بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

أن تعـيـش كأنـك تغـسـل الصُّـحـون !!..

سـامـي عـادل الـبـدري

 

أن تعـيـش كأنـك تغـسـل الصُّـحـون !!..

 

”سيري ببطء، يا حياة، لكي أراك بكامل النقصان حولي..

كم نسيتك في خضمك باحثاً عني وعنكِ..

وكلما أدركت شيئاً منكِ قلتِ بقسوةٍ : ما أجهَلَك!“..

                                                                   محـمـود درويـش.

يمكن عُـدَّ غسل الصحون من أكثر الأعمال المملة؛ كثيراً ما تستثقلنه ربات البيوت وتؤجِّلْنَه، فهن لا يجدن فيه أي متعة؛ ولا أعتقد أنه يوجد رجل لم يجرب ذلك، فحتى المتزوج من أربع نساء دفعة واحدة سوف يجد نفسه حتماً، يوماً ما، مضطراً لغسل صحن أو كأس، هذا إن لم نقل قِدْراً أو مقلاة؛ عليك أن تفرك الإناء، والأسوأ من ذلك هو حين يكون هناك شيء من المواد الدهنية متيبسة في زاوية ما، عليك أن تفركها بالإسفنجة والمسحوق؛ أضف إلى ذلك أن بعض مطابخنا ابتُكِرَتْ على عجالة في بيت صغير، فسيجد حينها من يغسل الصحون نفسه في وضعية غير مريحة، أو أن حوض المغسلة ينقط ماءاً على الأرض.

إن من يتصدى، بشجاعة وبأس وصبر جميل لعملية غسل الصحون اليومية؛ سيشغل فكره حتماً في شيء آخر أثناء تلك العملية؛ سيفكر فيما حصل له في وقت مضى، أو سيتصور ما سيحصل في المستقبل؛ يتخيل ما سيحدث حين يزوره فلان، أو حين يذهب هو للتسوق، ثم يرجع للماضي يتذكر ما قاله له زميله من تعليق، ثم يعود للمستقبل ليتوقع ما سيقوم به مديره في العمل حين يقدم له طلب الإجازة.

إن الشروع بعملية غسل الصحون صعب، لكنك ما أن تبدأ حتى تجد نفسك تمارس حركات أوتوماتيكية من غير انتباه، وسينشغل فكرك في مكان وزمان آخر؛ لكن ذلك الشرود، وتلك الأوتوماتيكية ستستمر؛ فلو أنت حضَّرت لنفسك كوباً من الشاي بعد ذلك، فإنك حتماً ستشربه بنفس تلك الأوتوماتيكية وذلك الشرود؛ تحتسي رشفة وأنت تتذكر أن عجلة سيارتك تلك ينقصها الهواء، ثم تحتسي رشفة أخرى وأنت تقرر الإتصال بجارك للاستفسار عن تأخر قائمة الكهرباء؛ أنت دائماً لست منتبهاً لما يجري بين يديك، الآن، أنت دائما لست موجوداً مع نفسك في اللحظة الراهنة، أنت دوماً مستلب في دولاب الزمن الدوار .. أين أنت؟!.

مثل طير يلوح في الأفق راحلاً، مثل صوت سيارة تبتعد، دع الأفكار تمر، والمشاعر تعبر، وابقى أنت وجسدك هنا لتركز على اللحظة الراهنة، فلا يمكن أن توجد سعادة إلا في الحاضر؛ من عادتنا أن نقول لأنفسنا : إنني أنتظر أن أنهي هذا العمل الذي بين يدي لأعيش بشكل أفضل، وهذا العمل قد يكون دراسة أو عمل، أو مشروع طويل الأمد؛ في الحقيقة أنه سيكون دوما هناك شيء علينا إكماله، وما أن ننتهي منه حتى يحل محله شيء آخر.

فلا تكن مثل (جبر، من بطن أمه للقبر)، وجبر هذا عربي زار مدينة ما فرأى على شواهد القبور ما أذهله، حيث تشير كلها لأعمار صغيرة، فلان عاش 3 سنين، والآخر عاش سنتين، إلخ؛ فلما استفسر من أهل هذه المدينة؛ أجابوه بأنهم يحسبون فقط السنوات التي يعيشونها وهم سعداء؛ فوصى جبر هذا بأنه حين يموت يريدهم أن يكتبوا على شاهدة قبره : (عاش جبر من بطن أمه للقبر !!).

هذه دعوة للتَّلَذُّذ بكل لحظة نعيشها، أو على الأقل لنقول بدل التلذذ، أن نحس بكل لحظة نعيشها؛ أن نهب حاضرنا انتباهنا؛ فكم جميل هو غروب الشمس في الأفق، وكم عذب هو هذا الماء؛ بل إنك حتى وأنت تغسل الصحون تستطيع التَّمَعُّن في التماع فقاعة الصابون السائل الملونة تلك، وأن تشم رائحة المسحوق الخاصة، وتسمع صوت احتكاك الإسفنجة من على الصحن، وتشكر ربك على الطعام الذي أكلته لِتَوِّك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى