رواية : “وادي الرمال” .. الحلقة (4)..
الكاتـب/ حـمـد النـاصـري
رواية : “وادي الرمال” .. الحلقة (4)..
شمس الوادي تتسلّل مِن خَلْف جِبال الوادي الصَمَّاء ، تَبُث أشِعّتها لِتَخترق كُلّ المساحات وتَبُث الحياة في الرّمال وتُنِير طيّات الصُخور الصَلْبة، وعِنْد الغُروب تَرى ظِلال مَساءها تَنتشر في السّهل المُقابل كأشْباح مُخِيفة فَيطْبَق الظلام انْفاسَه على كُلّ شِبْر في الوادي وتكون العُتْمة والظلام سَيّدا المساحات اللامُتناهية مِن الصَحراء .. يَتسَلّق وليد الصُخور الوعرة .. يُحاول التشبّث بأقْرَب صَخْرة .. صَدى هَمَسات انْفاسه تتردّد بين الصُخور.. يَلْتَفِت ، يُلقي نَظْرَة بِمُوازاة جَسده ، أَثَراً لِنَزيف دَم على الأرض لا يَكاد يُمَيّزه مِن قِلّة الضَوء .. يا إلهي ما هذا !؟” قال وليد في نفسه وضَربات قلبه تَخفق ِبعُنف ” يا إلهي ، إنّها بُقع دَم ، تُرى مِن ايْنَ هذه الدّماء؟ هل لِبَشر أم لِداّبة مِن دواب الارض ؟ أم هَيَ لِوحْش صَريع ؟ ام هيَ لإنْسان ساقتهُ اقْداره فسَقط على هذه الصُخور الناتِئَة ؟ أم هيَ جَريمة بَشِعَة.؟!
قطع الوادي مُتَتبّعاً آثار الدِمَاء ، بخطوات مُتثاقلة، قطرات دَمْ مُتباعدة تارةً ومُتقاربة تارة أخْرى .. أراد أنْ يَصِل لِمَصْدر الدَم قَبْل أنْ يُطْبق الظلام.. أحسّ بثقلٍ على صدره ، لمْ تُسْعِفه قدمَيه نَحو المجهول المخيف.. عاتب نفسه ، مالي وهذه الدِماء ؟ لمَ لا أعود ادْراجي .؟ لماذا لا اتّقِي المشاكل وابْتعد عَن المصائب ؟ لكنّ عِنادَه غَلَبه واسْتمر بتتبع أثَر الدِماء ، وقال في نفسه ، أتلك الدِماء لإنْسانٍ قَتل إنسَانٍ آخر أم لإنْسان سَقط وأُصِيب بِجُرح بالغ ..! أم هيَ دِمَاء حيوان نَهشه حيوان مُفترس.! أم ماذا؟. يَتسلّق يَمِيناً مُتخذاً طريقاً ناحيَة الجبَل الطّولِي ، كانَ الجبَل ذي قِمّة ناتِئَة وحادّة، تَعلوه طبقة سَوداء حَالِكة مِن تُراب قديم كقدم الأزلْ، تتداخل الآثار ثُم تَغِيب، تَنقطع بُقَع الدّم .. وقفَ إلى جانب شَجـرة جرداء عاليـة، توسّطت صَخرتين كبيرتـين، افــترش الأرض.. أخذ يُفكّر ، ما عِلاقة بُقع الدّم بصخور الوادي.؟ ما سِرّ اخْتِفاء القَطرات في بَعض الامْكنة..؟! ما وجْه العِلاقة بينَ ظِلال المَساء ووحْشَة الجبال وارتفاع صوت دقّات قلبي؟.
فجأة يقترب شَبح انْسَان. صَرخ وليد بقوة ، مَن أنْت.؟ وامْسَك بعصاه في وضْع دفاعي شاهراً إيّاها في وجْه الغريب، قُل مَن أنت.!
– أنا ابن هذه الصَحراء ألِفْتها وألَفَتْني .. أعيش هُنا بأمان مُنذ زمن بعيد . ولكنّ قُل لي مَن أنت ايّها الغريب وما الذي أتَى بكَ إلى هذا المكان النائي؟ أتَعرف هذا الوادي؟!. أما أنا فإبْن هذا المكان ، احفظ أماكنهُ وصُخوره ومَجاري أوديته وجُحور أفاعيه!! أصْدقني القول يا رجُل واحْذر مِن الكذب.
أحسّ وليد باطمئنان وانسجام مِن نَبرة صوت الرجُل وتَغلغلت كلماته في قلبه وبَعثت فيه شيء مِن الراحَة والأمَان في ذلك المكان المُقْفِر الموحش ، فرد وليد مُعَرّفاً عَن نفسه :
– أنا وليد من القرية المجاورة لهذا الوادي . جئت ساعياً إلى البحث والاكْتشاف ففي هذا الوادي امْكنة مُذهلة ومُدهشة .. ابْحث عَن المعرفة ، عَن فهم الحياة والناس والرمال وقد وجدّتُ ضالّتي في هذا المكان .. أتيت لأكتشف أشْياء لمْ يَسْبقني إليها أحد .!
– جميل جداً أنْ أجد شاباً يافعاً، قوياً، يَحمل هِمّة الرجال وعزيمة الأقْوياء وحِكْمَة الواثقين.؛
– أنتَ حقاً ، مَن ابْحث عنه ، شخص له خبرة الامكنة ودراية في الرمال .؛ إذنْ أنت ضالتي التي كنت أبحث عنها ، وسأصْدقك القول أنني أحْسَست براحة غير معهودة في كلامي معك .. فمن أنت حقيقة؟…. رُبما ستُعينني على فهم مَن تمرّد بفكره عَن المعرفة واسْتخف بالحياة ، فعسى أنْ تكون الرجُل الأمين الموثوق به، فأشدُد به ازْرِي وأشْركهُ في أمْري ، كيْ تكونَ لي المُعين وأكون لك الرفيق .؛
قال الغريب بابتسامة :
– لكَ مني الأمان .. فماذا بَعد.؟
سكتَ وليد ولم يَنبس بحرف ..
قال الغريب مُستأنفاً حديثه :
– ألك عندي حاجة أو تسألني في شيء لعلي انفعك برأي أو بمشورة.. فلربما لنْ تَراني بَعدها .!
– كيف ذلك ؟! أتُعْطِيني الأمان ، ثم تُولّي مُبْتعداً…؟!
– إنه في عُرفنا .. أقصد في عُرْف ساكني هذا المكان ، أنْ نَنْأى بأنفسنا عَن مُضايقة الذين يَنْوون الخير والصَلاح للناس . وأنْت كما يَبْدو لي مِن الاخْيار..! فإنْ شِئتَ تركتك لحالك تبحث وتستكشف . وإنْ شئْتَ أخْبرتني عَن ما يَدور في ذهنك ، فلعلّي أعَيْنك عليها وإنْ ألححتُ عليك بسؤالي ،فلا حرج عليك أنْ نَتفارق كما الْتَقينا بسلام وأمانٍ وَوُد.!
قال وليد بلطف وهدوء :
– أما وأنك أتحتَ لي المعرفة بكَ ورَحّبْت بي وآمَنْتَنِي بلطف مِنك .. وسألتني عَما يَختلج في داخلي .! فاسْمَح لي أنْ أسْألك قَبْل أنْ تَنصرف ، ما وجْه العلاقة بينَ الرّمال والجبال.؟ وأردفَ بَعد بُرهة .. رَغم أنّهُما مُخْتلفان في القوة والصَلابة واللّيونة والارتفاع والانبساط.. ألا ترى معي ، أنّ الجبال شديدة قاسية .. وأنّ الرمال سَهْلَة طيّعة ، وطبيعة كُلّ مِنْهما مُخْتلفة عَن الآخر .. فكيف نَراهُما دوماً مُتقاربتان ومُتلاصِقتان، كأنهّما تعَهّدتا بحراسة كُلّ منهما مِن شُرور وقساوَة آتية وشدّة صَلبة قادمة.. ألا تُوافقني في ذلك.؟
فتبسّم الرجل الصَحراوي كأنه توقّع مِثْل ذلك السؤال وقال:
– بادئ ذي بَدء أطْمئنك أنَني خَبرت الرجال ومَعادنهم وعَلّمَتني قسوة الرمال جزء مِن قراءة النُفوس وفهم مُتغيّرات القلوب ، وها أنا الآن فَهِمت ما تُريد !.. وأمّا عَن الرمال والجبال فما أعرفه أنّ كُلّ مِنْهما يحتاج للآخر.. فالرمال تَحتاج إلى الجبال لأنّها رَواسي مَتِينة ، تَحفظ لها مَكانتها الأزليّة .. فهيَ تَتخذها سَنداً وأماناً وقُوة ، وقد سُميت بالأرض جمعاً كُنية عَن رضاها ومُوافقتها بأنْ تكون الوحيدة التي عليها الحياة دون غيرها
أمّا الجبال فهي بلا شك تحتاج إلى الأرض لأنّها لا تَقِل عنها قوة، والقَويّ يَحسب ألْف حساب لِمَن هو مِثْله .. أو أكْثر مِنه قُوة . ولا يَنْظر لِمَن هو دونه .. وأما الرمال هي وجْه الأرض ، غير مُستقرّة ، تتحرّك ، لكونها خليط مُكوّن مِن حبيبات تُظْهَر صلابتها لكنها غير ثابتة .؛ تلكَ الصَلابة هيَ جُزيئات مِن صُخور ناعمة تفتّت بفعل تقادم زمني وتعريّات طبيعية وفعل الماء واصطدامه بالهواء ، نتج عنه نُعومة ولُيونة ، ثم اختزلتْ بفعل تراكمات زمنية ، انتجتْ فُتات مَعادن ، بتحوّلها إلى مادة صَلبة ، حينما تجد تعرية تحفظها .؛ كذلك فإنّ الجبال تَرى وجْه الأرض ـ الرمال ـ الأكثر سُهولة والأقلّ مُقاومة نظراً لقُدرتها على تحمّل الأوجاع والآلام على امْتدادها البَعيد، وهيَ المكانْ الأنْسَب لِتَثبيت كِبْريائها وبَسْط نُفوذها. وحسب مَعرفتي . أنهما ومُنذ زمن بعيد، لا أعرف مَداه.. قِيْل بأنّ الجبال أرادَتْ السُكون والهُدوء ولم تَجِد إِلاَّ النَّد والصَّد، وضاقَت عليها السُّبل.. فبسَطت لها الأرض سُهولها وأوديتها وَرحَّبت بها بطيب خاطر ، ونفسِ كريمة .. وقالت لها، أيّتها الجبال .. أعرفُكِ مُنذ بعيد.. ذاتَ جبروت وشِدّة وقسْوة وها أنتِ الآن قد ضاقَت عليكِ السُبل الكفيلة بالبَقاء على قوتك وجبروتك فلم تجدي من يُرحّب بك وبما أني قد حفَظْت العَهد بصدق ، فإنّي أثِق بكِ بأمان واطْمئنان لتكونِي وتَداً اسْتند عليه وقوة افتخر بها ومَنْعَة ابديّة.؛ فرضِيَت الجبال على مَضض، فكبريائها عالي كقممها وصلب كصلابتها ولمْ تكُن الارض سَهلة لِتَسْمح لها أنْ تَتنازل، خاصة ان مِساحات الرمال هيَ امْتداد شراكة عَتيقة ، فالرمال بوجهيها ناعمة ولَيّنة أو صَلدة صَلبة فهيَ عبارة عَن تصاعُد وتعارُض وتَراكُم نتج عَنه صَلابة.. تلكم الصَلابة هي حُبيبات الرّمل التي تَعرفها بقوة جاذبيتها وسِحْرها، ومُنذ ذلك اليوم أخَذ كُلّ مِنهما عهداً على الآخر.. لم يَنقُضه ولمْ يُخلفهُ أبداً .!.
قال وليد وهو يهزّ رأسه إيْجاباً :
إذاً .. كانت الارض كبيرة في تعامُلها التأريخي العظيم ، وقد ضَربت مَثلاً أعْظم عِنْدما قَبِلَت الجبال رَغْم اخْتلاف بيئة وطبيعة كُلّ مِنْهما.
– نعم .. فحقيقة العَهْد مَحْفوظة في قلوب الرجال القُدماء ولنْ تَجِد أحداً قرأ سِيْرة الحياة وسيرة رجالها إلاّ وذُكر ذلك العَهْد. “قال الرجل الصحراوي”
قال وليد بابتسامة وقد كَوّر يده اليُسرى ووضَعها على شفتيه :
– أرأيت كم يَمْنح التعامُل الأمَيْن والصَادق قوة وثقة.؛
هزَّ الرجل الصحراوي رأسه .. رضاً واطْمئناناً، وفي تلك الاثْناء هبّت نسمات جبليّة عليلة ، زادَت الموقِف إطْمئناناً واسْتئناساً .. فجأة ظهَر مجَموعة مِن الناس .. لم يَتعرّف عليهم وليد.. ولم يُحسّ بهم صديقه .. يَمْشِي وراءهم نِسْوة بِتَتابع قويم .. يَبْدو عليهم جميعاً حُزن مَكتوم !.
أشار الرجُل الصَحراوي إليه بحركة غريبة .. ولكنّ وليد بقيَ صامِتاً .. فقطع الرجُل عليه صَمته :
– ماذا يَعْمَل أبوك ؟
– أبي ؟؟ لقد توفّي أبي، مُنذ زمن بعيد ” قالها بحرقة..”
– أباقيةٌ هيَ ؟!.
– ……؟! أطرق وليد لِوَهلة، ثم قال .. جدّي وجميع أقاربي وأهْلِي لا يَزالون حَولي وعلى وصِال مَعي ويُحبونني وأحبهم.!
قال الرجل الصحراوي:
– أتظن أنّ حُب وحَنان الأبَويْن يُمكن أنْ يُعوّض.؟
– أتّفق مَعك تماماً، لكنّ الأهَم مِن ذلكَ هُو ، هَل ما يَزال شُعورهما حياً في قلوب الباقين، ذلكَ ما اعْتَبره إرْثاً، وقوة وحِصْناً مَنيعاً، فمكانتي بينَ الناس هيَ امْتداد لِحُب الناس لهُما !. ولذلك، لمْ أحَسّ بالحرْمان كثيراً.!
أظهر الرجُل شَيئاً مِن التَعاطف نحوه :
– وماذا تَنْوي أنْ تَفْعَل هُنا ؟!
– أحبّ أنْ اقْتَرب مِن الرمال، الوادي ، فأهْمُس بأسْراري لهُما فيَمْنَحانِي اسْرارهما وألْجأ إليهما في كثير من الأمور إنْ توطّدت علاقتي بهما.؛
– واهْلَك ..!؟
– لا يَفهموني كثيراً، هُم غاضِبُون بِسَبب الرمال والوادي.؛
– كيف ؟!
– مُجَرّد التَفْكِير العَمِيق في أمْر الحياة يُزعجهم .. دُلّنِي على طريقة أقْنَعُهم بأفكاري .؛
نظرَ الرجل إلى أفُق الرمال بنظرة شاردة الرجل ، ثم خفّضَ بَصره نحو نُقطة في الأرض وقال :
– هل تَعتقد أنكَ تَعرف أسْبـاب عِنـادهم وَكبْرهم، لَعلِّي أسْتطيع مُساعدتك، فتَتجاوز بذلكَ بَعضاً مِن همومك ويَنصلح حالك··؟ وحَبذا لو أخْبَرتني ولو قليلاً عَن نفسك، لكيْ أفْهَمك واحاول أنْ أعِيْنَك لبلوغ غايات الحياة التي تتطلعَ إليها !!.ِ
نظر وليد نحو الرجل الصحراوي بهدوء .. ثم أغْمَض عينيه كأنهُ يُريد أنْ يَتذكّر شَيئاً مُهِماً ..وانْتبه وقد توقّدت حِماسَته وركّز ناظِرَيه في عَيْني مَحاوره، وأحسّ بأنهُ يُمْكِن أنْ يَطْلق لنفسه عَنانها وأنْ يَبوح بكُلّ مُكنونات صدره وقال :
– أعلم بأنّ الصِدْق مِن الأمور الشاقّة في كُلّ زمان ومَوقف وعند كثير مِن الناس، ولكنهُ عندي سِمَة وعَهْد ألْزَمتُ بهما نَفسي لنْ أنْقُضه ولنْ أُخْلفه ما دام فيّ عُرق يَنبض..! فالحقّ والصِدق وأنْ لمْ يُعْجبا أكثر الناس لكنهما حبْل النَجاة الذي لنْ يَنقطع ابداً .. ومَهْما أخْبرتك عَن نفسي، فستبقى إحاطَتك بما يَختلج في صدري بسيط جداً، ومن الصِّدق أيضاً أن يُصرّح الانْسان عَن سيرته وأهدافه بلا خجل ولا مُماراة .. فأنا عِشْت أيامي كُلّها وحيداً وتحمّلْت اليَتْم والفاقَة، وتحمّلْت الهَوان والشك مِن الأقْرَبين ولم تُضْعفني تلك الهنّات، ومَررت في مُقْتَبل شبابي بأحداثٍ جِسَام غيّرَت تَفكيري ومَجْرى حياتي وتلكَ هي البُوتقة التي انْصَهرت فيها رُوحي فأصْبَحت اكْثَر صَلابة وعِناداً .. فهجرني مَن هجَرني، وبقيَ مَعي القليل .. وها أنا قد اشْتد عُودِي وتغلّبْت على الصُعوبات التي واجهتني ولا يزال الطريق أمامِي طويل ولا أزال اكْتَشِف كُلّ يوم ما يُؤلمني مِن ظنّ الاقْربين وما يُفْرِحُني هيَ ثِقَة الغُرباء .. وكُلّما عَرفت شيئاً أجِد نفسي اصْغَر مَن حَبّة رَمْل بَين كِثْبان الرّمال الشاسِعَة ورَغْم كُلّ ذلكَ لمْ يُثْنِيني عَن عَزْمِي وغاياتي عداوة الاعْداء بلْ زادَتْنِي قوة وبأساً ولمْ يَزدني تَعاليهم إلاّ كِبْرياءً وأُنْفَة وقوة ، والحقيقة أنّي ورثْتُ التَعلّق بوطني وآبائي هُم جَذوة ذلك التعلّق ولا تزال تلكَ الحقيقة تَشْتعل في صَدري وعلاقتنا وطيدة وتزداد صَلابة وقوة يوماً بَعْد يوم .. لكأنـّما شُعـور عَنيد يُلازمُني .. اسْتقرّ هذا الشُعور في ذاتي، وعَشَعش في فِكْري.. وَبتّ أُحدّث نفسي حتى حُرِمْت النوم .. ولم استطع أنْ أهْتدي إلى عُذر أقْنع به نفسي.. وازدادت حيرتي ، ولم تُسْعفني أعذاري ، ولم أتلذّذ بليلة هادئة ولا نَهاري أعانَني مِن لَظى تلك الافْكار ، كـانَ الصراع أشدّ هَوْلاً وأنْكَى إيْلاماً في نفسي ، وذات يوم، أفْرَغت ما في جُعْبتي إلى كُلّ مَن عَرفتهم وأحْبَبتهم .. فلم يُصَدّقني أحد إلاّ بعضاً مِن أقربائي .. أولئك وقفوا معي وصَدّقوني بلا تَردّد، فيما تَخلّى عني أغْلَب الناس وتطاول عليّ بعضهم واتّهَموني بالجنون وتُهَماً أخْرى . حتى أنّ أعزّ أصدقائي بَدا خائفاً مِن انْتقاداتهم وتحوّل عني وأصبح أشدّ الناس عداوة، فأخذَ يُشكّك بصِدْق نيّاتي، ويُكذَّب فِعْلي.. ولو أنه أدْرَك حقيقة ما أعرفه، لَندم أشدّ النَدم على افْعاله تّجاهِي وعَدائه المُسْتَغرب ولَقضى لَيلهُ ونَهاره يَبْكي أسَفاً وألماً على ما ضَيّعه مِن حُسْن صِلة وعِشْرة خير كانت بيننا.! وذات مرّة وجدتهُ أمام جمعٌ مِن الناس يَفْتَري عليّ ويتقول عني الأقاويل فأحْسَست بكلماته تَطْعَنني بقسوة ، يَجمع شَباب القرية ، يُحدّثهم بحديثٍ يَشْغلهم عَن التَدبّر في كلامي وأفْكاري ، يُحدّثهم بما لا يَنفعهم ولا يُفيدهم .. ورغم ذلك واجَهته وصارَحته والهَواجس تَصْطَرعني ، وانا أحدثه كنت أحس بأنّ في نفسه عداوة وبَغضاء اخْفاها عني، يكاد غَليان صَدره مِن الحقد يسمع في كلامه وفعله.. يَلْهَث مِن سرعة تفوهه بالكلمات المسمومة ويكاد صَوته يَبح .. فاقْتربت مِنه، ومَددت يَدي إليه، فلم يَمُدّ يَده وامْتنع عَن مُصافحتي، وبادرني غاضباً، مُنْتَهراً، أَجِئت تُفسِد عليّ حديثي مع القوم .. أمْ جِئت لِتَنتقم مِني .. أم جِئْت لِتُصالحني بعد فوات الأوان ، لنْ أُصالحك قَبْل أنْ تَتراجع عَن افْكارك الغريبة · سكتَ بُرهة ..ثم مدّ سبابته وصَوّبها نحوي، لقد أوْصَلت الناس إلى الشِقاق وجعلتهم في فِتْنة ، لنْ يَخرجوا منها .؛
ومُذ ذاك اليوم كرهْته، ولم أعُد أطِيْق رُؤيته أو حتى التفاهُم أو التقارب معه.. وما كُنـت لأكْرَهه لولا حديثه مع الناس عني بسوء؛ ولمْ أُخاصمهُ كرجل او يُحاورني كإنسان يَختلف معي ويتّفق لكنه تحوّل مِن صديق مُقرّب إلى عدو مُبْغض وحاقِد .؛ ومِن يَومها تَمنيَّت لو لمْ يكُـن أصْلاً قريباً مِني !!. وفوقَ ذلك، أقْنَعتُ نفسي وحاولْتُ ارْغامها على التقرّب مِنه رَغم كُل ما أحُس به مِن فظاظة وغِلْظَة منه.. فالعَداوة لا تَحمل سَلاماً أبداً، وقد باءَت مُحاولاتي بالفشَل.. ولا أَكذب عليك فقد لَعَنتُه سِراً ، ولمْ أكن لأَلْعَنه لولا أنهُ قَعَد عِنْد كُل مَقْعَد أُحَدّث الناس فيه عن الحياة والرمال وقد ناصَبني العَداء وترصّد لكلّ مَن تَقرّب إليّ واقْتَنع بأفكاري سِراً وجهراً ، وأذْكُر بَعضاً مِمّا قاله لبعضهم : ” أيها الرجال كونوا كما عرَفتكم مُتماسكون ولا يَغرنّكم ما يَقوله وليد مِن كلام مُنمق لا صِدق فيه ، إنه يُحدثكم كذباً وافْتراءاً .. لا تَصغوا له فيردكم خائِبين ، وأنا أطْمَئنكم بأنّ الحقّ إلى جانبكم وأنّ وليد لا يَدعوكم إلا لِيُبَدِّد عزائمكم ويُشَتّت جهودكم بتَيْه أوهامه وغرائب خَزعبلاته.. انْصَحكم أنْ تتَجاهلوه وتَنْفضوا مِن حَوله وسَتشعرون أنّكم تَخلصتم مِن عبأ ثقيل ،عَلقَ في عُقولكم.. فالحكيم هو مَن يَتمسّك بماضِيه دون تأثِيْر مِن أفْكار غريبة ويبقَى على فِطْرته السَليمة ، والمريب هو مَن يجمع الناس ويُحدثهم كذباً ليُخرجهم مِن فطرتهم السَليمة إلى فطرة يُوهمهم بها ، يُحدّثهم عَن غرائب وعجائب لا تنفعهم ولا حاجة لهم بها ، يُضَيع على الناس حياتهم ،يُبدّلهم قناعاتهم بأفكار مِعْوجّة، فيُذهب جُهده هَباءً ويَزداد بُعْداً ويأتي بغير الحقيقة التي كانَ عليها آباؤه وأجْداده مِن قَبْل .. ويُصْبح كالمَمْسُوس يُصارع افكاره ولا يَسْتقر على حال ،.”؛
وفور انْتهائه مِن خِطابه الهُجومي وكلماته التي انْطَلقت كالسّهام المَسْمُومة إلى عُقول الناس .. بدأتُ بالتأهّب للدّفاع عَن فِكْري الذي هُو مِن قناعات سليمة وفطرة الناس السويّة ، فإيْماني وثِقَتي بِمُعْتقدي عَمّقا في نفسي مَشاعرٌ كبيرة ، رَغم قِلّة حِيْلَتي ، ووجَدّتنِي أتوق لأُردّ له الصَاع صاعَيْن عَلَناً وألْعَنه سِراً فقد كذب وافترى بكل ما قاله حتى سِيْرة جَدّى لَيْسَت كما وصَفها .. ولكني تراجَعت وحاولت أنْ أُهادِنَه ، مَخافة أنْ يَسْتفز الناس ضِدّي بالقَول او حتىّ بالفِعْل إنْ خاطَبْته بأَلْفاظ قوية أو سَفّهْت اعْتقاداته خصوصاً وأنّ هُنالك الكثيرين مِمّن صَدّقوه واتّبِعوه وأنا بلا ناصِر أو مُعِين وكانَ رَدّي أنَنِي سَأبْقى على خُطى اجْدادي اللذين أحْسَنوا وصَدقوا وتَركوا أثراً طيباً بَين أهْل الرمال وأنا على أثَرهم ماضٍ وأرِيد التَغيير للأحْسَن.. وبالتالي لمْ أكنْ أرْغَب أنْ أكون على خِلاف كبير مع جَدي ، وقد أحْزنتني كلمات الرجُل وأصابَتني في مَقْتَل خوفاً على ما سَيظنه بي جَدي والحُزن الذي سَيثقل كاهِلَه .؟
– لماذا .. قال الرجل، مُحدث وليد؟
ـ ذلك لأنّ كلمات الرجُل سَببّتْ لي مُعاناة وألم بِسَبب تصريحي بأفكاري الجديدة ورَغْبَتي في توضيحها وتفسيرها لرجال القرية عنها بَعيداً عَن الخُرافات والتأويلات لعلهم يفهونني ويقبلون افكاري، فالحياة تتجدّد بتحديث الناس عليها ، بالقيم المتواصلة والأخلاق الراسخة ، والعَمل على مَلأ الصُدور بإيْمان قويم والعزْم لِتَجديد الحياة ومحَبّة الناس والتمسّك بالوادي والرمال، وتوثيق العلاقة بالقرية ، تلك القِيَم جميعاً وجُوبها إلْتزام ثابت ، وكذا المبادي يجبْ أنْ تكون راسخة وثابتة ، قد تَتغيّر بعد حِيْن مِن الدهْر وقد تتبدّل وفقاً لمُعطيات الحال الإنساني المُتغيّر ، لكن الإيمان بوجوبها فرض يتأصّل في ثيّمات مَبادئنا .. حتى لو أنّ ايّامها مضَتْ ، فأنْ تتعلّق بشيء ثابتٍ راسخ ، خيرهُ أعْظم وأبقىَ مِن أنْ تتعَلّق بشيء مُتغيّر ، مُتقلّب غيرَ باقٍ لا قوة له ولا حول غير إيمانٍ مُرسَل مِن عقلكَ ولم يُؤمِن به قلبُك.؛ فالفِكْر كالإحْساس بالشيء، إنْ لمْ يتلامَس به عقلك ويتفاعل به ذهنك ويختمر في باطنهما ، فذلك ليس فيه أيمانٌ قويم .. وأنا أقول ما أؤمن به وابوح بما اشْعُر به واكتُب تفاصيل حركة السُكون وأدَوّن الأشْياء الحاضِرَة في ذهني بتجرّد مُطْمئن ذلك هو الإيمان الأقْوم .؛ أؤمن بأنّ الشيء الوحيد الذي لمْ ولنْ يَتغيّر هو التَغْيِير نفسه، فالتغيير إيمان وعزم وفي داخلهِ الإصْرار والمُحاولة .. كُنت أظُن أنّ الصَراحة ومُواجهة الناس هي الوسيلة الوحيدة التي تْكْسُبني ثقتهم.
– طيب وماذا بَعد الثقة إنْ وُجدتْ.؟
– أظْهر احترامي لهم ولأفْكارهم وما كانوا عليه بأسْلوب التهدئة لِيَطمئن الناس إلى سَلامة النوايا ، وأجْعل الثِقَة مُتبادلة بيننا .. وبرأيي ذلكَ أفضَل أسْلوب يُمكن انْ أتّبعه ، فأنا لا احبّذ القسوة ولا انْتهج طابع العَداء والبُغض والكُرْه والاختلاف وارد بلا ريْب .. وانا ادرك أنّ فَهْم الناس جزء مِن الحياة .! وسأعمل بروح وثّابة لخلق تفاهُمات بين الناس ، نُدرك بأنّ لِلَتجاوزات كنْهُها والشُبهات مَوطنٌ بغيض لفهم الآخر، ما يَهمّني أنْ يرتدع الناس عَن بَراثنها ولا يقعونَ في اوْحالها وسأجد مواطنَ أُخرى غير السُقوط في مَتاهاتها ..فالأساليب الواثقة هيَ أساليب يطمئنّ بها المُؤمن بأفكاره الحقيقية وسأتجنّب الوقوع في الخطأ ، وإنْ حصلَ فسوف أعالجهُ بطريقة مُحاولة اصْلاحه !
– ألهذه الدرجة وصَلتْ بكما الحماقة أنْ يَلْعن أحَدكما الآخر .. “قال الرجُل الصَحراوي باستغراب” :
– لم أكن لألعنه، لو لمْ يَبغي عليّ ويَصفني بصفات مُقيتة ، لقد فَرَط في تعامله مَعي ، واتخذ جانباً من الحماقة والكِبْر .؛ وما رَدّي الغليظ عليه ونَهْري له إلاّ لكي لا يَتمادى في غيّه أو يَسْتهين بي ويَسْتضعفني ، وخَشْيتي أنْ يَبْلُغ بي ذلك مَبْلغاً يَجعلني اتَصادم معه فينشقّ الناس ويتفرّق القوم ويَحصل ما لا يُحمد عُقباه وكانَ خَوفي أنْ يَتغيّر مَفهوم العلاقة بيني وبين الناس، فلا أجِد مَن يُصَدّقني !.
قاطعه الرجل الصحراوي :
– كانَ الأجْدر بكم جميعاً ، أنْ تركنوا إلى التفكَّر والحكمة وأنْ تَضعوا مَصْلَحة النـاس والقرية فوقَ عِنادكما، والتوجـّه نحو إصْلاح الناس والارتقاء بهم بَعيداً عَن المهاترات الفارغة وبَذاءة الكلمات وقَرْف الّلعَنات .. فأنْ يُمْعِن أحَدكم التَفكير في حالِه ومآلهِ خيرٌ مِن أنْ يَقْضِي حياته في شِقاق وبُؤس وقتامَة .. فهلْ أدْرَك أحَدكم كيفَ بَدأ خَلْقَه ونَشأ أو كيف سَينتهي ..؟!
– وما افعل ..؟! قالها بنفس بلغتْ درجة الاطْمئنان وارتَقتْ إلى حال إصْلاح الإنسانية .. لقد نَصحت بعضهم وتناصَحتُ مع البعض الآخر ونَبّهتهم عَن غَفلتهم ، فإنْ استمروا في غيّهم ، فليس ببعيد أنْ يَلْحقوا بالشُعوب البائدة ويومئذٍ سَتنساهم حتى رمال واديهم ، كُل ما يُهمني هو صلاحهم ورجوعهم إلى التفكّر والتعمّق لفهم الحياة والناس !!. فأنا أدْرك أنّ البداية ضَعف وولاَدة قاصِرَة ، وأنّ النهاية مآلها انْكسار وهَوان.!.
نكّس وليد رأسه وسكت ثم أردف ، عَجِبت مِن أمْره.. واحْترت في أسْبابه ، وتساءلتُ في نفسي .. لماذا يَختزن كُلّ ذلكَ البُغض، رغمَ انه كانَ مُحِب للحياة والسلام..! فلماذا انْقَلب إلى كُل تلك العداوة والخصُومة.!؟ مع أنّ أهْل القرية والوادي لمْ يُألفوا عني كذباً.. ولمْ يَروا مِني خطأً. !! فلماذا التشكيك والخوف.؟! وأعْجَب العَجَب أنْ أجِد مَن كُنت أظنّهُ أعْقَلهم ، صارَ يُجادلني بجَهْل مُطبق.. بلْ ومَن كُنت أحْسبُه أحْسَنهم أخْلاقاً يَتصرّف كأنهُ صَغير أرْعَن!!
– إذنْ ما الذي تَغيّر برأيك..!؟ وما هيَ الأسْباب التي دفعتهم إلى أفْعالهم تلك ..!؟
– صدقت .. إنّ الأْمر في غاية التَعقيد .. حتى أنا لا أملك تفسيراً عقلانياً او دليلاً لِسُلوكهم الأهْوج .؟ ولا أملك تَبْريراً واحداً أقْنَع به نفسي .؟
– والآن ما انت فاعل .؟ (قال صديقه الصحراوي)..
ردّ وليد مُعقباً :
– أريد أن أجد سَبيلاً أو طريقاً يُمكنني أنْ أمْضِي بحياتي وسَعْيي ولا ألْتَفت لما يُحاك مِن حَولي ، فهدفي يَحتاج إلى كُلّ جُهدي وتَفكيري ولا يجبْ أنْ انْشَغِل بتوافه الأمُور!!.
– تلك هي طبيعة الحياة .. كُل انْسان يَتحمّل لوحْده مَسؤولية فِعْله وما اقْتَرفه مِن خطأ فلا تبتئس وكن كالنخلة تُرمى بالحجارة وتُلقي هيَ بأحْلى الثمر.
قال وليد مُعلقاً :
فهم أحوال الناس ، الذي هو مُنطلق لفهم الحياة على الرمال والوادي.. ومِن ضِمْن اهْتماماتي او ما يَشْغلني ، مَثلاً دفْن الموتى أصْبح نمط حياة ، اعْتمدها الناس، فصارتْ جُزءاً مِن تعامُلاتهم ولا تجدهُم يُفكّرون في طريقة أخرى ، مُبْتكرة لِيُواروا سَوءات مَوتاهم ولا يَجرأ أحَد مُطلقاً .؛ على تخطّي او تجاوز ما توافق عليه الناس فصار جُزء مِن حياتهم .. تلكَ هي المعرفة ، فالحياة تجديد ، حتى في دعوات بعضهم لا يجب أنْ تَبقى نمطيّة التَعاطي بل يَجب أنْ نَتجاوز المألوف والمُعتاد ولْنَبتكر شيئاً جديدا.. حتى لو تفاوتتْ طريقة الجُهد في بَعض التفاصيل .! سكت بُرهة ثم استطردَ ، هل لديك فَهْم واسع عن تاريخ حياة الناس ودفْن مَوتاهم.!؟
ابتسم الرجل الصحراوي الذي اصبح صديق وليد بسرعة في داخله:
– يُقال أنّ الزَمن غيّر الكثير مِن المفاهيم ونَتجت أشْكال حياة شديدة الاخْتلاف عَن الحياة التي قبْلَها.
قال وليد مُتلهفاً :
– أنا أتُوق لمعرفة كُل شيء عَن التأريخ والحيوات السابقة التي كانت قَبْلنا وسَبقتنا في الوادي والرمال، لكيْ أزْداد مَعرفة بهم ، بحياتهم بسلوكهم وانماط معيشتهم واغْترف المزيد مِن العِلْم والمعرفة ، ذلكَ ما يَنفعني .!؟
هزّ الرجل الصحراوي رأسه إيجاباً .. وقال :
– نعم أتفق معك ولكن ، هل في ذلكَ ما يَشْغلك.!؟
اطرق وليد راسه .. واطْبَق شَفتيه ، قال الغريب مُستأنفاً حديثه..
– أكُل تلك المعارف عَن الحياة والناس بظنّك سَتجعلك تَفهمهم أكثر!!.
– لا .. لكنّ المعرفة الشاملة هيَ حُلُمِي الكبير، والخير فيها كثير، فأنا أحْلَم بِتَحقيق جُزء مِنها في كُلّ مَرحلة مِن حياتي ومَسْعاي مَعرفة الحياة وفَهْمَها يقودني نَحو النجاح وتحقيق الغايات التي اسْعى إليها ، فالمعرفة في الحياة غاية لا يُدركها إلّا الحليم النبيه ، وهم قلّة ، ومنْ يذهَب إلى العَدم بلا أثر او غاية لا يَعود .؛ ومَن يغوص في الرمال يصبح نَسْياً مَنْسياً ..وأنا أريد أنْ أترك أثراً يُذكرّني الناس به مِن بَعدي وأتساءَل دوماً ، كيف يَجهل الإنْسان أمْر حياته الأخرى ويَهتم بِمُتَعٍ قصيرة إلى أنْ يُسَاق إلى حَتفه ، أليسَ أولئك هُم كالأنْعام بَل هُم أضَلّ كثيراً .. أليسَ قدَر ابن آدم أنْ يَمتلك مَصِيره ومُسْتقبله؟ كيف يَقْبَل العاقِل الحاذق أنْ يكون كالنّعاج يأكُل ويَشْرب ثُم يَخْتفي بلا أثَر ولا ذِكْر ؟.
رفع الرجُل الصحراوي عينه ثم خَفّضها كأنما سَمِع كلاماً اسْتفزه فانتبهَ وعجّل بردّهُ مُقاطعاً:
– ألا تَرى مَعي أنّ مُرور آلاف السِنين على الناس قد خلقَت أشْكالا شديدة الاخْتلاف مِن البشر وانْماط حياة اتّفَقت بَعضها واخْتَلف أكثرها ، فهذا الحال لَيْس كالحال الذي كانوا هُم عليه فقد تغيّر وتبدّل وتحدّث واسْتحدث.. لكنّ القِيَم ثابِتَة، طبائع البَشر وانْماط حياتهم لا تَتطابق بِسَبب اخْتلاف عُقولهم ورغباتهم ، وبسبَب الفترات الطويلة، وتَجارب البَشر المُتراكمة أضْفَت نَفْعاً وحياةً غيّرَت طريقة عيْشها في كُل فترة مِن الزمن، فمثلاً الجُهد الذي يَبذله انْسان قد يُؤثر بطبيعته على بقيّة البَشر بطريقة جيدة أو سيئة وفي كلا الحالتين سَيعطي فائِدَة ونفْع وسَيُسْتفاد مِن ذلك الجُهد الناس وكذلك أصْناف البشر ففيهم الجيد الفَطِن الفَهيم ومنهم السَيء السَقيم ويَنطبق ذلك على السُلوك أيضاً.؛ وعلى الموروث والمُتوارث مِن العادات والتقاليد.. فما يَتركه الإنْسان خَلفه بَعد الحياة يكون مَوروثاً وذلك الموروث له امْتداد يَضْرب بجذوره في عُمق المجتمع والأرض ويَسْتمد قوته وبَقائه مِن تقبّل الناس له .. فالموروث قد يُؤثّر على السُلوك الإنساني وعلى الحياة ككُل.. والرّديء مِنه سَيتجنّبه الناس ويَتجنبون الوقوع في أخطائه ويَتمسّكون بمحاسِنه، فما يَنتفع منه الناس سيبقَى مِن خلال إلْتزامهم بجهود المَنْفَعة لِمَن بَعدهم لكيْ تَبْقى الحياة مُسْتمرة ومُتوارثة . ولتكون تلك التَجارب بَعد حين مِن الدّهْر إرْثاً حقيقياً ، يَشْهَد عليه اللّاحقون .! وأنا أحْتَرم رأيك .. وأحَيّي عَزمَك.. وأرجو أنْ تُديم جُهدك لدَفْع مَضرّات وجَلْب مَنافع لحياة قريتك لتكون إرْثاً نافعاً والأخْطاء ـ إنْ وُجِدتْ ـ فهيَ سَعْياً لِبَقاء الطيّب مِن القول والعَمل. وأمّا ما قد يَضْطَر إليه الإنْسان فالضُرورات تُجيز المحظورات في الأخذ بأسْبابها ومُسَبّباتها .. ويُقال أنّ للضرورة وجْه مُخْتلف .. تُقدّره حكمة البَقاء وتَدْعَمه أساسيات العيش .! فالْتَمِس أمراً وسَطاً تتعايش مع هذا وذاك، حتى وإنْ كُنت في اصْعَب المواقف.! وحيث أنّك رجُل صادق في كلامَك وفِعْلَك ، وجاد في تعامُلك بلا زَيْغ أو تَهْويل . فإنّي أدْعوك إلى الوسطية الخالدة التي سَتجلب لك السعادة الباقية .. فامْنَح الناس ما يُعينهم على الحياة .. وذَرْ ما لا يَنفعهم.. واعلم أنّ التَشدد يُنَفّر الناس والبساطة تَشُد مِن أزْرهم فالفعل الطيّب تراه كالعَسل غذاء ودواء، وأنّ كلمات السَعادة أقربَ للنفس، كالنخلة كُلّها خير، فذات الثمار الأصْفر يُقال أنّ مَذاقها لذيذ ولونها شديد وجاذب إذا استوتْ، والنخلة ذات الثمر الأحمر، مَذاقها جميل ولونها برّاق ، صَلبة إذا استوتْ .. وكلاهما ثَمر ونخل.. ولِكُل مِنْهُما جمال ومَذاق مُتشابه ولكنكَ قد لا تجد ذلك التشابُه في نظر ورأي المُخْتلف.من البشر؛
مدّ ناظريه في وليد .. وأردف .. إنّ في الحياة مُتّسع لكل ذي أَمَل.. ومَن يُقَدّر جُهد الآخرين يَجد تالياً مِن يُقدّر جُهْده .؛ ومَن لا يُقدر جُهد وأفكار الآخرين لنْ يَجد مَن يُقدّر جُهده ولا يكون له مكانة بينهم ، فالسَعادة تأتي مع احْترام الآخرين ومَن يَلْتَزم بمنفعة الآخرين سَيجد حَتْماً السَعادة في حُبّ وقبول الآخرين له.! وإيّاك أنْ تُبْطِل عملك وجُهدك لمجرّد أنك تَسْعى لحياة أفْضَل أو لمْ تجد قبولاً سريعاً.. إنها الحياة ، لا تَوافُق فيها ولا رِضاً كاملاً ، ولا تتوقّع أنْ تجد غاياتك مَبْسُوطة ولا اهدافك مَيْسُورة ولا رغباتك سَهلة خصوصاً عندما تكون تلك الغايات كبيرة ! ونصيحتي أنْ تَجعل الكلام الطيّب اسْلوبك والموعظة الحسنة سُلوكك والْتَزم بالمزيد ، وسَيمنحكَ ذلكَ السُلوك المزيد مِن القُبول والتَقدير سَواء في القرية أو الوادي أو حتى الرمال.