بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

ثمـن الانبـهار بالغرب..

الدكتور/ محمد السعـيد إدريس

mohamed.alsaid.idries@gmail.com

 

ثمـن الانبـهار بالغرب..

 

لم تأت دعوة “الهجرة إلى الذات” بعيداً عن “الانسحاق” أمام الثقافة والحضارة الغربية من فراغ، فالثمن كان فادحاً. ثمن هائل يتجاوز ضخامة وضراوة نهب الثروات العربية تاريخياً أمام آلة الاستعمار الغربية مثلما حدث لكثير من دول العالم الثالث فى أفريقيا وآسيا. فنهب الثروات كان “الثمن الظاهر”، رغم فداحته، أما الثمن الخفى، والأكثر خطراً، فكان نجاح الغرب فى تجذير روابط التبعية بكافة أنواعها بينه وبين مستعمراته العربية وغيرها من المستعمرات ، تبعية بدأت سياسية بإخضاع المستعمرات للسيطرة والخضوع وامتدت لتصبح اقتصادية بتحويل المستعمرات إلى مزارع وآبار للنفط والغاز والثروات المعدنية ونهبها ثم فرض تبعية المستعمرات للحصول على كل احتياجاتها من الغرب بأغلى الأسعار، ثم توسعت التبعية لتصبح “ثقافية” بفرض النماذج الغربية للتحديث كنماذج اقتداء لبناء وإصلاح المجتمعات، وكانت النتيجة أن أصبحت مجتمعاتنا تملك استعدادات فطرية للقبول بالمزيد من الانسحاق والاستعمار .. هذه القابلية للاستعمار هى التى شوهت الهوية الوطنية وأدت إلى إنزواء اللغة الوطنية والانخراط فى موجات من التقليد الأعمى للقيم والسلوكيات والأخلاقيات الغربية التى وصلت إلى ذروتها فى ظل تطور الرأسمالية الغربية إلى رأسمالية متوحشة وفى ظل عولمة الرأسمالية الغربية وامتلاك القدرات التكنولوجية على فرض “أيديولوجية العولمة” ما أدى إلى انزواء الثقافات الوطنية وإلى انكسار الإرادات الوطنية واستلاب الوعى بالحاضر والمستقبل وتجهيل الماضى بل والتبرؤ منه والتعالى عليه بسطحية غير مسبوقة.

الأمر الملفت فى معادلة الخضوع العربى للاستعمار والتبعية الغربية هو صعوبة الفصل بين ما هو ثقافى – اجتماعي غربي جرى فرضه على المستعمرات الغربية فى عالمنا العربى وفى معظم دول العالم الثالث وبين ما هو سياسى- استراتيجى (اقتصادى وعسكرى) تم إخضاعنا لهيمنته. جدلية التفاعل بين الأمرين الثقافى- الاجتماعى والسياسى- الاستراتيجى الغربى، وبين الغرب من ناحية ومستعمراته من ناحية أخرى هى التى حددت معالم الحالة التى نحن فيها الآن وهى التى تضعنا أمام السؤال المصيرى : كيف لنا أن نكسر كل قيود التبعية ونتحرر من الهيمنة الغربية السياسية والاستراتيجية ومشروعها الثقافى ومنظومتها القيمية والأخلاقية؟
لذلك فإن الأنماط والتفاعلات العربية الواجبة مع العالم الغربى (الأمريكى – الأوروبى) على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية لا تنفصل بأى حال عن أنماط التفاعل الثقافى والفكرى بين العرب والعالم الغربى. هذان النوعان من الأنماط التفاعلية وجهان لعملة واحدة، أحدهما يعبر عن تفاعلات مصدرها المصالح الوطنية للدول ، سواء كانت مصالح سياسية أم اقتصادية أم عسكرية يعبر عنها بأنماط العلاقات المتنوعة من الصراع إلى التنافس إلى التعاون، والآخر يعبر عن تفاعلات مصدرها القيم الثقافية والأخلاقية بين العرب والغرب فى شكل حوار أو فى شكل صراع بين الثقافات والحضارات.

وانطلاقاً من هذا الإدراك يمكننا الخروج بنتيجتين : الأولى، هى أن ما نملكه من قدرات وإمكانات اقتصادية وسياسية وعسكرية وما نحظى به من مكانة هو الذى يحدد، وبدرجة كبيرة : أنماط تفاعلاتنا مع الغرب الرأسمالى الأمريكى والأوروبى، وهو الذى سيحدد مستقبلاً أنماط تفاعلاتنا مع المشاريع الحضارية التى تتنازع المكانة الآن مع الغرب وعلى الأخص المشاريع الروسية والصينية واليابانية والهندية. فهذه القدرات والإمكانات التى نمتلكها نحن العرب هى التى ستجعل منا أمة أو دولاً فاعلة وقوية وقادرة على المشاركة فى القرار الدولى أم ستجعلنا أمة ودولاً تابعة وفاقدة للإرادة وخاضعة للهيمنة وعاجزة عن الفكاك من قيود التبعية التاريخية والحديثة.

أما النتيجة الثانية فهى أن مسار تفاعل الثقافات والحضارات سواء كان هذا التفاعل حواراً أم صراعاً تحكمه القوانين نفسها التى تدير النظام العالمى وهى قوانين تخضع دائماً إلى توازن القوى أكثر من توافق القيم وتقارب الثقافات ، فى ظل عالم يموج بالاضطراب والصراع وسيطرة مفاهيم القوة على إدارة الصراعات على النحو الذى تكشف عقب انتهاء الحرب الباردة وظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية متفردة تسعى إلى فرض نفسها “إمبراطورية” من حقها قيادة العالم والسيطرة عليه بعد اختفاء المنافس السوفيتى وتفكك حلف وارسو المناوئ. لذلك لم يكن غريباً ظهور “مبدأ بوش” عام 2002 الذى مزج بين استخدام القوة، والقوة المفرطة والدعوة إلى الديمقراطية (كما تريدها واشنطن كأداة سيطرة وليس كقيمة حضارية) كغطاء لاستخدام هذه القوة، التى اعتمدت استراتيجية “الضربات الاستباقية”، ولم يكن غريباً أيضاً، فى مثل تلك الظروف، أن يكون لمثل هذه المعادلة تعبيراتها الثقافية على نحو ما جاء على لسان المستشرق الأمريكى “برنارد لويس” وعالم السياسة الأمريكى صموئيل هينجتون.

ففى مقال له فى مجلة (The Atlantic Monthly) فى سبتمبر 1990 حول حتمية الصراع بين الإسلام والغرب أكد لويس حتمية هذا الصراع باعتبار أن الحضارتين الغربية والإسلامية نقيضان لا مجال للحوار بينهما. أما هنتنجتون فقد تحدث بصراحة عن “الصراع بين الحضارات” فى مقالته الشهيرة فى صيف 1993 بمجلة (Foreign Affairs) الأمريكية الشهيرة، حيث اعتبر أن “الثورة المركزية للصراع فى المستقبل ستكون بين الغرب والحضارة الإسلامية، منبهاً إلى الخلفية التاريخية العميقة لهذا الصراع بدءاً من سقوط الإمبراطورية الرومانية على يد العرب، وقيام الحروب الصليبية ، وسيطرة الأتراك (الإمبراطورية العثمانية) على القسطنطينية (اسطنبول)، وانتهاء بظهور القومية العربية ومن بعدها الأصولية الإسلامية… إلخ.

هذه المقالة التى طورها هنتنجتون فيما بعد إلى كتاب حمل العنوان نفسه ، حرص على التمييز الحاسم بين الغرب و”الباقى” (The West and The Rest) ويعنى بذلك باقى الأمم والشعوب.

لم تفلح دعوة “حوار الحضارات” التى تحمس لها زعماء ومفكرين وتيارات سياسية عربية وإسلامية فى أن تغير كثيراً من هذا التوجه الغربى الذى يتفاقم الآن بتوسيع أفق الصراع الثقافى والحضارى مع الأمم الأخرى تماشياً مع احتدام أفق الصراع الاستراتيجى الغربى مع القوى الصاعدة فى النظام العالمى الرافضة للأحادية القطبية خاصة الصين وروسيا.

هذه المعادلات تكشف لنا بوضوح شديد أمران؛ أولهما، أن الثمن الذى دفعناه لخضوعنا للغرب كان شديد الفداحة، ثانيهما أننا لا نملك غير خيار النهوض والتحرر من قيود العلاقة مع الغرب وأن نؤسس مشروعنا النهضوى على أرضية واعية بهذه الأثمان وأن نسعى لأن نكون أنفسنا وأن نتخلص نهائياً من حالة استلاب الوعى والهوية لنحقق عزتنا وكرامتنا بين الأمم والشعوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى