تـرانـيـم الـرحـيـل..
السـفـيـر/ معـصـوم مـرزوق
تـرانـيـم الـرحـيـل..
مقدمة :
“لا تحلموا بعالم سعيد ، فخلف كل قيصر يموت .. قيصر جديد ، وخلف كل ثائر يموت ، أحزان بلا جدوى ، ودمعة سدى”.. أمل دنقل
نعم .. قطعتنا سكين الزمن الصدئ ، تبخرنا في طرقات المدن الداخنة ، في وهم ضباب الكأس ،ومرايا الحانة تعكس أحداقاً مرهقة ، نبتلع زجاج الكلمات المكسور ، نتوه ونمعن في التيه فنتذكر ، عصفور النيل الأسمر يتدلي ، مشنوقاً في كل مطارات العالم ، مبتلاً فوق الأرصفة الشتوية ، يتجمد فيه الشدو ، الإيقاع والمعني ، تمثال متحجر : زمن سكين في عنق الحب..
فـي ذم الفـكـر..
الأمور ميسرة بفضل الله ، وليست هناك مشاكل بشكل يثير الدهشة والتعجب .. ويبدو أن المشاكل لا توجد أصلاً حتي نقوم نحن بخلقها خلقاً وتكلفها تكلفاً .. فالجو بديع والدنيا ربيع ، لماذا نفكر إذن في ثقب الأوزون ؟ إلا إذا كنا هواة نكد وفلقة دماغ ، أياً ما كان الأمر فأن آثارة المدمرة سوف تلحق بنا في مقابرنا وذلك في الرأي الراجح ، فلنترك ذلك إذن لأحفادنا ربما وجدوا طريقة لرتق هذا الفتق ، وهي مشكلتهم علي أي حال..
من المؤكد أن المزيد من القراءة يؤدي إلي المزيد من الشعور بالجهل ، فلماذا لا يريح الإنسان عقله وينعم بجهله وشعوره في نفس الوقت بالتفوق والحكمة ؟! .. ثم أن القراءة لها آثارها الضارة ، ويعتبرها البعض – بحق – نوعاً من الميكروبات التي لا تؤذي صاحبها فقط بل تمتد إلي من حوله بالعدوي ، لذلك ينصحون بعدم مصافحة من يقرأ كتاباً ، وعدم الإقتراب من أي شخص عليل بالعلم ، وليس أدل علي ذلك من أنك تجد الجهلاء أصحاء أقوياء يمشون في الأرض مرحاً ، بينما أولئك الذين ابتلاهم الله بداء القراءة وحب المعرفة ، تجد عيونهم ذابلة ، ظهورهم محنية ، يقتاتون الكآبة ويفرزونها أيضاً..
المشاكل غير موجودة حتي يتحدث أحد عن وجودها فنراها ، لذلك فالأسلوب الأمثل هو عدم الإنصات إلي أحد أو القراءة لأي معتوه يحاول أن يكدر صفو حياتنا ، ولكم أضاع البعض زهرة شبابهم سعياً وراء أفكار وأهداف ، ليكتشفوا بعد فوات العمر عبثية كل الأشياء ونسبيتها أيضاً .. لم يدلهم أحد إلي أن الحياة غاية البساطة والانبساط شريطة الابتعاد عن الفكر بوجه عام والمشاكل بوجه خاص ، فالجو بديع والدنيا ربيع وليس في الإمكان أبدع مما كان ، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه ، والباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح ، ويا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم ، إلى آخر ذلك التراث القيم الذي تركه الأجداد وأهمله الأحفاد .. فعودة إلى التراث ، إلى الأصالة ، إلى حضارة السبعة آلاف سنة فهي العاصم من كل فكر أريب !!.
عـلـم لا يـنـفـع..
يقولون : “في عالم الذئاب يجب أن تكون ذئباً كي تعيش” ، وأعتقد أنه إذا كان من الصعب عليك أن تكون ذئباً ، فحاول علي الأقل أن تكون ثعلباً ! .. أما إذا فشلت أن تكون هذا أو ذاك ، فأنت كلب !!.
كان المسؤول الخليجي يتحدث في أمسية نيويوركية بديعة عن أحد السياسيين ، فقال : “لقد طلبنا منه أن ينحني لوزير الخارجية الأمريكية ، ففوجئنا به يسجد له” !!.
الفارق بين النظام الديكتاتوري والنظام الديمقراطي ، أن الحاكم الديمقراطي يعد الشعب بأنه إذا وصل الحكم فإنه سيغير سياسات سلفه ، أما الديكتاتور فهو يعلن ويؤكد أنه سيستمر على نفس خطى سلفه !!.
من أقدم المعاهدات الدولية هي تلك التي أبرمت عام 1269 قبل الميلاد بين فرعون مصر رمسيس الثاني وهاتوشيل الثالث ملك الحيثيّين ، وكانت معاهدة سلام وتحالف وضعت نهاية لحرب طويلة بين مصر والحيثيين ، وقد تعهد الطرفان بالامتناع عن كل الأعمال العدوانية ، وتقديم العون المتبادل في مواجهة الأعداء الخارجيين والداخليين وتسليم العبيد الفارين ، وأقسم الطرفان علي إحترام بنود المعاهدة ، وعلي أن تقع اللعنة علي من يخالفها .. ورغم الإلتزام الكامل بتطبيق المعاهدة ، إلا أن اللعنة قد حَلَّت.
الفقر لا يلد الثورة أو الثوار ، فالثوار لا يولدون من رحم اليأس ، وإنما من رحم الأمل في الغد.
في بداية القرن العشرين كانت الدول تؤمن بأن الأمة مثل الفرد يجب أن تحافظ بكل وسيلة ممكنة علي كرامتها ، وهكذا فعندما قامت ألمانيا بغزو فرنسا في الحرب العالمية الأولي ، ظهر الإنشقاق في مجلس الوزراء البريطاني ، حيث رأي البعض ضرورة دخول الحرب ضد ألمانيا وفاء لتعهدات بريطانيا ، بينما رأي البعض الآخر ضرورة تجنب ويلات الحرب ، وهو ما دفع السفير الفرنسي في لندن أن يصرخ صرخته الشهيرة : ” والشرف ؟؟ ، هل تفهم إنجلترا معني الشرف ؟! ” Et l’honneur ? est-ce que l’angletere comprend ce qui est l’honneur ?
النـمـيـمـة المـحـمـودة..
من الأخطاء الشائعة في بعض الأوساط عدم تسمية الأشياء بأسمائها ، وإخفائها خلف أقنعة ملونة مزوقة ، ومن بين ذلك أن نذم بعض الأفعال رغم أنها أفعالنا المفضلة ، ونمتدح بعضها رغم أنها أبعد ما تكون عنا فكراً وعملاً..
وفي بعض المجتمعات الضيقة ، يعيش الأشخاص ويتحركون كأنهم يشاهدون بعضهم بعضاً لا يفصل بينهم سوي جدران من زجاج مصقول ولا مع ، ومع ذلك فأن الصحن الأول الذي يقدم للضيوف في أي مأدبة هو ” سيرة ” ضيف آخر غير موجود ! ، وكأنه فاتح للشهية ، فيقبل الحاضرون علي تناول صحون سير ضيوف آخرين ، وأيضاً غير موجودين !!.
يسميها البعض دردشة ، ويعتنقها البعض الآخر كوسيلة لإثبات إلمامه ببواطن الأمور ، ويهذبها بعض الفلاسفة في مصطلح أنيق فيطلقون عليها إسم “النقد الذاتي”.
المشكلة أن “الحبة” في ذلك الصحن تتحول بقدرة قادر إلى “قبة” ، وما يبدو كإشارة بريئة لشخص أو لواقعة يتسع ويتشابك بالإضافات التي تتقاطع مع أصوات الملاعق والسكاكين ، ومع كل خبر جديد تتأهب الآذان وتفنجل العيون في شراهة ونهم استعدادا لإبتلاع المزيد من التفاصيل.
والعجيب أن ضيوف المأدبة – سواء بشكل واع أو غير واع – يعلمون أن سيرتهم – أيضاً – ستكون صحناً في أقرب مأدبة يغيبون عنها ، لذلك فأنهم – في الغالب – ينتقمون بشكل مبكر بأن يلتهموا الصحن المتاح حتي مع تيقنهم أنه فارغ أو لا تملأه سوي ألسنة مخضبة بسير الآخرين.
من المؤكد أن هناك من يعف عن مثل هذا الطعام ، وينئى بنفسه عن ذلك النوع من المآدب ، إلا أن هذا التعفف مزموم ومنتقد عن أصحاب النوع الأول ، فهو عجز عن المشاركة، وانعزال وانطواء لا يليق بالمجتمع المخملي ، ثم أن من يتبع هذا الأسلوب المزموم سوف يغامر بأن يصبح صحناً مفضلاً على كل الموائد.
ما ضير القوم لو تجاذبوا بين أسنانهم واحداً أو واحدة ، هنيئاً مريئاً في أمسية ترفيهاً عن النفس وتخفيفاً من جدة حياتهم اليومية ؟ ، أليس ذلك نوعاً من العلاج النفسي وتنفيثاً لبعض العقد ؟ ، بل أن تلك الهواية ، التي تأخذ أحياناً شكل الاحتراف ، تساعد المجتمع نفسه حيث يحرص كل فرد فيه علي الإلتزام التام والمشي علي الأحبال حتي يتفادى وضعه في قائمة الطعام ، وبالتالي ينصلح حال العباد ويتحقق المراد.
لذلك فإن ذم فعل “النميمة” إنما هو محاولة للتجميل والتظاهر ، فضلاً عن أنه يخالف الطبيعة البشرية التي من خصائصها الفضول والتلصص والتنصت ..
ومن منظور فني بحت ، فإن “النميمة” هي تدريب عملي علي استيعاب المنقول عن أشخاص وتقديمه في “محضر مقابلة” ، وبالتالي فليس أعجب من أولئك الذين يرون في هذا السلوك نوعاً من الانحطاط والتدني تأبي منه النفوس الكريمة.
وعلى أي حال ، فإن من يستمرئ صحناً فيه سيرة لآخر ، يقبل في نفس الوقت أن يؤكل لحمه ميتاً .. فهلّا كرهتموه ؟!!.
تـوقـيـع أخـيـر..
يموت وحده .. مثلما تموت كل الكائنات النبيلة والجميلة ، في جلال وصمت مهيب ، وحده الآن وقد تحرر من كل العلائق اللزجة التي كم قيدته .. لم يعرف للسعادة معني ، فهو طول العمر يلهث ، هارباً من الماضي مطارداً للمستقبل ، وعندما عرف أوقفته المفاجأة ، وطفي كالمشلول علي سطح مستنقع أيام راكدة ، تعلم كيف يهرب إلي الماضي الذي كان يهرب منه ، وكيف أصبح المستقبل وحشاً خرافياً غير محدد يهاجم أحلامه ويمتص من ساعاته نعمة الراحة .. والآن يموت .. وحده ، شامخاً غير عابئ ، وقد حطموا كل مجاديفه وتركوا له البوصلة التي استمات دفاعاً عنها ، وهكذا كانت محنته الأبدية : أنه يعرف الإتجاه الصحيح ، ولكنهم سرقوا منه إمكانية الحركة ، أحرقوا شبابه بخوراً في معابدهم الوثنية ، وعندما ارتشفوا منه كل رحيق ممكن ، تركوه كعصف مأكول …
كانت تقول له في ذلك اليوم البعيد السحيق ، كلمات بلا معني ، إلا أنه كان يحتفل بكل حرف تنطقه شفتاها ، يحتفظ في ذاكرته بكل إشارة عابرة منها وبكل لفتة عفوية .. كانت الحبيبة التي تشع في دنياه بأضواء الكون ، كان يلتقي بها في كل قصيدة يقرأها وكل مقطوعة موسيقية يسمعها وكل فيلم يراه ، كانت كالزئبق كلما حاول الإمساك بها راوغته ، عرف أنها الحياة ، أكتشف ذلك متأخراً .. مجرد لحظات قبل أن يموت.
لقد كانت الطائرة التي حملته إلى الغربة ، قبضة من الفولاذ انتزعته من رحم الأم قبل أن يكتمل .. البلاد ساحت فوق البلاد ، بلا حدود ولا أفق .. خريطة تمتد تحت ناظره ، يري فيها تاريخ أيام مضت ، وحبيبة تتلفت حولها في مكان اللقاء ، لم تعرف أنه سافر ، سافر ولن يعود.
لقد كان المسرح كله معد للمشهد المثير .. الممثلون فوق الخشبة ، والمتفرجون سواء بسواء ، مثل أبطال المآسي الإغريقية يعرفون أن اللعنة حلت ، وأن نقمة الآلهة آتية ، لكنهم لا يعرفون متي وأين تنطبق اللعنة وتحل النقمة .. ورغم حلولها فلا يزالون في الانتظار !!.