بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

تعقيدات علاقات روسيا مع شركائها في سوريا..

الدكتور/ محمد السعيد إدريس

mohamed.alsaid.idries@gmail.com

 

تعقيدات علاقات روسيا مع شركائها في سوريا..

 

يوماً بعد يوم أخذت تطورات تحريك الأزمة السورية، ضمن موجة “تسوية الأزمات” التي بدأت تفرض نفسها عربياً منذ زلزال الحدث الأفغاني، تطرح مؤشرات مهمة تكاد تشكل المعالم البارزة لأى تسوية محتملة للأزمة السورية.

أول هذه المعالم : أن الدور الأمريكي المستقبلي أضحى محدوداً ويتلخص في الإبقاء على قوات أمريكية للدفاع عن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردية الحليفة وتمكينها من فرض سيطرتها على منابع النفط السورية في منطقة شرق الفرات، على أمل استخدام هذا الدور كورقة ضغط على سوريا في التسوية المقبلة كي لا تكون هذه التسوية بدون ثمن، والثمن الذى تريده واشنطن من سوريا يتركز في ثلاثة مطالب:

أولها : إخراج إيران من سوريا.

ثانيها : تأمين علاقات سوريا مع جوارها والمقصود هنا فرض ترتيبات أمنية مع إسرائيل تحقق مطالب الأمن الإسرائيلية وخاصة في الجولان السوري المحتل ومنع أي وجود إيراني أو لـ “حزب الله” في المناطق الجنوبية القريبة من الحدود مع إسرائيل.

ثالثها : قبول سوريا بما يتضمنه القرار الدولي رقم 2254 ، وخاصة من مطالب تأمين حقوق المشاركة السياسية وتأمين التعددية ، والإفراج عن المعتقلين وعودة كريمة للاجئين السوريين.

ثاني هذه المعالم : أن روسيا أضحت القوة الدولية التي تكاد تتفرد بإدارة التسوية السورية، باعتراف كل الأطراف لما تملكه روسيا من أوراق قوية في سوريا.

أما ثالث هذه المعالم : أن نجاح الدور الروسي في تسوية الأزمة السورية يتوقف على امتلاك حلول قوية لحل تنازع المصالح بين القوى الإقليمية الثلاث المتنازعة على النفوذ في سوريا : إسرائيل وإيران وتركيا في ظل وجود مصالح قوية سياسية واقتصادية واستراتيجية لروسيا مع هذه الدول الثلاث.

لفترة غير قصيرة مضت كانت العلاقات الروسية – الإسرائيلية مثار تشَكُّك في العقل الاستراتيجي العربي الذي يبدو أنه كان مازال أسيراً لحقبة العلاقات العربية المميزة السابقة مع الاتحاد السوفيتي، عندما كانت موسكو منحازة إلى الحقوق العربية خاصة في فلسطين وكانت لها علاقات أقرب إلى التحالف مع دول عربية كانت مصنفة ضمن المعسكر الرافض لسياسة الهيمنة الأمريكية وقت أن كان العداء بين موسكو وواشنطن في ذروته.

هذا التَّشَكُّك ظل يحكم العقل والفكر العربي في التعامل مع موسكو خاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية، لكن السلوك الروسي في الأزمة السورية وما أظهرته موسكو من “صمت مريب” على اعتداءات إسرائيلية ضد الجيش السوري وضد حلفائه خاصة إيران و” حزب الله” على الأراضي السورية أزال ستار الغموض عن السياسة الروسية، وكشف أن روسيا الجديدة حريصة على أن تكون حليفة لإسرائيل في الشرق الأوسط اعتقاداً منها بأن “إسرائيل بوابة مهمة للدخول الروسي إلى حوض البحر المتوسط وإقليم الشرق الأوسط”.

دعم هذه القناعة الروسية أن إسرائيل كانت شديدة الحرص على نسج علاقات مصالح قوية مع روسيا خاصة في سوريا تتمثل في الاعتراف الإسرائيلي بالمصالح الروسية في سوريا، وإطلاق يد روسيا لحل الأزمة السورية على النحو الذى تريده موسكو شرط أن تعترف روسيا بالمقابل بوجود مصالح أمنية إسرائيلية في سوريا أبرزها إخلاء سوريا من الوجود الإيراني وكل حلفاء طهران على الأراضي السورية ، وإعطاء إسرائيل حق الدفاع عن نفسها على الأراضي السورية بحيث تغض الصواريخ الروسية المتطورة الموجودة في حوزة الجيش السوري الطرف عن الاعتداءات الإسرائيلية في العمق السوري عندما تضرب إسرائيل مواقع إيرانية أو حليفة لإيران شرط عدم استهداف القوات السورية ، أو الروسية بالطبع.

يبدو أن روسيا توصلت إلى حلول ترضيها مع إسرائيل كشفها بوضوح شديد وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف عند استقباله وزير خارجية إسرائيل الجديد مائير لابيد في موسكو (9/9/2021) ، هذا التوافق الروسي- الإسرائيلي أكده بيان لوزارة الخارجية الروسية قبل وصول الضيف الإسرائيلي جاء فيه : أن روسيا “لا تريد سوريا حلبة لصراع عسكري مع دول أخرى” ؛ فروسيا لا تريد للغارات الإسرائيلية أن تتحول إلى مواجهة بين دمشق وتل أبيب أو بين طهران وتل أبيب عبر محور “الجولان – درعا “، لذلك أعلن عقب لقاء يائير لابيد مع لافروف عن التوصل إلى “آلية روسية – إسرائيلية” لحل الخلافات بين البلدين إزاء الوجود الإيراني في سوريا.

أما بالنسبة لتركيا فإن روسيا مازالت مرتبكة في حل أزمة الوجود التركي على الأراضي السورية ، ويبدو أن قمة سوتشي الأخيرة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان (29/9/2021) بعد أقل من ثلاثة أسابيع من اجتماع قمة مماثلة بين الرئيس الروسي ونظيره السوري الرئيس بشار الأسد لم تستطع حل أزمة الدعم التركي للمنظمات الإرهابية في إدلب ، ولم تحل أزمة الوجود العسكري التركي غرب الفرات وشمال سوريا ، رغم أن الرئيس الروسي كان يعوِّل على تأزم العلاقات التركية – الأمريكية لمزيد من التنازلات التركية ، ولأن هذا لم يحدث فقد عادت المقاتلات التركية والقوات السورية لاستئناف قصفها الجوي والبري في (1/10/2021) بعد توقف خمسة أيام سبق القمة الروسية – التركية على منطقة “خفض التصعيد” ومناطق أخرى في إدلب، في إشارة إلى أن روسيا مازالت عندها مهام كبيرة لحل أزمة الوجود التركي في سوريا ، ولكن بما يحفظ لروسيا مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية مع تركيا.

تبقى إيران تشكل المعضلة الأهم بالنسبة لروسيا في سوريا، معضلة تحكمها المصالح العميقة المشتركة بين البلدين ، كما يحكمها التحالف المشترك في سوريا ضد الإرهاب وضد كل الأطراف التي تدخلت لإسقاط النظام في سوريا ، وفى ظل إدراك روسي حقيقي بقوة المصالح والنفوذ الإيراني في سوريا ، وعمق التحالف الاستراتيجي بين دمشق وطهران الذى يمتد تاريخياً إلى الأعوام الأولى لتفجر الثورة الإيرانية عام 1979، وإدراك الرئيس السوري بشار الأسد أن التحالف مع إيران يعد أحد أهم ضمانات الحفاظ على النظام في سوريا ، وأحد أهم مرتكزات انخراط سوريا في “محور المقاومة” بالتحالف مع إيران و” حزب الله” ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي. وقبل هذا وذاك ما سبق أن أعلنته وأكدته موسكو على لسان كبار المسئولين بأن الوجود الإيراني في سوريا مشروع لأنه جاء بطلب رسمي من الحكومة السورية ، تماماً كما هو الوجود الروسي على العكس من أي وجود آخر سواء كان أمريكياً أو تركياً أو أوروبياً ، تطالب روسيا بإنهائه لذلك تواجه روسيا تحديات هائلة في إيجاد صيغة لتسوية الأزمة السورية تأخذ في اعتبارها الحفاظ على مصالح إيران في سوريا المرفوضة أمريكياً وإسرائيلياً وأوروبياً بشكل أساسي ناهيك عن الرفضين التركي والعربي، فهل لدى موسكو صيغة لحل إشكالية الوجود الإيراني في سوريا لضمان تحريك ملف التسوية السورية؟.

سؤال صعب تحكمه ملفات شديدة التعقيد تتداخل فيها مصالح أطراف كثيرة، لكن يبقى ملف العلاقات السورية – الإيرانية هو أهم هذه الملفات، بمعنى أي اختيارات ستقبل سوريا للتسوية ؟ هل ستقبل تسوية تريدها أم تسوية مفروضة عليها؟ إجابة هذا السؤال ستحكم مسارات تسوية روسيا مشكلتها في سوريا مع إيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى