كـلّـم نـفـسـك .. وإلّا..
محـمـد عـلـي الـبـدوي
كـلّـم نـفـسـك .. وإلّا..
أصعب شيء يمكن أن تتحدث عنه أو محاولة تحليله؛ هو النفس البشرية التي قال عنها الخالق سبحانه وتعالى : (ونفس وما سواها….) الخ.
ومن وجهة النظر الإسلامية يعتقد المسلمون؛ أن النفس هي الروح، وهي ما يحمل قوة الحياة.
وقد جاءت في القرآن بعدة معاني منها العقل والروح والإنسان وقوى الخير والشر.
وكُرِّمَت النفس البشرية في الإسلام بشكل كبير؛ حيث حث الإسلام على عدم إهانة النفس، ولم يفرق الإسلام في الحقوق والمنح والعطايا والأرزاق الدنيوية بين نفس مؤمنة وأخرى غير مؤمنة، بل وعد الخبير العليم أن الأنفس غير المؤمنة لن تظلم يوم الحساب وستعامل بمنطق العدل الإلهي.
والفلاسفة المسلمون المتأثرون بثقافة الإسلام والبيئة العربية يرون أن النفس نفس واحدة تتتابع عليها التغيرات -فأحيانا تكون في أعلى درجات الصفاء، وأحياناً أخرى تنحني إلى أدنى المراتب- ولكن الغالب ان الهدوء النسبي هو المسيطر على معظم الأنفس.
والنفس تحتاج إلى شيئين : الإطمئنان والإستقرار، وهذا لن يحدث إلا بالرضا والعودة إلى الثوابت والقيم والأخلاق التي حثت عليها كل الأديان.
أما الفلاسفة اليونانيون القدامى؛ فقد رأوا أن النفس البشرية ما هي إلا شيء يخاف المرء أن يفقده، وكانوا يعتقدون أن الروح تتحول إلى ظل في العالم السفلي، وأن وجود النفس داخل الإنسان دليل على الحياة وهو ما يميز الأحياء عن الأموات.
وقد قسم أفلاطون النفس إلى ثلاثة أنواع،بينما ساهم أرسطو في تعديل الآراء حول النفس البشرية ورأى مع آخرين أن مصطلح النفس يعني عاش.
ويري البعض منهم أن الكائنات الحية سواء إنسان أو نبات تملك روحا تمكنها من إدراك الواقع عن طريق الحواس والإدراك والإرادة والغريزة والتفكير، ولكن النفس البشرية تتميز عن نفس الكائنات الحية الأخرى بامتلاكها الجانب المعنوي المتمثل في الإدراك والإرادة أو الضمير الإنساني.
ونخلص إلى أن العلماء والفلاسفة والمفكربن لم يتوصلوا بشكل قاطع ومحدد إلى تحديد ماهية وجوهر النفس البشرية.
فكل عالم أو فيلسوف يتحدث عن النفس متأثراً بالبيئة التي نشأ وتعلم فيها، كما أن -كل واحد منهم على حده- يتأثر بالمرجعية الدينية والثقافية التي استقى منها تصوراته وآرائه.
في المطلق يمكن اعتبار النفس البشرية مخلوق من خلق الله؛ له خاصية متفردة، وهي كائنة داخلنا بشكل أراد الله أن يخفيه عنا لحكمة لا يعلمها إلا هو.
المهم أن النفس يعتريها الحزن والفرح وتقلبات مختلفة ما بين السعادة والكدر وبصفتها جزء من حياتنا أو جزء غير مرئي وغير ملموس فنحن نتعرف عليها من خلال الأحاسيس والمشاعر التي تتغير كل لحظة.
نحن نعيش في عالم متسارع تأتينا كل لحظة أخبار من هنا وهناك بعضها يجلب الفرحة لنفوسنا، وكثير منها محبط ويبعث على الحزن.
كما أن عالمنا مهما اختلفت المواقع والأمكنة أصبح مجتمع المادة والمصالح سواء على المستوي الفردي أو مستوي الدول والحكومات.
فما نعيش فيه اليوم أشبه بسوق كبير الكل يتاجر ببضاعته مما يجعل جم تفكيره يتركز حول بيع بضاعته وكسب مزيد من المال، وقد تستغرق عملية البيع وقتا طويلا مما يجعل البائع ينسي أشياء اخرى كثيرة يأتي علي رأسها الحياة الخاصة والترويح عن النفس والعلاقات الإنسانية خاصة مع العائلة.
أصبحنا نتجنب عمدا زيارة الأهل والأصدقاء خاصة الوالدين متحججين بعدم توفر الوقت (وأصبحنا في عملية تباعد ممنهجة عن كل ما يجلب البهجة للنفس ويحافظ على الصحة النفسية لنا ولأبنائنا الصغار).
فقدنا التجمعات العائلية وما كانت هذه (اللّمة) -كلمة مصرية بمعني التجمع- تؤديه من أدوار عديدة في تحسين العلاقات ونبذ الخلافات وتحقيق التقارب وتقريب وجهات النظر وتحقيق السعادة لكل أفراد العائلة.
نصطحب الزوجة والأبناء للنوادي والمقاهي ونعلل عدم زيارة للأهل بعدم توفر الوقت!!.
نذهب إلى المولات الكبيرة للتسوق ونهرب من مقابلة الأصدقاء بحجة الانشغال!!.
حكمنا علي أنفسنا أن نعيش حياة قاسية خالية مما نظن أنه غير هام -حياة خالية من الشعور بأننا نمتلك مشاعر وأحاسيس-، فتحولنا إلى مجرد آلات لا تتفاعل إلا مع المادة ولا يتحرك لها قلب إذا ما تطرق من الأمر إلي كل ما هو إنساني.
هذا التحول جعلنا نغير من أولوياتنا وأن نتقبل كل ما يعرض علينا من مستجدات العصر حتي وإن كانت هذه المستجدات غير مناسبة لثقافتنا وعاداتنا، وأصبح التقليد والتباهي بأشياء قد تكون ذات أثر سلبي أمر عادي،المهم أن يكون المظهر العام والشكل الإجتماعي في أفضل حال.
فسارعنا إلى إلحاق أبنائنا بالمدارس الخاصة والدولية وتحملنا عبء ارتفاع التكلفة، ونحن في غاية السعادة؛ بينما لم يتحرك لنا ساكن عندما تاكدنا أن هذه المدارس تهمل تدريس اللغة العربية والتربية الدينية!!.
أغلقنا الأبواب أمام عودتنا إلى أنفسنا التي هجرناها برغبتنا باحثين ولاهثين وراء المادة فقط.
تمحورت جل إهتماماتنا إلى الماديات والبحث عن غذاء لغرائز التملك والسيطرة والنفوذ والغرور والتعالي والتبذير الأحمق في توافه الأمور، وأحاطت بنا وعلى مدار الساعة أوهام صورت لنا أن السعادة في تملك المال فقط، وتراجعت الإنسانية التي كانت تميزنا بني البشر، تراجعت مهزومة مقهورة لأننا لم نرَ أنفسنا من الجانب الآخر المضيء ولم نبحث عن غذاء النفس الذي لن يكلفنا شيء سوي بعض الممارسات اليومية والتي ستضمن لنا فرح وسكينة وراحة لن يحققها البحث عن إرضاء الغرائز فقط.
راقبوا من فتحوا قلوبهم للعمل الخيري ومساعدة المرضي والفقراء وجابري الخواطر ستجدون سعادة واضحة تغمر وجوههم، وراقبوا القلائل الذين تمسكوا بالتواصل اليومي مع آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وإخوانهم وأصدقائهم وجيرانهم ولم يتخلوا عن ممارسة العادات الحميدة التي نشأوا عليها ستجدهم أكثر سعادة ورضا وهدوءا من كثيرين ممن رهنوا السعادة بماديات غير مؤكد دوامها أو بقدرتها علي تحقيق سعادة النفس وأن ظن البعض غير ذلك.
هنا نستطيع أن نقدم النصيحة ولو كان البعض في حالة تكبر أو غلظة وعَمِي؛ فلن يمنعنا ذلك من الإصرار على الإرشاد والتنبيه.
فالأمر ليس مجرد كلمات على الورق بل هو أخطر من ذلك بكثير، فكل ما ذكرناه ما هو إلا تحذير من مرض خطير ووباء فتاك يؤدي إلى موت الأنفس وتقيحها، وإذا ما ماتت أنفسنا وتحولنا إلى مجرد مسخ بأجساد تتحرك من غير أنفس؛ فسوف يتحول المجتمع بأكمله إلى حالة مرضية، وغابة، وشيء أشبه باللا شيء؛ فلا هو مجتمع عفي ولا هو مجتمع مريض.
تكلموا مع أنفسكم بصيغة المخاطب قل لها نعم أنت حزينة أو نعم أنت مسرورة، حدثها من القلب وصارحها وحاول أن تكون مخلصا في حديثك إلى نفسك وراقبها ووفر لها الغذاء المعنوي الذي يجعلها دائما لينة،تحدث إليها ليس شاكيا بل ناصحا وأجعل لنفسك وقتا ثابتا لتتحدث إليها وتحرر نفسك بهذا الحديث من كثير من الضغوط وكأنك تلقى بكل مشاكلك إلى قاع البحر.
حديث النفس هام وله ضرورة قصوى حتى تنفس عنك وعن نفسك التي امتلأت بالغرور وحب الشهوات والبحث عن إرضاء الغرائز.
حديث لا أسرار فيه الصراحة عنوانه والاخلاص والصدق ميدانه حتى تصل إلى نقطة سلام مع نفسك.