بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

المـوروث الفـنـي وزيـف الإبـداع..

الدكـتـور/ نعـيـم الأزهـر ميـساوي – تـونـس

 

المـوروث الفـنـي وزيـف الإبـداع..

 

… وأخيرا أقول أنّ متعة الفن تقترن بلذّة الاكتشاف والمغامرة وما تحمله من تأثيرات ودوافع وعراقيل واقتحام سبيل جديد في مسار نشأة الفعل، فالفعل الإبداعي لا ينحصر ضمن بوتقة فكرة الانطلاق وإنّما ضمن مغامرة البحث إجمالا، فتكون التجربة حينها عملا في حدّ ذاتها. ولكن قبل الخوض في هذه المسألة، نريد أن نتناول المسألة من زاوية نظر بعيدة وعميقة بعمق التاريخ والحضارة والتراث.

نعم، يهمنا منذ البدء ضمن مقاربة الرؤية الفنيّة أن نتساءل عن خصوصيّة هذه الرؤية وجماليتها؟.

وعن الشروط التي بمقتضاها يرتفع النشاط الفني إلى مستوى أن يكون رؤية وتراثا وإبداعا ؟.

إذ كيف نفسّر شدّة حضوره في مجال الممارسة الإنسانية وأيّ طموحات يسعى الفنان والمبدع لإشباعها؟.

وهل من تفسير لهذا الأثر الفني البديع الذي سهّل على المبدعين والفنانين الاستلهام والأخذ منه وجعله ركيزة أولية لكل إبداعاتهم وآثارهم؟.

ونحن لو عدنا للأصل الاشتقاقي لعبارة الفن لوجدنا أنّها في اللغة الإغريقيّة تتضمّن معنيين إثنين، معنى عاما وآخر ثان دقيق، فهي تعني من جهة أولى التقنية، ومن جهة ثانية تعني كل نشاط يهدف إلى غايات جماليّة، فهو كما يؤكّد “اندري لالوند” في معجمه على أنّ الفن هو مجموع العمليات التي تستخدم عادة للوصول إلى نتيجة معينة، ومن الطبيعي جدا أن تشهد تلك العمليّات التقنية تحسنا عبر التاريخ، ومن هنا تتوسع دائرة استخدام الفنون في شتى المجالات والميادين التي أدى استخدامها عبر التاريخ إلى تحقيق غاية بعينها.

ولما كان الأمر كذلك كان لا بدّ أن نميّز من جهة بين الفن والتصميم ومدى ترابط الفن بالتصميم وما يميزهما عن باقي صنوف التعابير والعلوم الأخرى، فالفن من خلال ما يقدمه الفنان بصفة خاصة والإنسان بصفة عامة من أثر فني هو تسجيل انتصار فعلي يحققه الإنسان على المادة وطبيعتها، ونحن إن كنّا نجهل في الطبيعة مظاهر كثيرة تشهد الانسجام وتثير حساسيتنا ووجداننا وخيالنا والقول بأنها جريئة ودافعه لميلاد الفن فإنّه من المؤكد أنّ هذه الطبيعة التي تنتج الفن، فهي تنتجه عن وعي وعن غير وعي مقصود كلاهما معا، فجمال الطبيعة محكوم بمفهوم الحتمية، في حين أنّ الأثر الفني بما هو نتاج إنساني بقدر ما يستند إلى الإرادة وحبّ الإيجاد والفعل والإبداع. فحتى الحضارة في حد ذاتها لم تظهر في بدايتها إلاّ كشكل رسوم ونحوت وزخارف وضعها الفنانون والرسّامون على الكهوف، لنقرّ بأنّ الحضارة ولدت في رسوم الكهوف قبل أن تولد في بناءات مدنيّة.

ونحن حين ندفع بمثل هذه المفاهيم، الفكر، الوعي، الإرادة، الذوق…إلى حدودها القصوى لأمكننا القول أنّ الأثر الفني يحيلنا إلى مفهوم الخلق والإبداع والتصميم وبالتالي إلى مفهوم أرقى وأعمق لا يجيده ولا يستشعره إلا من تاقت نفسه للتفرد والتميّز، يحيلنا إلى مفهوم الحرية.

وإن كان بمقدورنا أن نعرّف باقي العلوم الأخرى بكونها منظومة أفكار مجردة وتقوم على مبادئ عقلية، فإنّ الأثر الفني ينفتح على مجال الممارسة والإبداع وهو نشاط عمليّ يستند إلى إرادة الفهم والمعرفة، يخفي في طياته إرادة بناء الحضارة وتشييدها، فالفن درب من التواصل مع الطبيعة بطريقة تختلف عن التعامل العلمي، مثل الذي يسيطر على الطبيعة لا أن يتواصل معها، فالفنون وإن تعدّدت يبدو أنها لازالت مستعصية على عملية إخضاعها إلى ضرب من ضروب العقلية، فهي نشاط جمالي محض يستند إلى الذات وقادر على إنتاج الجمال، والإيحاء والاستلهام والخلق.

وإذا كان الفن بهذا المعنى له القدرة على إنجاز نشاط يستهدف الجمال، فإن الفن هنا يعلو كتقنيّة، إذ يصبح ليس مجرد عمل تقني، بل هو الممارسة والقدرة على إشباع غايات جمالية استيتيقيّة بما يثير فينا الإعجاب والانبهار.

وممّا لا شك فيه أن الفنون بمختلف مشاربها لا تزال تورّط المبدع المعاصر والإنسان الحديث في مجال الضرورات الحياتية ولا تزال حاضرة بكثافة وتلاحق الإنسان في مختلف أبعاده فمن ذا الذي يدّعي الإكتفاء بذاته لو حبسنا عنه البعد الفني.

إذ نستخلص من كل هذا الذي سلف الحديث عنه، التساؤل عن تلك العلاقة التي يقيمها الفنان مع موروثه ؟ وأيّة حقيقة يسعى إلى إبرازها من خلاله السعي إلى إمكانية تطوير ذاته ودائرة إنتاجه الفني ؟ وما خصوصية هذا الموروث الذي يسعى الفنان والمبتكر للرجوع إليه والاستلهام منه ؟ وما إمكانية محدودية هذا الاستلهام ؟ كل هذا وأكثر يستوجب منا مزيدا من تعقّل التاريخ وتفكيك مضامينه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى