لأن متلازمة (داون) ترافقني..
يـوسـف الـبـادي
فـنـان تـشـكـيـلـي
لأن متلازمة (داون) ترافقني..
غضبت ذات مرة حين خاطبتني ممرضة باسم مريض.
وخرجت غاضباً لقاعة الانتظار.
* * * * *
كانت ترتادني اسئلة عن نظرتنا للمريض ، و كيف نكون سببا في زيادة الشعور بالمرض لدى الاخرين ، ولا نحافظ على شكل الحوار ، بداية من الإلحاح الشديد على معرفة تفاصيل المرض واسبابه ، وانتهاء بوصفاتنا الطبية .. التي تختم عادة بـ : “ما عليك من كلام الدكاتره” .. و دون نسيان سرد قصة مرعبة كان مصير من استمع لكلام ” الدكاترة ” الموت.
* * * * *
وبينما كنت أبادل نفسي هذا الحوار، إذ بالحاضرين يلقون على مراجع للطبيب حضر للتو مع مرافق ، أسهماً من نظرات ، لا تخلو من اسئلة هامسة ، وبعض الحكم التي ليست في محلها ، وأخرى تبتسم بإنتظار حركة من المراجع ليستبدل الابتسامة بقهقة ، و كأن الحضور كانوا يترقبون من يمكن أن ينسوا مرضهم بإشفاقهم عليه ، أو جاؤوا للتهامس ، كأن الهمس لم يخلق إلا هناك.
* * * * *
هكذا خُلِقَ هذا الزائر ..
جاء لهذه الحياة ترافقه “متلازمة داون”.
كانت النظرات إليه تذكرني بموقف أصابني ، حين وقعت مغماً علي في مجمع تجاري ، وبعد أن أفقت لم أكن استطع الكلام ، ولا الوقوف ، لكني كنت أسمع ، و أساءني ما سمعت ، وعرفت أن هناك بعضاً من البشر ينتظرون الفرصة ليقولوا ما أستقبح من القول حين يجدوا أن من أمامهم لا يسمعهم ، ولا أنسى وأنا كنت في ذلك الموقف أن أحدهم كان يقول لمن يجاوره بأن هذا جزاء الإدمان في تعاطي الحشيش .. وأن الله لا يضرب بعصا .. وأني عبرة لمن لا يعتبر.
ولم أنسَ أني وجدتني ملقاً بين يدي عامل أسيوي ، وبني جلدتي يتحدثون بما تحدثوا ، وربما تم تصوير لقطة بهواتفهم التي حولها الكثيرون منا ، مسدسات نطلق بها النار على قيمنا ومبادئنا لنجبرها على الرحيل عنا .
* * * * *
كان لدي شعور بأن صاحب متلازمة داون يود محادثتي ، أحسست أنه في مكاني عندما أغمي علي داخل المجمع التجاري ، فكان ثمة كلام وددت قوله ، لكن لساني لا يستطيع نطقه ضعفاً ومرضاً.
هل تراه يسألني ما مرضي ؟ .. لم يسأل ، ولم يخبرني مؤكدا أني مريض ، كأنه يترجاني أن اعترف بشيء ما في مرضي لا يعرفه.
هو لا يفعل .. فهذه المهمة تكفل بها البعض ومارسها على المرضى للأسف.
وأنا قبل قليل كانت مجرد مخاطبتي بالمريض ، أشعلت في جميعي الغضب ، و لا أعلم كيف يشعر هو والعيون تلاحقه بأنه مريض كأنه أقترف ذنباً لم يفعله ، ثم تجلده عقاباً.
* * * * *
كان يبتسم وكأنه يقول : أشعر بك ، أنا أيضاً مثلك ، أبتسم ولا يعلم الناس أنني مبتسم دائماً ، ليس لسعادتي ، ولكن خلق وجهي وهو يبتسم .. أتحدث و لكن ليس ما أقوله يمثلني ، وكل من يتكلم ، يكلمني بالشكل الذي رسمني في نظره هو ، وليس أنا وما تمثله ذاتي وشخصيتي.
كأنه يناديني من بعيد : أن الدواء مر أشربه ، يكفي أن أسكبه كل يوم في أوردتي ، لكن الأكثر مرارة تلك النظرات المشفقة التي يسكبها الناس في كل خطوة أخطوها ، قليل من الناس من يخاطبني على أني أملك عقلاً ، وأستطيع التفكير ، وأجيد سكب الدموع في حزني وألمي ، وأستطيع الضحك على شيء يُضحك ، وأسكت حين تتطلب الحضرة السكوت.
* * * * *
كأنه يخبرني : أنا مكتمل مثلك ، الفرق بيننا أنك تعلمت بالتدرج العمري الطبيعي، فإن سبقتني في تعلم شيء ما ، فذاك لطبيعة خلقي في تأخري عن تعلم الأشياء بقليل مقارنة بالإنسان السوي .. لكن سأتعلمهاَ.
كأنه يطلب مني قائلا : لا تعاملني بإشفاق ، أطلب منك الاحترام .. أحتاج هذا ، كن صديقي ، ولا تكن علي ، ساعدني أن أكون بقربك ، كي أكون أنت ، فأنا خلقت لأكون ، لأبني.
هاك يدي .. صافحني صديقاً ، بل اطلبني أن كُن معي ، وأنا معك.
لقد لامست في هذه المقالة تفصيلة هي في غاية الأهمية، وهي الشعور بالوصمة حين نكون (مرضى)، خصوصاً مرضى نفسيين. علماً أن مفهوم المرض غير محدد حقاً، فمثلا المرأة الحامل، حين تدخل للمستشفى للولادة، يعملون لها ملف يسموه (ملف المريضة)، وهي تزرق بالأبر وغيرها، لكن الحمل ليس مرض. وعلى سبيل موازي فإن شخص يمشي في الشارع فيلتوي كاحله ويصير يؤلمه هو (مريض) مثله مثل شخص ولد بمرض جيني وراثي مزمن. صار الطب اليوم يخترع لنا أمراض جديدة مثل (إدمان الهواتف)، (قلة التركيز)، الخ. يبقى في الأخير أنه طبياً يصح إطلاق وصف (مريض) على أي شخص يحتاج ويستفاد من الخدمات الطبية حتى لو كان لا يعاني من (مرض)، فعلى سبيل المثال المرأة الحامل مريضة لكنها لا تعاني من مرض.
شكراً لهذا المقال الذي يجعل الأفكار تتداعى
السلام عليكم
انا اقف امام كلماتك وكلي احتراما وتقديرا .
الف شكرا استاذ .. كلامك هذا اعطاني دافع للكتابة ، والاهم ان اصلك بما اكتب للراجحة عقولهم امثال عزيزي استاذ سامي .
خالص الشكر والتقدير
اخوك /يوسف البادي