التّخاصم.؟

سكت ثم أردف :
أطرح أسئلتي عليكم هذه، علّها تُخفف من شِدة اختلافكم، فالحكايات في وادي الرّمال، لا قيمة لها وبلا مُنطلق فكري، وقديماً قِيْل : إنّ العين المكسورة تحزن إذا وقعتْ في الخطيئة، وتخشى إذا تعامتْ عن الحقيقة.
ويعني ذلك، أنه إذا صوّبتَ نظرك إلى حيث الخطيئة، تَرتكب حماقة، ورُبما تَزداد الأخطاء وتتكاثر تداعياتها، وإنْ تكاثرتْ التداعيات، حدثتْ الخِسّة والدناءة، وإني ناصح لكم : أصلحوا أنفسكم، فإن لم نُصلح حالنا، فقد نكون بلا طاقة ولا قوة، وإنْ اتّكأنا على ماضِيْنا وعلى عراقتنا دون أنْ نُسَخّر الحياة لسعادتنا عليها، فسوف يختفي عن أعيننا سِرّها وتَنجلي أقدراها، وإذا انجلتْ وغابت ذهب النور ! ولا أحد منكم سيَعلم ماذا سيحدث بعد ذلك.

لم يجبهُ أحد .. ظلّ كل شيء في صمت!.

★★★★★

كان الجد الكبير، لتوه قد عاد بعد قضاء حاجة له، وحين أخذ مكانه في صدر مجلس الرجال واتكأ على وسادة كبيرة خُصصت له، سأله وليد بلطف :
أليستْ الحكاية المكذوبة في أرجاء الرّمال، كالخُرافة التي سِيْقت عن القرية وهي من قصّتها بَراء؟.
وهل ما قرأته من كتاب المجد الأول لجدي الكبير الأكبر كان صحيحاً؟.
لا أعلم ما الذي قلت لهم!!.
كنت أقنعهم، أنْ نستمر معاً من أجل الإصلاح، إصلاح الحياة والناس والرمال، وأبلغتهم بأنّ ما سوف يحدث من بَعد غَفلتنا؛ سيكون الأمر عظيم وشاق، وسوف تتفرّق أكواننا، وتتشتّت بيئاتنا، وتتمزّق مَعايشنا، ولذا ـ فعلينا جميعاً ـ أن نُصلح انفسنا أولاً؛ فتصلح الحياة والرمال؛ فالإصلاح واجب والتجديد واجب مُلزم؛ وما أخشاهُ، أنْ تأتي أقوام فتكون شديدة علينا، وعندها تكون طاعتنا قدر محتوم، ولنْ ينفع معها عِصْيان أو حتى إصلاح، وقد قيل قديماً ، من لا تُصلحه حياته لن تُصلحه حياة غيره، ومن كتاب المجد الأول قرأت لهم “فستخلف الحياة مِن بَعدكم خلف لا يَتّبعونكم في رأي ولا يَجدون فيكم صلاحاً، خلفٌ يَتّبع الاهواء والملذّات بغير الرشاد، أولئك النّفر سوف يَلقون بُعْداً عن الحياة وسَيميلون إلى الفساد في الرمال”.

قال الجد الكبير بصوت فخم، وعينين لامِعَتين، مَشدودتين إلى وليد :
إنْ كنت قلت ذلك فأنت في الطريق الصحيح، فكُل الحكايات المُشتّتة اشتقّت من رجال حمقى لا مكانَة لحماقتهم في وادي الرمال، فؤلئك الرجال الذين أشرت إليهم، كذبوا على أنفسهم واستعاذوا بشيطنة افْكارهم المُلتاثة، يقولون ما لا يَفعلون ويَكذبون ولا يَصدقون .. يُحدّثون الرجال عن أهل السيرة الطيبة كذباً، ويَبلونهم بالكذب والزّيف، والذين يُحدثونهم يُصار إليهم، ما صار إلى غيرهم ويبلوهم بما يُحدثونهم من كذب وزيف ومهما كانت الحجج التي اقتنعوا بها، فلا ريب، أنهم يُسَمّمون حججهم بالكذب والزيف والبُهتان والاختلاق، وذلك هو الخداع، فلجوء الرجل للكذب تسميماً للثقة بالنفس وتَضْعيفاً للصواب وذلك هو الفُجور من القول والعمل، فإذا أحْسن الرجل وكان صَدوقاً أصلح نفسه وغيره وكان حاله أقرب إلى الإصلاح.! ولْتَعلم بُنيّ: أنّ أولئك الحمقى غافلين بل هُم قوم رِعاع، يَتطرّفون بهزيل غُثائهم، ويَظنون أنه سبيل النجاة؛ يُصدقون أنفسهم بأنهم في أحْسن حال من غيرهم، وأنّهم يُحسنون صُنعاً بأكاذيبهم ويُصْلحون بالقول نياتهم ويُفسدون الرمال بأفْكارهم .. فضلّوا وتاهوا عن السبيل القويم وابتعدوا عن إصلاح الحياة، واتّبعوا ترّهات أحلامهم، وفُقاعات حماقاتهم.

وأمّا ما قرأته من كتاب المجد الأول للجد الأكبر، فقد استأنستُ لسماع ذلك القول الحكيم.؛ ونظر إلى الجموع المُتحلّقة حوله، وقال مُلوحاً بيده : يتوجّب عليكم جميعاً، أنْ تكونوا أَكثر إدْراكاً لخساسة الحمقى، فالانحطاط لا يُورّث غير الدّناءة والخسّة وأيّما خِسّة، لن ترفع مكانتكم ولن تقودكم إلاّ إلى المهانة ولا تسير بكم إلاّ إلى الهاوية، فاحذروا، إحذروا تُرّهات كل شيء واجمعوا أمركم بينكم وشُدّوا الوثاق عن خساسَة النفاق ولا تقارنوا أنفسكم بغيركم وترفّعوا عن كل مهانة.. فأنتم أيها الرجال، رجال الوادي كنتم يوماً في أرفع مكانة وقدركم ليس في الرمال وحدها بل في السماء العالية!.

وأما الكتب الثلاثة التي ذكرتها، فإني أذكّر المُجتمعين بها وسأبسط شرحها وأختصر بعضها : فأسطورة المجد، هو تحقيق لكتاب المجد الأول، للجد الأكبر. وأما كتاب سفر التكوين، فهو شرح لحكايات وتفصيل لسرد قصص ونُطق الجد الأكبر.

ولا غرو فهناك من وثّق سيرة حضارة قرية مَجن وسواحلها وقُراها ، وانا شخصياً كتبت شيئاً من تلك السيرة الماجدة ، في جزء مُتكامل اختصرته وقسّمته في جزءين فالجزء الأول حمل في طيّه السيرة الماجدة للقرية مع ذكر سواحلها وبحرها العظيم والجزء الآخر، تحدثتُ فيه، عن قبائلها ومراتب جذورها.؛ وأما الكتاب الجديد والذي أشار إليه وليد ، فقد اتفقنا على تسميته “قيم الجد الكبير” وذلك الكتاب جاء سَعياً من الصبي” أزهر” ويَحمل بين دفّتيه، المُتشابهات والمُتقاربات والمُختلفات وقد فصّلتُ فيه او من خلاله بعض مَواقف من سيرة بن كنعن وبن بريهن ونبوءات من أفكاري وقد سَماها الأخوان، وليد وأزهر، نُبوءات الجد الأكبر، وسأقرأ لكم بعضاً منها “إنّ الذين كتبوا بأيديهم أكاذيباً وسطروا أحرفها وزخرفوها بتلفيقاتهم فسوف يَلقون مهانة وذلاً ، وإياكم أنْ تجعلوا من قصص مَبثوثة ‘ إثارة لحكاياتٍ يمتنع كثير منكم من تصديقها ، وأيّما موقف خلا منها ، فسوف يشقّ طريقه إلى الإطمئنان”.

والتفت إلى وليد وقال: زِدْنا أكثر من مَعين ذلك الكتاب، فكأنّك نُطق فصاحته ورِفْعة مَقامه، ومن لا يَغترف شيئاً من مَعِينه، فقد خاب وخسر!.

★★★★★

عُرف عن الجد الكبير، أنه إذا تحدّث يَحتبس مَنطقه أحياناً وتسبقه الكلمة التالية، وهذا دارج في طريقة حديثه مع الناس، ويُسميه وليد “اعتقال النطق” ويَعني به، أنّ المشاعر قد تتحرّك قبل النطق او تسبقه، ولا يُعد ذلك نقيصة، بل هو مُجرّد اعتقال نُطق واحتباس لفظ، فالكلمات قد تتساقط على المشاعر وهو ما يُعرف بسعي المشاعر وأكثر أهل الفصاحة يُعرّفونه بأنه استرسال مُؤلم يحدث غالباً عند كثير من الناس.

سكت الجد الكبير ثم أردف مُعَبّراً :
كل مخلوق تُصيبه مشاعر اعتقال النُطْق وتختلف من شخص لآخر، وقد تُرافق البعض تلك العلّة حتى نهايته.

قام شاب يَصغر وليد في العُمر، وقبّل يد الجد الكبير وقال :
ازددت إعجاباً بك يا جدي، ستبقى قوة ساطعة لا تَطغى عليها قوة ولا تعلو عليها مَنزلة، أُمْنيتي أنْ أكون خالداً.

قال الجد الكبير ممازحاً الصبي أزهر، ويهز رأسه ضاحكاً مُتبسّماً وعينه يَغرزها في عين حفيده:
نعم بُني، ولكنك، أزهر وليس خالد، فأنت زاهر برونق حياتك على كل شيء، وأرجو أنْ تكون خالداً كما أحببت.

دمعت عين الجد الكبير وأردف قائلاً :
لكل مِنّا ـ يومئذ ـ شأن يَقضيه لا بوسعه تغييره.

بدت شمس النهار تَخفت وهيَ تستوي كقرص رغيف، وبدا نشاطها يَضعف ويَغوص في عُتمة غليظة ، وأخذ الليل يُؤثر بقوته على الاشياء ، حتى غدتْ كظِلال مُخيفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى