ثقافة وأدبمنوعات

رواية وادي الرمال.. الجزء 1-الحلقة 3..

الكاتـب/ حـمـد الناصـري

 

رواية وادي الرمال .. الجزء 1 – الحلقة 3..

 

أخذتْ قصص وليد واهتماماته بالرّمال تَنْتقل وتَعُم أرجاء الوادي، وكثُرتْ الاسئلة وتحوّل بعضها إلى تَصادم للأفْكار ووجَدَ بعضها الآخر طريقه إلى عُقول وقلوب الناس واقْتنعوا بأفْكاره .. وأُثِيرت جدالات بين أهل الوادي .. كيف يَترك عقيدة قومه ويتنَكّر لها ؟ لماذا يُخاطر بنفسه ويذهَب وحيداً إلى رمال قاسية لم يَستطع أحـدٌ سَبْر أغوارها.؟ ما أبْعاد فلسفته الجديدة؟! ما هذه الأفْكار التي ليس لها مَفهوماً مُحدّداً لحدّ الآن؟! كيف له أنْ يَرتحل إلى أعْماق الرّمال دون رفيق؟ ما الذي دَهاه.؟! ما الذي غَيرّه .؟! من ذا الذي أطْلَق شَرارة تَجربته الجديدة في الرّمال.؟ ماذا يَعني تحوّله المُفاجئ إلى التَغْيير وتراجعه عمّا كان عليه آبائه.؟ لماذا الابْتعاد عَن القرية ويُغامر في صَحراء الرمال .؟ لماذا لم تكن تجربته في بداية عُنفوانه إنهُ لم يَبْلغ أشَدّه.!؟ لا شكّ انه خطرٌ كبير، إنْ لم يكفّ عَن ما بَلغ به أمْره؟.

قال رجل طويل القامة كثّ اللحية :

– قد تكون تجربة وليد هيَ أسْوأ حدَث مرّ على الرّمال وأفْكاره الغريبة لا تُمثّل مُجتمع الوادي ، إنها تجربة طَيْش غير عادية .. يَجب أنْ يَقِف الجميع ضِدّها كيْ لا تَعُم الفوضى أرض الوادي ويَضِيع الحقّ بيننا ، إنّي أخشى أنْ يُسَفّهَ ما وجَدنا عليه آبائنا واجْدادنا مُنذ زمَن بَعِيد ، ويُحْدِث أمراً لم يكن في الحُسْبان أو يفعَل تَغْييراً قد يقود إلى الانْفلات في القِيَم والاخْلاق؟!

لمْ يَعِر وليد أسْئلة الرجال اهْتماماً كبيراً .. فانْتقدوه عَلناً ورَفض كِبارهم كلامَه وتصرّفه واعْتبروه انْقلاباً وتَمرّداً على اسْلوب حياتهم ، وانْتهاكاً لما أَلِفُوهُ مِن آبائهم وَولدوا وتَرعرعوا عليه .! ولكنه واجَه انْتقاداتهم بِهدوئه المَعْهود وبلَباقته المُتَميزة ، وقد شحَذ هِمّته بالعزيمة والجدّية ، وحدّث نفسه :

– لا بُدّ أَنْ أعوّض الناس ما فاتهم فقد آنَ الأوان لِبَذل المَزيد مِن الجُهْد مِن أجْل التَغيير لأنه أصْبَح أمْراً حَتمياً حتى وإنْ لمْ يُعْجِب هذا التَغْيير بعض رجال القرية وقد ثارتْ ثائرتهم ضِده .. فعلى الأقَل أسْتطيع أنْ أصِل بأفْكاري إلى بعض الناس وإنْ أَقْضِي على الافْكار الجامِدَة التي باتَت تَتَعَمّق في نفوسهم.!

وفي احْدى الليالي المُقمرة، وبينما كانَ بعض ما يَتناقله الناس عَنه يَصِل إلى مَسامِعه .. فجأة وكأنهُ تَذكّر أمراً مُهِماً جداً فاكْفَهرَّ وجَهُه، وهزّ رأسَه نَدماً وحسرة وقال:

– آه لو تَعلمون..!! ما أَفْعَلهُ هو خيرٌ لكم ، سَعادتكم في ابْتعادكم عَن الموروثات التي لم تَعُد تنفعكم.!

رد كبير رجال القرية شاداً بيده كُمّ ثوب وليد :

– وما بالكَ أنت وشُؤون الناس وهُمومهم ، أأنت وليّ أمْرَهم أم نصّبتَ نفسك مُدافعاً عنهم .؟ أم أنت سَتنزل في قُبورهم فتلقّنهم الخير وتدفع عنهم الشرّ ..؟ أم سَيُؤكل إليكَ أمرهم ؟. أم تراك انت مَن يُوزّع أرزاق البشر ؟!. تَتصرّف كأنّ الأقْدار بيديك!!   يا وليد أنصحكَ أنْ تَهْتم بنفسك وبحياتك وأنْ تَترك القوم وشأنهم  ولتُغادرنا إنْ شِئت..؟ أفهمت .!

التفت وليد نحوه وقال :

– كيف أترك قومي في هذا الحال وأنا بينهم وانا أعْتبر التغيير جزء مِن مَسْؤوليتي .. وحياة الوادي هي حياتي وقدري وانا لا أريد أنْ أغْمُط حقاً أو أنْ انْصُر باطلاً وما أتمنّاهُ لنفسي، أتمنّاهُ لغيري. فكُل فَردٍ منكم مَسؤول عَن نفسه ومُحاسَب عليها ولكن ، هل تَعِيبون عليّ أنني أُرِيد لكم خيراً كثيراً !؟ .. واعلم ـ يا سيدي ـ  ..أن ذلك ما أفكر فيه.. وليس لي أطْماع بمال او سُلطة و ما اقوله هو دعوتي لِتَغيير الواقع الذي تَعِيشون فيه ، إنّ فيه خير كثير للجميع وقد تكون الرمال هيَ مَفازتي رَغم الألَم  ورُبما ذلك هو خيرٌ لي مِن أنْ تُسفّهَ أحْلامي وتَئِدَ تَطلّعاتي؟.

أطرقَ لِلّحْظَة ثم نَظر في أعْيُن مُسْتمعيه.. وأكمل :

– إنّها مَسْئوليتي تّجاه الحياة في الوادي والرمال ، فقد أخذتْ مِني كُلّ تَفكيري . وسأسْتمر عليها ما دُمْتُ حياً بَينكم.!

– ماذا يعني كلامك هذا ؟ “قال القريب”.

– هذا يعني، أنّي عاهَدت نفسي بما قُلته لك، والصُورة الحقيقية لِمسؤوليتي هو الحال الذي أنْت عليه ، حتّى يَتنَبّه الناس ويَختاروا طريقاً جديداً لحياة أفْضَل لهم!.

-لكننّا لَسْنا مُهْتمين بكَ وما جِئْتنا به ، فأمْر تَغْيِير الكون والناس ليس بيدك أو بيد غيرك إنّما هو بأمْر مِن أنْشَأهم!.

– تلكَ الصُورة الحقيقية التي رسَمْتَها مٍن أجْلكم سَتبقى ، وأنا على يَقِين مِن تَحقيقها وسأحقق ناصيَة أفْكاري بإرادةٍ وعزيمة راسِخَتين ولنْ يَنكسر عزمي ولا تلين إرادتي ، سأواجه الصّلْف بقوة ونشاطٍ وهِمّة مَهما طال الزمن بالوادي.!

– وماذا تنوي أنْ تفعل بالوادي..!؟

– أنْوي إحْداث تَغْيِير مُمْكِن .. أنْوي أنْ أصِل إلى جَعْل رجال الوادي في وئام وتفاهُم.. فخلْق عِلاقة مَكينة مع السّماء هيَ اكثر إهتماماتي تَفادي مُفاجئات الأيام غير المَحْسوبة .. ، فلكُلّ مِنّا بداية مَعلومة بالوادي ولكنّ نهاية تلكَ البِدايَة مَجْهُولة لا نَعْلُمها لا نحنُ ولا انتُم سَواء .!!

– ثم ماذا؟ قال القريب مُقاطعاً :

– إعلم ، يا ابن عَمّي ، أنّ عُباب الحياة ، صَعْب وقاسي لكن يُمكن تطويعه بالعزيمة والإرادة وقد لا يُتمّ عُبوره إلاّ بالثقة بينَ الناس جميعاً وبأفْعال الرجال وثباتهُم.! فأنْ تَنتبه خيرٌ لك ، فسوف تأتي يوماً لا حِيلة لك ولا قُوة فيه ، تلك هيَ مرحلة ضعْفك ! ولا يَغُرنّك هدوء الرمال ووداعَتها .. فالأحْداث الآتية خطيرة واعلم ـ أيُها الإنسان ، أنّ النهاية كالبداية ضَعْف وعَجز ، فهل ستذكُر شيئاً من تلك البداية لتنفعُك في مرحلة النهاية.. ما أُشدّد أنّ البداية والنهاية قد تَتخلّلها المُفاجئات غير المُتوقعة .. فاحْرص على ما ينفعُك والحاذق مَن يفَهِم كيف يَسْتفيد لحياة سيكون وحْدَه مَسْؤولاً عنها، في تلكَ النهاية تكونَ شَكْل الحياة التي اهتديتَ إليها بأفكارك؟.

أوْمأ القريب مُوافقا لكلام وليد وخاطبه قائلاً :

– أحسنت قولاً، ولن أَخْذلك أبداً .!

– أعدك أنك لنْ تَندم ، ولنْ تكون في حَسْرة ابداً، فالشّرف في الحياة ، هو بَذل الجُهد وتَرك الأثَر الحسَن بينَ الناس ووضْع القاعِدَة الصَحيحة ، القائمة على توطِيْد العِلاقة بينَ مُبْتَغى السَماء ومُبْتَغى الحياة على الرمال .

تنحنح القريب بصوت مَشْحون بالعزيمة ، وتَغيّرت نَبْرَة صَوته ، وصارَ  أكْثَر هدوءاً وأكْثر اتّزاناً وتَرْكيزاً .

– نعم اعْرف أنّ القِيَم تُحدّدها الفِطْرة السَويّة وقد تَتدهور تلك القِيَم اذا ما ازْداد الجَهْل والتَعلّق بالمادة ، لذلك فالتفكير في الحياة أمرٌ بالغ الأهميّة بل هيَ ستكون سبباً رئيسياً في تَعزيز الاطْمئنان .

قال وليد بابتسامة :

– المُراد يا إبن العَم ، هُو بَقاء الناس على صَفاء ، يَعيشون  حياةٍ آمنة مُطمئنة لا يَخشون طوارق الليل والنهار يَغمضون جفونهم في أمان واطمئنان .!

قال شَخص آخر ، بكلمات أراد أن  يَستفز بها وليد :

– هل تقصد بكلامك هذا الإعْلان عَن رحلة جديدة إلى أعْماق الرمال ، أنا ادرك أنه ليس لديك ما تَخشاه او تَخاف عليه ، فلا أحَد يَهْتم بك ولا تَهْتم بأحَد ولَيس لديك زوجة أو ولَد عِشْت ولا تزال تعيش وحيداً ، وتلك العبارات العَقِيمة التي تَتفوّه بها بينَ حينٍ وآخَر هيَ تَعْبِير عَن مخاوفكَ مِن أنْ تموت وحيداً كما عِشْت وحيداً.. إذْهَب ولا تُعَد أبداً ..كفانا تطيّراً وتشاؤُماً !!.

– ما تقوله مِن كلمات تُحاول أنْ تَقنع بها نفسك لكيْ لا تَنظر إلى الحقيقة الواضِحَة كالشَمس ولكنّها تَبقى حقيقة حتىّ ولو مَرَّ زمن طويل فأنا ومَن معيَ ثِقَتنا كبيرة بإخْواننا الذين توصَلوا إلى قناعات غير قناعاتك ويُنْشِدون التّغيير بإلتزامهم بما وجدوهُ مِن إيْمان وحُب الحياة وما ورّثهُ لهم الاجْداد مِن قِيَم وعادات وتقاليد هُم بها مُلتزمون. فاذهَب حيث شئتْ .؛ ضحكَ الرجُل وقهقهَ ،ثم صمت بُرهم زمّ بوزهُ وهزّ رأسه .. سأبْقَى مَشْغولاً عليك ، فاحْرص على أن تَعود سَالماً .!

ابتسم وليد ، وقال وهو يربُت على كتف قريبه الذي آمنَ بما يقوله عن الرمال والحياة :

– أنت لها .. أنت لها.

الّليل يُلْبِس النّهار رداءً قاتِماً .. قرية الوادي تَخْلد لِلْهُدوء .. هَبّات نَسائم بدايات المساء لها صَوت مُخيف، قتامَة لَيْل الصَحراء كالحة ، مُوحِشَة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى