رواية وادي الرمال .. الحلقة 20..
حـمـد الـنـاصـري
رواية وادي الرمال .. الحلقة 20..
أخذ ناشب يَسرد حكاية جميلة عن وليد على غير عادته وكأنّ أفكاره تقلّبت بمشاعر جديدة، قال صديقه نافع وقد نَفَض عن نفسه غبار الخوف والْتقت عينيهما في بَعضهما، وكان كلّ واحد منهما مُعجب بالآخر.
اقترب نافع مُسْتمتعاً بحديث صديقه ناشِب، فقال ناشِب وهو يمدّ سبابته ناحيته: لا تجعل الافكار السلبية تَقف حَجر عَثرة لفهم أفْكار وليد وما يَقوم به من عَمل يَخدم الحياة بالقرية والوادي والرمال، فالمواقِف السّلبية تُزعزع ما في داخلك من إيجابية، لقد اخطأنا في تقديرنا بما يَهتم به وليد في الوادي، فأفكار وليد لا شِيَةَ فيها ولا عُيوب في أفكاره، ناصِع البياض نقياً، ولو اقْتربت من وليد لَقُلت لي ما قُلْته لك.. لا شيء في أفكاره يُخالف الفِطْرة ، رجل سويّ ونقيّ طاهر السريرة ، مَواقفنا ضِدّه كانت من باب حماسة الناس والأخذ برأيهم دون دراية ودون مَعرفة ، وسأوضح لك الصورة الكاملة ، صُورة وليد الحقيقية.
إنّ أفكار وليد ، لكأنما هيَ تلك القصص الخالدة والتي انكشفت غُمّتها بعد سِنين وسنين ، ثُم وبَعد حين من الدهر ، تبيّن أنّ غموضها نوراً يملأ الحياة عطراً فواحاً ، وتلك القصص التي يَرويها وليد مُسْتكشفاً تارة وبالمُغامرة تارة أخرى هيَ في الأصْل سَرد بَعيد ، عَبّر عنه الأوّلين في سِيرة تَكلّمت عنها ايضاً، لكني أخفيتُ حقيقتها كسِيْرة تستحق الوقوف والثبات عليها ، وما فعلته يومئذ ، كانت مَعرفة بجهل مني ، وجدّ واجتهاد من وليد ، يُقابلها إضاعة وقت او إسراف في الحال ؛ نعم صديقي ، وأخصّك بهذا السِرّ الذي أخفيته ، فلا تَطّلعه على أحد غيرك : قرأتُ في كتاب الكون الأوّل وصحيفة المجد للجد الأكبر وكتاب التمكين او اسطورة المجد وهي تحقيق لسيرة وقصص الجد الأول للجد الكبير.
قال نافع مقاطعاً وقد دخلت كلمات صديقه ناشِب في عقله وفكره : وأنا سأكون لك صديقاً ، افْعَل ما يَنفع الحياة لخير الناس.؛ وسأكتُم سرّك ، والسماء ناضرة إلى كل جميل وإلى كُل نية طيبة .؛ وأعدك بأنّي سأدع فضول الرجال المُخالفين ،وسأبتعد عن أولئك الرجال المُتقلّبين بأحوالهم ، والمُرائين بلا هدف لهم في الحياة؛ نعم وأقولها وأنا واثق من نفسي ، لن يَصلون إلى الغاية التي ينشدها وليد أبداً!.
قال ناشب وهو يهزّ رأسه : نعم ذلك هو الصحيح، وأقول لك أمراً وأنا على يقين وثقة، أنّ وليد صادق النيّة بلا رياء ولا تزلّف، والرّياء ليس أسلوبه، فهو رجل سَليم القلب وله حكمة عالية ورشاد مُستنير.؛ وما تحدّث عنهم وليد في قصص الاستكشافات وحكايات المُغامرات، فأولئك الأقوام ليسوا مِنّا كما تحدثّ عنهم، ولعلّهم أقوام رانَت قُلوبهم فسَكنوا الرّمال وعاشُوا على إراقة الدّماء، أو لعلّهم خِلْقة غير لائقة، لا ضمير لها ولا مُعتقد تُؤمن به! وأكاد أجْزم أنّ وليد لا يَكذب ولم نُجرّب عليه كذباً او زوراً، وأمّا قباحتهم التي ذكرها وليد، فلربما تعود إلى الإدهاش الذي يُثير القرف والاشمئزاز، أو ربما نتيجة لأفعالهم الخافية على كثير من الناس.؛ بل هيَ بعيدة عن الحقيقة الثابتة ، فالذين رانَت قلوبهم عن حياة البشر هُم ذو وحشيّة وقسوة.؛ وهو الاعتقاد الجازم الذي جاء به وليد، ووصفهم بالأشرار او القاسية قلوبهم بالضلال.؛ ولا أخْفيك سِراً فقد قرأت قِصَصاً في الأثر البعيد، مِثْل التي قصّها وليد، فقد وجدت أقواماً في وادي الرمال بنوا عليها جهلهم بأساطِير زعموا بأنها مَصدر الضّرر المباشر للإنسان؛ وتلك الاعتقادات ظنية غير جازمة ، ويأتي الشكّ في تأويلاتها وفي رُؤى تفسيراتها واختلافاتها نصاً ومُعتقداً.
سكت سكتة خفيفة .. ثم أردف : قد تختلف مصادر المعرفة التي نَهلوا منها ، كاختلاف الحقيقة التي ضمّت كل تلك السرديات والأدبيات والحكايات منذ العهد الأول لغاية عهد وليد ، ومن خلال معرفتي وقراءاتي ، أنّ تلكم الاقوام مَسّها ضَرر للإنسان ، لكنّ ذلك الضرر لا يطول إذا امْتلك الانسان العزم وكان له مَصدر قوة دافعة للثبات ، والاساطير التي نُسجت حولهم ، هي التي بَدّلت خَلقهم ، فكثرتْ القصص التي انسجمت مع واقع التخيّل ، فتطايرت وتناثرت ، وعلى أثرها تفرّقت الافهام وتشتّت الأفكار ، فمنهم من قال بأنّ أماكنهم عميقة في البحار وبعضهم من قال بأنهم يَلدون بين الأشجار ويَغوصون في الرمال ويأكلون على التلال ، ولا دليل على ذلك ، فالرمال كثبان وتُخوم والتلال والجبال فواصل بين القرية والقرية وبين الجبال والوديان أشجار كبيرة وصغيرة ، نافعة للإنسان وضارة لغيره وأشجار نافعة للحيوان وضارة للإنسان؛ فأيّ حقيقة يُمكن أنْ نُثبت عليها ونتمسّك بها؟ وأين نجد مأوى ومُستقر تلك الاقوام.؟ وهل تلك الاقوام تعمل وتأكل مِثْلنا؟ والبعض الاخر أطلق عليهم “الآثمين” فكيف يأثمون ولا يُبادلوننا؟ والبعض الاخر قسّمهم إلى أقسام وفئات بل وإلى طبقات ، فمنْ يتوطّن الكهوف ، يَمتهن الشرّ ، ومن يَسكن الجبال المُسالمون ومن يسكن الاودية مُغامرون ، وزوجاتهم يدخلنَ في الصخور ، وأطفالهم يَلعبون بماء الوادي، وكل فئة او قسم له خواص وملامح ، فبعضها يتغيّر ويتشبّه وبعضها من يَهرب من الانسان.؛ بل وأنّ بعضهم قال أنّ المُسالمون منهم هم الذين يَدفعون الأذى عن الانسان ويُجابهون شُرور الخارقين الدموية بقوة خارجة تُسْعف او تُنقذ الانسان لكنه لا يراهم ولا يُحس بالقوة التي تُنقذه.؛ والاشْرار الخارقون يتحوّلون بسرعة مُدهشة.
سكت ثم أردف : ولا اخفيك سراً ، فأنا لي كتابين ، تحدّثت فيهما عن الأشْرار ، صِفَة ، ودَهشة ، وقوة ، وعن الْمَسّ النافع منه والضار وكذلك المُتحوّلون واجناسهم الطائرة ، كل ذلك ذكرته في كتابيّ اسْفار الوادي وأسْمار الرجال.؛ ولكنْ وللأسف أنّي كتبتهما قبل أنْ أؤمن بما جاء به وليد من معرفة وطرائق قِدداً واعتقد جازماً بأنّ ما يَفعله هو الاكيد .؛ ذلك وحسبما تأكّد لي من قراءات كثيرة في الأساطير والحكايات ، أنّه حقاً ، منهم المُسالم ومنهم الشرير ، كما جاء به وليد؛ وهذا الجنس ـ الشرير ـ هو الأكبر او الأعظم قوة .؛ وقد يكون أولئك الاشْرار ، فُرادى وجماعات ويَتفرّقون إذا أحسّوا بالبشر ، فلهم خاصية تُشعرهم بسرعة كالبرق ، ويَخترقون المسافات ويَعلم كل الذين كانوا في ذات المكان.
برهة توقف عن الحديث وأطال نظره في صديقه الجديد نافع لكأنه يَزيده طاقة اكبر ، ثم قال : في الحقيقة كان مَسْعى وليد ومُغامراته في وادي الرّمال اكتشاف غير مَسْبوق على الرّمال على الرّغم أنّ أولئك الاقوام مَوجودين منذ خليقة التكوين وبَعضها يَرى أنّهم قبل الانفجار الكبير وانشطار التكوين بقرون وسِنين يَجهلها الانسان.؛ ويُقال ، أنّ قرىً ظاهرة حملت أفْكاراً حاقدة على قرى الوادي ، ومنها القرية التائهة التي عَفا عليها السّيْر إلى ما يَنفع الناس وارتأتْ أنْ تُخَلّد ذِكْراها بالشرّ كحال أولئك الاقوام الأشْرار.؛ وتلك القرية الناشئة ظهرتْ تائهة على مشارف الوادي، كعرصة مُثقلة بالجفاف ، وبها إقْفاراً يابسة ، ومَلامحها مُضطربة لكأنّ الزمن جار عليها.
قال نافع لصديقة ناشب مُقاطعاً : هل أسْباب ذلك يعود بأنّ أقوام القرية التائهة يُشْبهون الأشْرار الذين يَسكنون الجبال والبحار وهؤلاء يَسكنون القِفار اليابسة والمياه الضَحلة، وتلكم هي أسْباب اضطرابهم.
ضحك ناشب وقال : لا يا صديقي، أولئك أصْحاب القِفار اليابسة يُمَنّون أنفسهم بِخَلاء فيه ماء وحياة ورجال، ويُمَنون أنفسهم أكثر من ذلك، بقوة يَعتدون بها ويَقبضون قبضتهم على الوادي والقرية المكينة والعتيقة، وهذا أهم شَأن لهم.؛ يَتعاملون مع أناس أشرار من البشر لا يُقيمون لهم وزْناً إلا ما يُفكرون به من مَكر وخداع، وأبْناء القرية التائهة، خطرهم كبير ، لأنهم يُمكّنون الغُرباء بقبضة قوية على الوادي، كُلّما اشتدّت بهم السُبل وتقطّعت القِفار اليابسة عليهم وانغلقتْ البحار العميقة وسُدّت أبوابها في وجوههم .؛ولذلك فهم يُمَكّنونهم في أرضهم ويَخونون أنفسهم وأهليهم.. ورجال قرية الوادي يُدركون بأنّه إذا أحْكَم أبناء القرية التائهة قبضتهم على الوادي ورماله القريبة والبعيدة وعلى بحاره الكبيرة وسواحله الطويلة والضيّقة، سيكون البحر الطويل في خطر مُحْدَق ، ويَرونَ أنّ تحصينه من شُرور الغُرباء من مُوجبات الاسرار اللازمة.؛ واعلم أنّ لكلّ خطر وشِيْك مُسْتشعر ، وكل مُسْتشعر له صِدام صامت لا يُدركه إلاّ قليل ، وفي حالة اكتشاف الخطر ، فإنّ الامر يدعوا إلى وقفة صَلْبة وإلى بذل جهود كبيرة غير صامتة واتخاذ قرار صائِب لمواجهة الخطر، والعاقل لا يُخدع بالأفْعال السيئة.؛ وإني أتوقّع أنّها سوف تكون ضربة مُوجعة إذا غابت الشمس عن قرية الوادي.؛ واعلم يا صديقي نافع ، أنّ الرمال الحارقة ليست كضوء القمر، والحال كذلك ، فتشويه الملامح التاريخية ، تَعني تَفرّق وانْقسام وشَتات وانْشِقاق ثم يَتلوه بؤس كالح وضَلال من الافكار بين الناس.
ومن هذا المُنطلق حملَ وليد هموم الرّمال وحملَ على عاتقه أمانة الوادي، وعاهَد جده الكبير بِلَمّ الشّمْل وتجديد الحياة على الرّمال، وألْزمَ نفسه بإعادة شَتات الرّجال إلى حياة اليُسْر والتّصالح مع القُرى المُتفرّقة، هذا الإلتزام جميعه ظهرَ كصراع حقيقي وكان هو الهدف والغاية بالنسبة له، ولا شك فيه، أنّ وليد كان يَعمل بما يُؤمر به.؛ ويُمكن أنْ تسألني: لماذا.؟ ذلك أنّ الامر غدا أمْراً مُسَلّم به، ولا يستطيع تجاوز طريق النجاح.
لذا تجد وليد يَخشى العِراك الطويل او الجدل الفوضوي الذي لا يُفضي إلى تحقيق الحُلم، أو إلى الجدّية بشيء؛ وكان النجاح رِهانه الحقيقي؛ ووليد يَقْدر على ذلك، لكونهِ رجل ذا فَهْم مُختلف وذرابَة تَفكير عالية.. وفي الحقيقة يا صديقي، تَعْلم أنّ الامر يحتاج إلى تصويب أكثر، فإنْ أخطأنا التَصويب، فقد يُكلّفنا الكثير من الانفس والمال.؛ وأكثر ما أخشاه، تخلخل رجال وليد وتمدّد الذين يكرهونهم ولا يُطيقونهم.؛ وذلك هو الخطر الحقيقي للوادي والرمال.؛ والسؤال نُعِيده مرة أخرى، لماذا؟ لانّ الخطر يُؤدّي إلى اتساع رُقعة العنف والقسوة، وهو سبب رئيسي لوجود الغُرباء وامتدادهم! ومن قناعتنا أنّ وجود الغُرباء، سبب أكبر لخطر قادم، فالغُرباء حقدهم دفين بالكراهية التمييزيّة والكراهيّة تحمل معها شُعور العُدوانية التي أسْهمت في اخْتلاق العُنف المأساوي بين قرى الوادي، وأسْهمت بقوة إلى ارتكاب كراهية تحريضية بين رجال الوادي ، والغُرباء لا يَكُفّون عن عِلَلهم المُعادية لقرية الوادي وافتراءاتهم الرخيصة للجد الكبير ، وما تراهُ اليوم من صُدور مُفْعَمة بالأحقاد بين رجال قرى وادي الرمال، هُم بذرة تلك التوتّرات والانشقاقات من أجْل تفتيت وانفصال قرى الوادي عن بعضها، حتى يُسَهّل عليهم مُهِمّة تقسيم وادي الرمال ، إلى انتماءات ضعيفة، عِرْقية او لُغوية أو إلى مجموعات سُكانية أثْنِيّة .. ولك أنْ تتخيّل الزعامات والقرى الناشئة وحُبّ الظهور والتَّسَيّد في وادي الرمال، كُلها أسباباً غير بَعيدة، تكشف عن هدف خطير للغُرباء.
سكت .. ثم أردف : والشّمس إنْ غابت حلّت الظُلمة واصْبحت التلال والرمال كأشْباح في الظلام.. وإنْ أفلَ القمر يأتي نَهار الفجر. سَنُعيدها سواحلنا وقُرانا والبحر. وإنْ جار الزّمان فلا تأسفنّ على بعض البشرْ. إذا ما ارتضوا المهانة والدّنية. فهيهات هيهات أنْ تُقطع أشْناب الأسَد. والعَهد في سيّدي وليد قد انْعَقد. هو مِن نَسْل جدّه الأكبر ثم الكبير جدّنا. لا نَنْقض العَهد وناشِب نِعْم الصديق المُنتظر.
دَمعت عَيْني ناشب وأزاح دمعته من على شواربه وتَدحْرجت على لِحْيته وجَفّف دمعته ، وطفِق يَمسحها حتّى أيْقنَ أنّها تَوارتْ عن أنْظار صديقه وقال : أنّه من الواجب الأخْلاقي أنْ أفْرح بك صديقاً كريماً ، تُؤمِن بأفْكار وليد ، فلا تذعَن عنه وكن قوياً في إيمانك بفكره ، ولا تَنْقاد للأهواء ولا للتخرُّصات الكاذبة؛ وسأضع يدي بيدك لتحقيق أهداف وليد وترك اعوجاج الموروثات البالية .؛ واعلم يا صديقي يافع ، فنحن جميعاً لم نُجرّب عليه كذباً ، وقد عُرف عنه بالأمانة وصِدْق الوعد ، وعلى العَهد لا يَفتر عنه قيد اُنملة ، رجل حقّ ، يحمل رسالة إنسانية ، خُلاصتها ، فَهْم النّاس جُزء من الحياة.؛ ذلك من أجل تَغيير موروثات الوادي البالية وفق أسْلوب الحياة الجديدة.
رَفع رأسَه إلى صَديقه نافع وقال : لا أحد اسْتطاع أنْ يكتشف أسْرار الوادي الغامضة مِثْلما فعل وليد، ولم يَسْتفد الوادي مِثْلما استطاع وليد ترسيخ الاخلاق بين الناس، فالوادي كان قرية صغيرة وأصْبح قرى كثيرة، فنقل إليها الموروث دون تأثير سلبي، وبدء بقرية الوادي وقد أنشأ ابن السداح قرية على ضفاف الوادي، ولم يُعاديه او يُبغضه .. فلو اقتحم ابن السداح القرية العتيقة فلن يسكت وليد ولا الجد الكبير فهي سِرّ موروث الجد الأكبر، فالقرية العتيقة بها شواهد تاريخية عظيمة، ومُكتسب تُراثي عميق لا يُشابهه أو يُطابقه نظام في سيرته؛ فجبالها تحكي عن قصة شموخ الرجال وسِيرة ماضيهم العريق، ذلك الماضي تَلِيد في حقيقته ومجيد في تاريخه، لا يتكرر ولا يُستنسخ أبداً.