ثقافة وأدبمنوعات

روايـة وادي الـرمـال .. الحـلـقـة 5..

 

الكاتـب/ حـمـد النـاصـري

 

روايـة وادي الـرمـال .. الحـلـقـة 5..

 

يَمَّم وليد وِجْهَته شَطر الرّمال التّي أَضْحت جُزءاً مِن حياته ووجدانه، وعلَلّ إِبْتِعادَه أنّه يَسْعى لإكْتشاف الآفاق الغامِضة التي تُحيط بالوادي .. في رحلته لِتَحقيق ذاته وغاياته ، يُحدث نفسه تارة لِتَرسيخ قناعاته وتارةً لِلتّبَصُر بعمق أكبر في مَجاهل الوادي :

ـ  لا أُصَدّق بأنّ الحَياة باتّساعِها اللامُتناهي مُجَرّد صُدفة.. وأَجْزِم بأنّ البَشر هُم رَأس الحَماقة المَجنونة التي قادت إلى  العَبْث المُدَمّر فَشُوهتْ الحقيقة بأكملها.!

رَفع ناظِريه إلى السّماء كأنه توقع أنْ يأتيه الرّد مِنْها :

ـ سَأكاِفح شُعور اليأس الذي يُحاول أنْ يُلْقِي بظلاله القاتمة على رُوحي ولنْ أسْتسلم، وسأَجِد بَصِيصاً مِن أمل مَهما طال الزَمن وصَعُبت الشُقة، وسأسْبر أغْوار الوادي حتى أصِل إلى الحقيقة المُجرّدة وفي النهاية أنا إنْسان وكُلّ انْسان يَخطأ ويُصِيب ولكنْ الحقيقة كالشَمس لا يَخطأها عقل ولا تَسْهو عَنها عَيْن ، ولي رَغْبة جامِحة تَفوق قُدرة عَقْلِي ، تُسَيْطِر على هَاجِسي النّْفسي ، تَسْكُنني بالمُغامرة ، أفْكارها تَغْمُر عَقلي كسَيْل جارف وتتملكني وتُسَيْطر على جوارحي ، وأنا مُقْتَنِع بخوض تجربتي لوحْدي كيْ أجَنّب الآخرين مَرارتها وشَقائها واتَحمّل تلكَ المرارة وذلكَ الشقاء لوحْدي .!

وبَينما هُو يُفكّر في طريق يَلْتمس به الوصُول إلى أعْماق الوادي الذي شَغل باله ، الْتقط حَجراً أسْود أمْلَس، بحجم اليَد ، قلّبه في يَده كأنهُ يُريد أنْ يَعرف أسْراره ، وعلى مَقربة مِنْه حَشرة تَصْدر أصْواتاً تَقْطَع سُكون الوادي وأزِيْزاً رَقيقاً لا يَفْقههُ ، تساءل في نفسه ، ما سِرّ تلكَ الحَشرة وبماذا تُفَكّر وأيْنَ تُريد أنْ تَصِل فهيَ تَقْضِي حياتها تَنتقل مِنْ مَكان لآخر بلا هوادة كأنها مُجْبَرة على تلك الحركة بدافع الخوف او حتى الجوع أو لكأنّها تُعَبّر عَن سَعادتها بكونها تحيا في فضاءات مَفتوحة بلا قُيود ، وفي مكان آخر قريب لاحَظ وليد نِزاعاً نشَبَ بينَ حشَرتين أُخْرِيتين تَتْبَعُهما ثالثةٌ كأنّها تُراقِب تلك المعركة لعلّها تَحْصل على غنائم.!!

الْتفتَ يميناً وحدّث نفسه:

ـ  كم هو مُزعج صَوت الصَرْصَرة  ؟

كانَ صوتاً لا يَهدأ أزيزه ، يَسْتفز سَمع البَشر ويَتجاوز مُسْتوى الازْعاج ، اقتربَ مِن مَصْدر الصَوت فإذا به يَرى ما لمْ يَرهُ مِن قبْل . فهو لمْ يَعْهَد رُؤية ذلكَ العَدد الهائِل مِن الحشرات.!

تلك الحشرات تقوم بتحريك أجْنحتها باحْتكاك مُزعج لِتَصْدر ذلك الصَرير وأُخْريات لكأنّ مُهِمّتها مُخْتلفة وبِصَوت مُختلف أو أقَل إزْعاجاً وصُنْف ثالث تَنقلب على ظُهورها وتَحتك أجْسادها ببعضها ، تُقلّب بَعضها بَعضاً  كأنّها في مَرحلة التزاوج ، فَتُحدث تلكَ الإحْتكاكات صَرصَرة وحين تَتقاتل تَصْدُر صَوتاً كالأزيز ، رُبما هذا الأزيز هو صَوت الإسْتغاثة أو طلَب الحِماية او المُساعدة والنُّصْرة أو قد يكون صُراخ المعركة .

كان وليد يَراقبُ الحالة وهو بحالة تأمُّل وتَفكر، سائِلاً نفسه ، ما هيَ المرحلة التالية بَعْد هذه الحَركة ؟ ويَتفاعل بشَغف مع المَشْهَد ، وبدا كأنهُ يَسْتمتع ببعض تلك المواقف ، وفجأة وبلا مُقدمات حلّقَت الحشَرة الكبيرة عالياً ، ولحَقِت بها أُخْريات تَصادَمَتْ وتساقَطت على ظَهورها ، ثُم اعْتَدلت وحَلّقت مرّة اخرى ، كانَت حَركة اعْتِدالها كمثْل انْقلابها بسرعة ومَهارة عالية كأنّما تَسْتعرض مَهاراتها ، ثمّ حَرّكت جناحيها وابْتَعدت ، واخْتَفتْ في الفَضاء الواسع لكأنّها شَعَرتْ بِدنو خَطَرٍ مُحْدقٍ ، حينَ انْتَبَهت إلى جِسْم غريبٌ يَرقُبها ؛ قال وليد في نَفسه ، إنه عَالَم مُدهش و غَرِيب أيضا.. أصْوات الكائنات في الوادي لا تَهدأ و لا تتَوقّف مِن مَغِيب الشَمس حتى شُروقها..؟ حَدّث نَفسه بصمت ..عُمْق الوادي مُفْزِع ومُخِيف كأنهُ بلا نهاية ، قاعِدَته قَفْر لا ماءَ فيها ولا كَلأ ولا طُمأنينة ، تَضِيق أَعْمَاقه حَدّ التّيْه الخَالِي مِن الأُنْس ، خَلاؤهُ مُوحِش وقُعْرُه يَجعل العَقل الحكيم حَيْراناً ، كما لو أنّ الدّاخِل فِيه مَفقود والخارج مِنه مَولود !!!.

انْتابته رَعْشَة أَفْزَعته وساورَه قلَق لمْ يُدرك سَببه .. حِيْرة تملّكته ، خوف مجهول وغُموض مهول، حالة مُباغتة فُجائية جمّدَت الدَم في عُروقه ، دقّات قلبه تِطرق سَمعه بقوة، ضَجيج كاد يَفْقده وَعْيه ، ازْدادت حالَة الصَدمة والذُهول في عَقله، وهو يَرى جُثّة مُلْقَاةٌ عَلى صَخْرة كَبِيرة تَستقر عَلى سَفح ضَيّق يُؤدّي إلى قاعِدة في عُمْق الوادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى