مسـجـد (القِـسِّيـس) الحارث بن كعب النجراني..
المهندس/ عبدالحميد بن حميد الجامعي
مسـجـد (القِـسِّيـس) الحارث بن كعب النجراني..
ربما من الأجدر والأجدى أولا التأكيدُ على تعددية المناهج والشرائع الدينية، وأنه ليست ثَمَّةَ شريعةٌ مطالبةٌ بمحو شريعةٍ أخرى، بل بالتعارف والتحاور والجدال الحسن والاستباق إلى الخيرات بما وقع في يد كل شريعة وأهلها، (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة/٤٨، وأنْ لا تضادَ أو تناقضَ بين هذا المبدأ وهيمنةِ شريعة محمد عليه الصلاة والسلام في الإسلام وكتابها (القرآن) على باقي الشرائع “شريعة موسى (اليهودية)، وشريعة عيسى (النصرانية)” (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ) المائدة/ ٤٨، إذ الهيمنة هنا لا تعني الدعوةَ لإلغاء الشرائع الأخرى وممارسةِ الجبروت عليها لمحوها وأتباعَها، واعتبارِ ذلك دينا وعقيدة، بل هي تعني المرجعيةَ والصحةَ في ما اختلفت عليه وحوله هذه الشرائعُ من قضايا وأحكام، وإلا فكيف يكونون أنسابا وأصهارا وأهلا (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) المائدة/ ٥، وكيف يُوَجَهُ إليهم بالحوارِ الحسن، وهم في المطلب عَدَمٌ (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) العنكبوت/ ٤٦.
كما يجب أيضا التأسيسُ لمعنى الدين الواحد، وأنه الإسلام، أخذًا من معناه اللغوي الدالِّ على التماهي في الكون، والتسليمِ لدور الإنسان فيه، وموقعِه من خالقه، ومن المخلوق حولَه، وأن الإسلامَ بهذا لم يبدأ بولادة نبي ولم ينتهِ بموته، بل الإسلامُ بمعناه الشمولي بدايتُه بدايةُ الخليقة، قبل الجنس البشري ووجوده، غير أنه اخْتُصَ به فكان هو مدارَ الحديث لأنه جنس عاقل مفكر، يراد له -تنبيها وتذكيرا- أن لا يقودَه تفكيرُه الحرُّ -عبرَ المؤثرات الطارئة- إلى خروجه عن دوره المنوط به، وإضاعةِ الكون بإضاعة الواجبات والإفساد فيه، وجُعِلَ في سبيل ذلك له شرائعُ وقوانين، وأُرسِلَ له الرسلُ مبشرين ومنذرين.
من ثم كان المؤمنون المسلمون ممتدين امتدادَ التاريخ، ومَثَّلتْ هذه الشرائعُ المعروفة اليوم، وشرائعُ أنبياء آخرين الإسلامَ في مرحلة من مراحل حياتهم، فشريعةُ موسى (اليهودية) كانت شريعةَ الاسلام، وأتباعُه كانوا هم المسلمين قرونا حتى زمن عيسى عليه السلام، فجُعِلَ الاسلامُ في أتباع عيسى ممن آمن به من اليهود وغيرهم، ومثَّلتْ النصرانيةُ الإسلامَ منذ حينها حتى مبعث محمد عليه السلام، فكانت شريعتُه هي الاسلامَ في شكله الخاتم، ومن آمن به من أتباع موسى وعيسى ومن العرب المشركين (الوثنيين) وغيرهم، مع وجود مسلمين خارج أولاء في ذات سياقهم الزمني، كما في زمن موسى، كالعالم اللَدُنِّي، وأصحاب السفينة المساكين، والأبوين المؤمنين، وأب الغلامين اليتيمين الصالح.
أما وقد أتممنا التوطئة، فلندخلْ في صلب الموضوع، وهو – إن صح – آخر ما انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي – دون نفي من وزارة الأوقاف – من افتتاح كنيسة القديس الحارث بن كعب النجراني في مسقط، الافتتاحِ الذي اطلع عليه وشهد به وبحضوره الجميع.
إن الوعيَ الحقيقيَّ مطلبٌ في تعاطي مثل هذه المواضيع الحساسة المتعلقة بالشرائع والأديان، وتزيد حساسيتُها إن تداخل فيها عنصرُ التاريخ، وهو لا شك داخلٌ، لما في ذلك من شهادة عليه من قوم ليسوا من أهله، ويتكلمون وكأنهم شهودٌ عليه.
إن افتتاحَ الكنيسة باسم القديس الحارث بن كعب يعد جريمة تاريخية وجريرة منهجية بالنسبة لعُمان وأهلها ودينها، أما تاريخيا فهو سطو على الحارث بن كعب بنقله في كبسولة مظلمة عبر قرون كثيرة لِيَمْثُلَ لأحكام عصرنا، ويُقَسَّمَ على اعتبارات أهله، حتى بات هو نصرانيا بالنسبة لليوم.
لقد عاش الحارث بن كعب في القرن السابق للبعثة المحمدية في نجران، وقد رأينا في المقدمة أن دين الإسلام يومئذ يمثله النصارى في تلكم الحقبة من الزمن، وأن أتباعها مسلمون بالمعنى العقدي، مؤمنون موحدون، وكثير منهم لهم تأويلهم في الأقانيم الثلاثة، الذي لا يخرج بهم عن دائرة التوحيد، مع وجودِ مذاهبَ أخرى لا شك تتفاوتُ قربا وبُعدا من التوحيد، كما هو حال الملل عامة، وقد أجمل الله ذلك في قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) ١١٣/ آل عمران.
لقد شهد لهذه الفترة ولأهلها القرآنُ بالإيمان، فسمَّاهم مؤمنين: (وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ) البروج/ ٧، وتوعد قاتليهم ومعذبيهم، وسماهم أصحاب الأخدود (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) البروج/ ٤، وأكد توحيدهم (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) البروج/ ٨، هذا كله كان قبل بعثة محمد عليه السلام وقبل مولده، وقد ذهب الكثير إلى أنهم نصارى نجران (كما جاء عن ابن عباس)، بما فعله بهم ملك اليمن ذو نواس الحميري سنة ٥٢٠ م، وكان ممن قتل فيهم الحارث بن كعب، فعلى هذا يصح إيمان الحارث بن كعب وأنه مسلم، كما نص عليه القرآن، وعملية اقتطاع الحارث من واقعه المؤمن والموحد حينها ووضعه في واقع اليوم ليكون نصرانيا على اعتباراته -أي اليوم- يعد جرما أخلاقيا وتاريخا في حقه، فهو بتوحيده وإيمانه أحق به الاسلام اليوم كما كان أحق به يومئذ، مثله مثل المؤمنين من الأنبياء ( كرسل بني إسرائيل) والصالحين (كلقمان الحكيم وورقة بن نوفل والنجاشي)، بعيدا عن الشريعة التي تمثل الإسلام (النصرانية يومئذ، والإسلام اليوم).
هذا من حيث التشويهُ والجرمُ التاريخي على الأفراد، أما من حيث المنهج، فعمان اعتنقت دين الاسلام ليكون هو الدينَ الرسمي لها ولمواطنيها منذ أربعة عشر قرنا، وتركت ما دونه من أديان وثنية وشرائع كتابية، وليس ثم شريكٌ ضمن النسيج العماني غيرُ الاسلام، وعلى هذا الاعتبار يجب أن يكونَ ولاءُ أهلها وصُناَّعِ قرارها لذلكم التاريخ، يُعزِّزُونه ويُمَكِّنُون له، فهو حقٌ شرعيٌّ ووطني وأخلاقي واجب، وعملية بناء الكنائس والمعابد عموما يجب أن تخضع لهذا المبدأ، بحيث لا تغير من تلكم الأصالةِ الشرعية والوطنية شيئا، ولا تَنزِعُ عن عُمانَ حُلَّتَها.
إلا أن فتح الكنيسة الأخير بذلكم الإجراء، وتلكم التداخلات والبروتوكولات الكنسية تَحْرُمُ عُمانَ هذا الاعتبارَ، وتنذر بذهاب ذلكم البريقِ الأصيل الذي حافظت عليه لعقودٍ وعقود، دون تعدٍ على أحد، ومع تقديرِ كل أحدٍ واحترامه، ودون الانتقاص من شأن أي ملة من الملل، في توازن وسلام داخلي عظيم.
إن في الجُرم التاريخي أيضا جُرما مستقبليا نتيجةً له، فهو -بالتوازي مع الخلل المنهجي أعلاه- يذهب بألف وأربعمائة من السنين لم يرتبط الجنس العربي واسمه إلا بالإسلام، وإن استمر الأمر على هذا فَسَيُشَوَّهُ المستقبل، وتُنَفَّرُ الأسماء العربية لترتبط بشرائع وملل أخرى مستحدثة في القُطر العماني يظنها المستقبل يومئذ أصيلة أصالة الإسلام في العرب وأصالة أهله، مما يُعَدُّ خلطا حراما، وتدليسا، وكذبا على الأجيال القادمة.
يمكن لعمانَ وغيرها تكريمُ المسلمين من العرب وغيرهم قبل البعثة ممن ثبت إيمانه خلال حقب التاريخ المختلفة -عُرف بشريعة النصارى أو اليهودية- أن يسموا بهم مساجد ومراكز ثقافية تخليدا لهم، تماما كما هو الحال مع الأنبياء والصالحين قبل محمد، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، فيكونَ -كما هناك مسجدُ إبراهيمَ الخليل ومريمَ العذراء- مسجدُ (القديس) الحارث بن كعب، وورقةَ بنِ نوفل والنجاشي، ولقمانَ الحكيمِ، ذلك أولى من الإجرام في حق أولاء، واستقطاعهم من محيطهم المسلم بشريعته يومئذ، ووضعهم في محيط جديد باعتبارات اليوم وحدوده، وللأخوة الآخرين من الملل والشرائع الأخرى أن يسمو كنائسهم ومعابدهم في ديارهم بأسمائهم، فكما هناك كنيسة مريم العذراء هناك مسجد مريم العذراء.
لذلك ندعو الحكومةَ ممثلةً بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى مراجعة سياستها الأخيرة في تنظيم طلب بناء الكنائس والمعابد في عمان لغير المسلمين كما هي أيضا منظمةٌ للمسلمين، في أطر موضوعية، تضمن عدم الإجرام في حق شخصيات تاريخية بما لا تُقِرُّه تلكم الشخصيات لو قامت من قبرها اليوم (كالحارث بن كعب)، وعدمِ التضليل والغش والتدليس على الأجيال القادمة بربط أسماء العرب بغير مساجدهم حسب ثقافتهم المتأصلة، وعدمِ فقدان إنجاز تاريخي عظيم لهذا البلد الكريم، بسبقه لدينه القويم ذاتيا، دون قتال أو حرب قبل ألف وأربعمائة سنة، بإيجاد منافس له مستقبلي دون وجه حق، إلا من خلال الجانب المظلم والمخل من دعوى “التسامح” المفرطة.