الألُف لَيسَ له والبَاء تحتَه نُقطة !!..
الكاتب/ زايد بن خليفه الشكيلي
الألُف لَيسَ له والبَاء تحتَه نُقطة !!..
عزيزي القارئ .. قد يستغرب البعض من العنوان ولكن إن كنت منهم فأوصيك إلى أهمية الرجوع والاطلاع على هذه المنظومة التي تفردت بها مدارس القرآن الكريم ، ولكني على يقين بأنك على علم بها دامك قد ارتشفت من ساقية الفلج أو أن عينيك اندغصت لحظة بخوصة الصرم ، أو ربما انزحط على مطراح ماء.
مفردات لا يفقهها إلا أهل الغبيراء وستجد منها الكثير فيما سأسطره بين حروفي المتواضعة هذه عن تلك الأيام الجميلة التي كثيراً ما نقوم فيها على ضربة العصى لنلحق بصلاة الفجر جماعة وبعدها ربما يعود العصا ليصافح ظهورنا تنبيهاً لنا بعدم نسيانها غداً ، وأن لا تغط في نومنا.
وأنت مقبل بعد أداء فريضة الفجر تنشرح الروح لذاك النسيم العليل نسيم الفجر الذي يحمس خوالجك لأن تستنشق ، وتواصل المسير على مهل وعطر دخان الإفطار يفوح من بين جدران بيوت الحارة فهنا عطر القهوة يفوح وبعده يستقبلك عبق القروص المخبوزة على الصاج بالسمن العماني ، وفي تلك اللحظة لا تتمالك حسك المرهف إلا وتتبادر صورة غرشة العسل التي تقف بكبرياء وشموخ بجوارك حتى آخر قرص تتناوله بيدك.
كم كانت تلك الأيام جميلة بأناسها وتفاصيلها وبساطتها ، تعود برفقة والدك من أداء الفرض فتستقبلكما الأم الكريمة وقد توشحت كفاها بطحين البر والابتسامة الحميمة النابعة من الروح ترتسم على وجهها تردد “تقبل الله عبادتكم” .. تعالوا استريحوا قليلاً وتناولوا فنجاناً من القهوة لحين الإنتهاء من عصد الجولة بالعسل وتتفاجأ بأن رائحة السيويا “البلاليط” التي شممت رائحتها الزكية في الطريق بالقرب من بيت الجيران موضوعة على حصير الفطور ببريقها الأخاذ مكتسية بحبيبات الهيل المختلطة بحبات السكر الأحمر ، وصحن يغادر عتبة الباب تحمله الأخت الصغيرة يكاد يقطر السمن من جوانبه متجهة به إلى الجيران فأي محبة وأي ترابط إجتماعي كان وأي إنسجام روحي بين الجيران في ذلك الزمن، ولهذا كانت بيوت الحارة متراصة لا يفرق بينها سور الفناء بل إن التماسك يزيدها أماناً وجمالاً .. وكل ذلك من قبل الوالدين ليس إلا حرصاً على تنشئتنا النشأة الصحيحة والتي لا حرز يطوق بها أعظم من حرز القرآن الكريم وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيرا.
نتناول الجولة التي تبعث في الروح الدفيء وتملأ الجسد نشاطاً وطاقة طيلة اليوم فتارة تغمس إصبعين وكل ما توارى نظر الأب الذي يزرع فينا السمت جانباً تنغمس ثلاثة أو ريما أحيانا الأربعة أصابع من لذة خبز أمهاتنا اللاتي نسأل الله لهن الجنة ، ومعها مذقة تدغدغ شفتينا من القهوة العمانية وابتسامة تعلو محيانا واستبشار ينبعث من الروح بأن اليوم حتماً سيكون جميلاً ، ثم نقوم لنجهز نفسك للذهاب لمدرسة القرآن الكريم الاساس الرباني الذي تربينا عليه وتبتسم بمجرد ان ترى بان تقاسيم السمة او الحصير الذي كنت جالساً عليه قد ارتسمت على رجليك وقدميك ، فتنفض عنك الأم الحنون بقايا ذاك الحصير العالقة على دشداشتك ، وتحضن قرآنك مستبشراً لتتوكل الى مدرسة القرآن وعند باب البيت تتنظر برهة وقد تجد ابن جارك في انتظارك فتتسابقان الخطى بكل أمان وسلام الى مدرستكما التي تستحضرونها حالياً في أذهانكم نعم ابتسم تذكر تلك اللحظات واغمض عينيك قليلاً وابحر وتذكر تفاصيل تلك اللحظات فهي أساسك ومنبتك الجميل الذي أخرجك بهذا المستوى من السمو والنجاح.
أعزائي القراء ما أجمل تلك اللحظات وأنتم في طريقكم للمدرسة وتصادفون زيتونة قد تدلت بأغصانها وشوبين ملتصقان بغصن واحد تكاد نكهتما تعانق روحيكما ولا تتمالكان الموقف والشعور وتبدآن عملية عاون غريبه بينكما للاستمتاع بطعمها وفي تلك اللحظة وبعد ان تعتليان جدار المقصورة تصادف بداخلها شجرة الفيفاي المحملة بأكوام ذهبية فتستشير المعاون الآخر وتقترحان الرجوع بعد الإنتهاء من المدرسة ، تصلان للمدرسة وأول ما يجب ان تسمعانه قبل ان تسمع المعلم الكريم العزيز لبعض الآيات التي باتت واجبة عليكما حفظها منذ الأمس ، تقف أمام مدخل المدرسة وأغلبها كانت بصحن المسجد وتبدا في النظم:
الألُف لَيسَ له والبَاء تحتَه نقطه ، والتاء فوقها نقطتين.
الألُف لَيسَ له والثاء فوقها ثلاثِ نُقَط والجيم تَحتُه نقطة
حتى تستكمل حروف الهجاء بأكملها وإلا فأنه يحق عليك العقاب لإهمالك وهذه من اهم اسرار تميز العمانيين في لغة “الضاد” ، حينها وبعد تسميعك لهذه الأنشودة التعليمية التي نتمنى ان تطبق ممارستها على أجيال عصرنا الحديث لما لها من ارتباط وترابط علمي واجتماعي ، بعدها يؤذن لك بالجلوس وتراجع ما كلفت به من حفظ لآيات من كتاب الله المبين حتى يحين دورك ، نسيج إجتماعي تتوالف فيه مع أبناء جيرانك وتتمسك بهم وتتعلم الإخلاص معهم والتعاون فيما بينكم وما زلتم على ذاك العهد حتى الآن وأني متيقن بذلك تمام اليقين.
تعود إلى منزلك قبيل فترة الغداء فرحاً بأن سمعت الأنشودة ومن ثم الآيات التي حفظتها بشكل صحيح ويؤخذك الحماس ليوم غد بأن تكون بأفضل حال وكيف تتنافس من جديد مع زملائك ، وفي طريق العودة وأثناء ممارسة بعض الشقاوة التي لا تنتهي وتقومان بمحاولة قطف الفياي وإذا بصاحب المزرعة يكشف أمركما وما اقترفتماه من إثم فتبدأ مرحلة العقاب منه لأنه بمنزلة الأب وله حق عرفي في معاقبتكما والعقاب الآخر ينتظركما عند وصولكما للمنزل ، ,اي عقاب ذاك الذي يكتنز بزرع الخوف من الله في حقوق الغير أكثر مما هو عقاب بالعصى ، ولعل ثمة عقاب آخر مختلف تمام الإختلاف وبه من الإحراج ما يكفي لو تغيبت عن المدرسة حينها يجهز لك معلم القرآن فريق متخصص فيأمرهم “إذهبوا واسحبوه” ويأتون بك تارة تدفر وتارة تسحب وكأنك قد اقترفت ذنباً في حق إنسانيتك وتجلس بمنتصف الفناء وجميع الزملاء يحيطون بك ويقوم المعلم بأخذ حقه منك بكم شحطة بالعصا ، وترى السخرية على وجوه الصغار من حولك ولا تملك إلا الصبر وتعد نفسك اولا قبل المعلم بأنك لن تعود لذلك التصرف من جديد.
هكذا كانت الحياة في بعض تفاصيلها التي لا تعد ولا تحصى ولا يمكن لسطور أن تحويها ولكني تعمدت إختيار عنوان هذا المقال لنعود لحظة للماضي الجميل الذي مازال ينسج فيما بيننا تلك الألفة والتعاون والحب والسلام ونسأل الله أن نبقى على هذا الحال.
وأوصيك عزيزي القارئ أن تعتمد على أسلوب تربيتك لفلذات كبدك مع الأخذ بمثل هذه التفاصيل حتى تضل عمان بهويتها الخاصة العظيمة التي عرفت عنها وبها منذ القدم ، إنسجم مع جيرانك احتويهم دعهم أقرباء منك وأفتح مساحة كافية لأطفالك بأن ينسجموا مع باقي أطفال الجيران وأحرص ان تقدم أسلوب حياة مميز بتربيتك للجميع على السواء.
دمتم بود وفي حفظ الله ورعايته.