رواية وادي الرمال..(الحلقة2-الجزء1)..
الكـاتـب/ حمـد النـاصـري
رواية وادي الرمال .. (الحلقة 2 – الجزء 1)..
قال وليد بعد أنْ شرد بذهنه بعيداً :
ـ أنا أشكّك في رأيك في تكوينها ، ذلكَ أنّ الرمال لم تكن وَحْدها بقايا وجْهَها الغامض كما يُشاع .. فالغُموض يَشْمل او شَملَ الاثنين مَعاً اقْصد الطبيعة والرمال، دون قَسْوة هُنا، أو غُموض هُناك.. فالتأثيرات البيئية في مَنْظومة الحياة ـ حياة الوادي والناس ـ كانتْ أقوى مِن التأثير الانساني عليها. أيّ أنّ الناس ، لم يَكُن لهم دور في قَسْوة الطبيعة في الوادي ، وعلى العكس هُم مَن تأثّر بتلك الظُروف القاسية وتأثّرت طُرق مَعيشتهم ، وذلك ما اسْتوجب التَنقل او التَغْيير في البيئة والسَكن .. ومِن خلال تلك التَغيّرات البطيئة ، تَطَبّع الناس وتكيّفوا مَع الرمال فأصْبَحوا قُسَاة مِثْل طبيعة الوادي فغيّروا وتَغيّروا .. فلو افترَضْنا أنّ تأثير المَكان كبير وهائِل على حياة الانسان في مُدة زمنية .. فما هو مِقْدار التأثير الذي نتوقّعه خلال عُقود او حتى قرون مِن الزمان، غيرَ عادات وتقاليد مُرتبطة بالغِلْظَة والشِدّة والصَبْر اللَذيْن فرضتهم مُعاناة وصِراع مع الطبيعة.؟ وإذا ما تَغلْغَلت تلك الصِفات عَبر الزمن في أعماق نفوس أهل المكان ، سوف يُؤدِّى ذلك إلى سَيطرة الرجال الأكْثر صَلابة وسوف تسُود الغِلْظَة على الناس.؟ وعندئذ سَتسُود شريعة القوة وتختفي الحِكْمة عَن الرجال؟. ذلكَ لأنّ تأثير الإنْسان على الطبيعة سيكون مَحدوداً وقد يَنْجَرّ الانْسَان إلى نَمَط الطبيعة ويُصْبِح جُزءاً مِنها ويَتخلّى عَن انسانيته، ما لمْ يَسْتمر بالتَعامُل المَرِن وبالحِكْمة والعَزيمة القوية وعندها يُمكن تحقيق أعلى درجات التَحضّر والتَطوّر بما يمتلكه مِن القُوة المُؤثرة ، خصوصًا إذا ما قام بربط تـأثيرات الطبيعة بشكل ايْجابي والاسْتفادة مِن صُعوبة البيئَة وقساوتها وتلك هي مِيْزة الانْسان الصَلْب العَمِيق الجذور ، وإذا ما فَهِمْنا أنّ الانْشِطار الكوني حدَث بفِعْل التَقادُم الزمني التكويني والتَغْيير المادي أو بفِعْل قُوة العوامِل المُسَيطرة عليه او قوة أكْبَر أو وُجود طاقة كُبرى أدّت إلى أنْ يكون كوْننا بَالهيئة التي عليها الآن فوجود الحياة نفسها هيَ أهَمّ ظاهرة مِن ظواهِر الكَوْن الواسع.
وكأنّ وليد يُحدّث نفسه فأخذ يُزيغ بَصُره إلى أعلى لكأنه يُحدّث الكَون ، هزّ رأسه .. نعم ، تبقى الاسْئلة العَصِيّة ثابِتَة القُوة ومِحْوَر يَتكرّر ويُعِيد نفسه، والسؤال الذي اطْرحه على أفْهام الرجال ، هَلْ يُمْكن أنْ تَتغيّر الأمْكِنَة دون إحْداث تَغْيير على البَشَر.؟ ومَن الذي يَسْتجيب للأخر ويَتغيّر ويَتكَيّف بإنْجذاب، البشر أمْ الامكنة .؟ وهل يَشترك في تلك التحوّلات عوامِل أخْرَى لا عِلاقة لها بالاثْنِين .؟ سكتَ وليد بُرهة ثم أردفَ ، أعتقد أنّ البشر على مَرّ الزمان، كانت لديهم القُدرة على التَغْيِير وعلى التكْيِيف مع الظَرف والمكان ، أكثر بكثير مِن قُدرتهم على التأثِيْر على صَلابة الوادي وقسوة الرمال وتَلْيِين صُعوبة الحياة في تلكم الصَحراء القاسية .؟ فالقُدرات الانْسانية مَهما كانت كبيرة فهي في النهاية غير قادرة على تطويع الطبيعة وترويضها ..!؟
اطال نظرهُ إلى أعماق الوادي والرمال بُرهة ، وأخذ يَجول ببصرة يَسرة ويَمْنة، يُمْعِن النَظر إلى تفاصيل التَكْوين ويَتأمّل المراحل الصَعْبَة والقاسية التي مَرّت عليها الرمال واوديتها العَمِيقة.. تنفّس بصمت شهيقاً وزفيراً .. ثم اردفَ ، ما أراهُ في هذه المرحَلَة مِن تأريخ الرّمال، أنّ علينا جميعاً، أنْ نَبْحَث عَن كُلَّ ِما يُمْكِن تَغْيِيره وتَطْويره في بيئتنا لكيْ تكون حياتنا في الوادي وحياة أبْنائنا أفْضَل وأكثر راحة وفي رحْلَتِنا تِجاه التَغيير المَنشود سَنتعرّف على عوامِل أخرى ، إيجابية مُفِيدة او سَلبية تحتاج إلى مُعالجة ونَظَر او حتى مُعَرقلة بِفِعْل او فاعِلٍ ، ففي كُل رِحْلة بداية ونهاية ، فالبداية مُغامَرة وقَسْوة وفي النهاية اسْتكشاف ومَعْرفة وكَسْب خِبْرَة في الحياة ، لأنّنا قد خَلَقْنا بإرادتنا واقِعاً جديداً وعالماً مُخْتلفاً بشكل كامِل عَن العالم الذي نَعِيشه الآن ، عالمٌ حِسّي جميل قد لا يَظُن أحَد أنه مُمْكِن الحدوث في الوادي .. نعم نحن لا نَشُك أنّ لِلوادي قَسْوته وقوة التأثِيْر على سُلوكنا وطبيعة حياتنا، لكنّ ذلكَ التأثير ليس حُكْماً بالبَقاء تحت رَحْمة القَسْوة ، ولا يَعْنِي أنْ نَقْبَل بالبَقاء مَحْبوسِين بينَ تلك الجبال بلا إرادة ولا عَزم ولا فِكْر بَل نَحن لدينا قوة الإيْمان بأنّ طبيعة التَكْوين ، صُنِعَتْ لِبَقاء الحياة في وادي الرمال.
قال رجل القرية :
– وهل بوسْعك فِعْل شيء مِن أجْل الرمال او تقديم شيء والخروج بمستوى المعرفة غير التي أَلِفَها اسْلافنا في الوادي .؟!
ردّ وليد مُعقباً على كلام رجل القرية :
– أجَل ، بكل تأكيد .. فأنا أهْوى المُغامرة والاسْتكشاف الحقيقي تلك المُغامرة التي لم يُدرك كَنْهَها اسْلافنا.. فرجال القرية حَكَموا على أهل وادي الرمال بالبَقاء رهينة الطبيعة وقَسْوتها دون إحْداث تَغْيير بالوادي .. فكيف للأجيال القادمة تَسْتمد قوة التأثير ، ما لم نَحدث تَغْيِيراً في سُلوكنا واخلاق حياتنا بالرمال ، وإنْ بَقِينا دونَ تغيير ، ونخشى المُغامرَة ، ولم نُقدّم شيئاً في مُستوى المعرفة ، وفهم أحوال الناس ، ولم نملك صِفَة التغيير والتأثير ، فلنْ نصِل إلى غاية الغُموض ولم نَكْتَشف ذلكَ الهدف الذي نَسْعى إليه، مِن خلال وُجودنا على الرمال والحياة .!
والحقيقة أنا أَمْلك صِفَة الإِصْرار . ولديّ العَزيمة في سَبْر اغوار الصَحراء وأمْلك قُوة الرَغْبة لِلْوصُول الى أماكن لم يَصِلها أحَد قَبْلِي.؟
ـ لكنك لا تزال شاباً غِراً، قليل التَجربة وأخْشَى أنْ يَفْهم الناس تفكيرك هذا على أنه مُحاولة مِنك لِتَشويه حقائق الحيـاة أو أنّ الغُرور قد اسْتبَد بكَ فطاش عقلك!!.
– أنا ارْغَب في خوض تجربة.. الغاية منها صُنع تَغْيِير يُؤدي إلى ولادَة قَدْرٍ مُخْتلف.؛ مع تقديري الكامِل لما انْجزه أجْدادي وما وصَلوا إليه في المكان .. وأعاهِدَكم أنّني لنْ أُضيّع شيئاً مِمّا ورَثته مِن قِيَم راسِخة وتقاليد ثابتَة وطريقة حياة عالية .. ولكني أخْتَرت طريق المُغامرة والمُجازفة لِلنُهوض بواقع وادي الرّمال ، والعمَل بِجَد وعزم بما يَزيدهما وَهْجاً وإشْراقاً حتى وإنْ ضَحّيت ببعض الثوابِت .. فما يَهمّني أنْ تَبقى القرية آمِنَة مُطْمَئنة. ويكون رجال الوادي في اسْتقرار والرمال الفسيحة في تعايش وتآلف وبقاء مُتوارث بالقِيَم المكينة والعادات الرّصينة والأخلاق الرفيعة . وأنا أعْتَقد جازماً ، بأنّ فَهْم أحْوال الرّمال جُزء مِن فَهْم أحْوال الناس؛
قال الرجل الصحراوي الذي ظنّ وليد بأنه من رجال القرية :
– ماذا يُمكن أن تُسَميها ، شَجاعة أم هَوس أو طَيْش شَباب .. أم فَلْسَفة فارغة ومُغامرة هَزيلة أم هيَ تمرّد على واقع الرّمال.!
قال وليد بنبرة مَشحونة بقوة الإصْرار :
– أنا أجِد في داخلي عَزم وطاقة لصُنع تغيير في الحياة ، فأنا أكره أنْ أرى إنْساناً واحداً، غير مُسْتقر او مُهَدّد في مَعِيشته .. فكُل ما يَجْري حولنا مِن تهافُت رجال الوادي على أمُور مادية وأنانية زائدة هو تهافُت زائل لا يَنفع الناس وانانية تقود إلى القسوة.؛ ومِن الضُرورة بمكان أنْ نَتوصّل لِلتّغْيِير الذي يَنفع حياة الناس، فما يَنفع الناس هو الاصْلَح وهو الذي يمكثُ ويَبقى .؛
ومِن غير المَنْطق أنْ يكون الرجال مَدفوعين او مُنْدفعين أو يكون احدهُم مَسْكوناً بهواجس فردية سَقِيمة ، فالسَيطرة المُسْتبدة لأفْراد لا يَفقهون ما يَنفع الناس فيه ضَرر كبير لحياة الناس وعيشهم ، فؤلئك الرجال يَصنعون الشُرور بأيديهم ثُم يُبرّرون أخطائهم ، ويَتمادون في الايْغال في الخطيئة.؛ وأنا لا أُحِبّ أنْ أرى رجالاً مُسْتضعفين في عيشهم ، لا حول لهم ولا قوة ، يَنظرون نظر المَغْشِي عليه مِن الخوف والفزع ، يَلْتَمس احدهُم الرَحْمة والعَون ولا يَجد مَن يُعينه ، وأنا بَينهم لا افْعَل شَيئاً ، فمَن شِيَيم الرّجال الاصلاّء أنْ لا يَتوانون عَن مَدّ يَد العون والمُساعدة لمن يَحتاجها ، وأعتقد يقيناً أنّ عدم مُساعدة الآخرين ، الضُعفاء منهم ، مُعادلة غير سويّة وغير مُنصفة بتاتاً ؛
يَقترب الغَريب مِن وليد ويَهْمس في أُذنه، مُتَمنياً له التوفيق في مَسْعاهُ، وأسَرّ إليه كلاماً غريباً، سُرّ به وليد.. وفجَأة انْسَلّ الغَريب وغابَ بَين طُرقات القرية .. قال وليد في نفسه :
– حريٌ بهذه الرمال بأوديتها وتأريخها الراسِخ القديم أنْ تُسْتَبدل بالظُلمات الذي يَسُودها بفعْل الرجال نوراً وحياة وبالفراغ قِيْمَة وطُمأنينة ولا تَسْتحقّ أنْ تَبْقى بهذه الحالة الجامِدَة؟.
هزّ رأسه .. وسَرتْ قُشعريرة في جسده .. وانتفض :
ـ يا إلهي ساعدني .. لا أُصدّق بأنّ الحياة باتّساعِها، تكون بلا غاية أو تكون وهْمٌ أزلي بلا هدف ..! هزّ رأسه وصوّبَ نظرهُ إلى البعيد .. يَبدو أنّ هُناك حقيقة خفيّة في مَكان ما تَنتظر مَن يُجلّيها ويَكتشف غُموضها ، ويُنير غاية أزليّتها ..؟ فهل غَفْلة الناس قد طالَ أمَدُها .. أم هيَ تَحتاج إلى يَقْظة إنسانية.؟
أوقف ناظريه في البَعيد .. وبدا كأنّه يَسْتلهم بُعْداً جديداً . واعْتَدل في جَلْسَته وأطْرق بتفكيره :
ـ عليّ أنْ أجْتاز هذا الغُموض الذي يَبدو صَعْبٌ وقاسي ، وعليّ أنْ لا أكون مُتردداً فرأس البلاء فيه ، فالجَهْل أخَذ رؤوس رجال القرية إلى التعنّت.؛
يمَّم وليد وجهته شَطر الصَحراء التي أضْحَت جُزءاً مِن حياته ووجْدانه . وعلَلّ إبْتِعاده أنهُ يَسْعى لإكْتشاف الآفاق الغامِضَة التي تُحيط بالوادي .. وقال:
ـ لا يُمْكِن أنْ أقْتَنع أنّ الحياة باتّساعها البَعيد وتفاصِيْلها مُجَرّد سِنين نَعِيشها بلَا هَدف ولا تأثير.. بلْ أجْزم بأنّ أنانية الرّجال قادَت مُجْتَمع الرّمال إلى حياة الضَياع وشَوّهَتْ الحقيقة بأكملها.!
رفع ناظريه إلى السَماء ثم أخْفَضها:
ـ سأظل أكافح شُعور اليأس الذي ألْقَى بظلاله عليّ، رَيْثما أجد ولو بَصِيصاً مِن أمَل .. فالغُموض يَجتاح شُعوري، ورَغبة المُغامَرة تَسْكُنني ولا تَزال جامحة ، ومُسَيطرة على عَقْلي وهاجسي .. والظَرْف الذي نَعِيشه شديد الصُعوبة ويُنذر بالشَقاء والمُعاناة .. وأنا أُفَضّل أنْ أَشْقَى بنفسي مِن أنْ يَشْقى بَقِيّة أهْل قرية وادي الرمال.
وبينما كانَ يُفكّر في وسَيلةٍ للوصول إلى أعْماق آفاق الوادي تلك المسألة التي ما فَتِئت تَشْغل باله وتَقضّ مَضْجَعه، لمح وليد في طرف مِن الوادي حجراً أَسْوداً أمْلَسَاً ، بحجم اليَد لم يَر مِثْله مِن قَبْل ، قلّبه في يديه يَمْنة ويَسْرة فوجده بلا أيّ صِفَة تُمَيّزه عدا لونه ، أصْغَى فَسِمع أصْوات حشرات عَهِدها مِن قَبل ، وأزِيْزاً لمْ يَفقههُ ، تساءل في نفسه ، ما بال تلك الحشَرة تَنْتَقل مِن مَكان لآخر في حالة بَحث مُسْتمرة ، ام هيَ تُريد أنْ تُغريني لأحْذو حَذْوها .. وتأمّل السماء فوجدها لكأنها أخْيَلت وأغامَت فتهيأ نفسياً وبسَط راحة يدهُ ، وتَخال بأنّها تَنْظُر إليه ، فتمتمَ .. لا أحَد خالٍ مِن العُيوب ، كُلّ إنْسَان وله عُيوبه .. ولكلّ نَفسٍ جانب مُشْرق وجانبٍ مُظْلِم ، فاجْعَليني في الجانب المُشْرق .. فأنا أسْعى إلى إسْعاد الناس .. أسْعَى إلى فَهْم الناس لأنّهم جُزء مِن الحياة .! دمَعَتْ عينه ، وحدث نفسه ، التفكير في أمور الحياة والناس كالتفكير في السماء والرمال والوادي ، أحسّ بشعور التَقْصِير، بكىَ .. فاضتْ دمعتيه ، عاهَد نفسه بحديث فيه إصْرار.. ذلك الأمَل لنْ يُطْفئه أحد ، وتأبَى السَماء أنْ يُطفئ نورها رجال يَكْرَهون أنْ يَبْقَى الناس على بَصِيرة ، ذلك خُسْران لِلْبَصائر التي تحثّ على الامل .. نعم ، لقد اتّخذت قراري في رِحْلَتي إلى المدى البَعيد بِبَصِيرة الأفُق الواسع ، وسأسْتمر حتى أجد ما يُحقق غايتي .. صَوت صَرْير مُسْتمر ومُزعج ، لا يتوقّف ،كأنه ناشِئ عَن احْتكاك السُيوف بِبَعضها ، ظلّ يَنْصُت ويُراقب ، ماذا سَتفعل تلكم الحشَرات بَعد ذلك؟ هلْ سَتستمر بهذا الصَرير إلى الأبد ،فجأة حلّقَت عالياً ، تصادَمَتْ رُؤوسَها ، ثم ما لَبِثَتْ أنْ سَقطت على ظهورها ، ثوانٍ حتى اعْتَدلت وحلّقَت في فضاءاتها مِن جديد، كأنّها تَسْتعرض مَهاراتها أمامه، كانَت وثْبَة اعْتِدالها سريعاً لَيْسَت كانْقلابها على ظَهْرها أوّل مَرة ، حرّكَت جناحيها وطارت بعيداً ، اختفتْ في الفضاء المُعَتم ، غابَت عَن الأنظار كأنّها شعرتْ بخطر مُحْدَق بها ، فقال وليد في نفسه ، عالم الحشَرات ، عالمٌ غريب ، وأصْوات الكائنات في هذا الوادي لا تَنْتَهِي ولا تتوقف حركتها ولا تَهْدأ .. لديها طاقة كبيرة ، والوادي قَفْر لا يَسْكُنه غيرنا نَحن والمخلوقات الأخْرى ، نَعْلَم بَعضها ونَجْهَل أكثرها .
شقّ وليد طريقة إلى مَنْحَى انْحدر به إلى أرض مَلِيئَة بالحصى المُتناثرة ، كان يُريد أنْ يَصِل الرّمال المُوحِشَة ، لكنه ضَيّع اتّجاهه ولمْ يَجِد الطريق إليها ، وخلال سَيْرَه الْتَقى بَبَعض الرجال في بدايات الوادي ، وقفزت بعض الاسئلة إلى بالهِ ، هلْ يَسْألهم.؟ هل سَيدلُونه بِعِلْم ومَعرفة ، رُبما هُم اكْثَر تَجربة ، ام يتِركهم ويَمْشِي ، حتى لا يَتعرّض لاسْتهزائهم وشَماتتهم به ، حاول الالْتِفاف والذهاب بَعيداً عَنهم ، لكنهم لحِقُوا به مِن طريق آخر .. قال كبيرهُم باسْتهزاء:
– قُل لماذا تَتهرّب مِنّا ..؟ هل تَبحث عَن شيء فندُلّك عليه ؟ أم تائهٌ في الرمال ..؟ نحنُ أهْل هذه الرمال ونَسْتطيع مُساعدتك.!؟
قال وليد بانْبِساط :
– عندما اقتربتُ مِن الرّمال الجرداء شَعرت بالإنتشاء ، ووصلتْ بي الحالة إلى المُتعة والجمال بهذه الطبيعة الخلابة .. إنْتشاءٌ غير عادي ، جَذبني سِحْر رمالها وتفكّرتُ مَلِياً ، أيُعْقَل أنْ تكون هذه التكوينات مِن وحْي الطبيعة دون مَن يحفظها وعليم بها.؟ ثُم اندفعتُ إلى أقصى ما اسْتطعت إليه بلا تفكير، فأسْكَنني هواءَها وأرْهَبني ظلامَها ومَشِيت .. وعندما انْتَبهت اكْتشفت بأنِّي ما زلت في بداية رِحْلتي ، ذلك الشُعور أيْقَظ في نفسي حاجَة السُكون.. فالرمال وادعة .
وظلّ ذلك الشُعور يُؤلمني بِسَبب جَهْلِي وعَجْزي عَن إدْراك تلك الوداعَة والسَكينة التي تَبُثها الرمال .. فكرتُ مَلياً ، كيف لنا أنْ نطمئن على حياتنا بالوادي والرمال ؟ وماذا يَنبغي علينا فِعْله كيْ نطمئن .؟ وما هي الطريقة التي تُمكّننا مِن الوصول إلى الامان والاسْتقرار بالوادي .؟ وهلْ بِوُسْعنا أنْ نخَلْق حياة صَالحة يتعامَل الناس فيها مَع بَعضهم بلا خوف ولا شَك، حياةٍ مُسْتقرة بلا تَنقل ولا حروب، فالأمْن والاطْمئنان حاجة ومَطلب ، كما أنّ التجاوزات المَصْحوبة بالفوضى مُؤذية وغير مرغوبة ؟!
ـ لماذا .؟ قال كبيرهم .
ـ لأنّ كُلّ حماقة يُنتج عَنها حماقة مِثْلها أو حتى أسْوأ . وهنا تبدأ سلسلة لا تنتهي مِن الصراعات وقد تُؤدي تلك الصراعات إلى حَياة القلق والخوف، او تكون حياة مَلِيئَة بالأذى وعدم الاسْتقرار نتيجة لِتَعْطِيل العَقل وانْعدام الحِكْمَة.
ـ وما الذي دفعكَ لذلك التفكير.؟
ـ خوف الناس على حياتهم هو هاجسهم الأعْظم لأنهم اذا خسروها خسروا وجودهم …. ثم ما الذي يُنشيء العلاقات بين الناس ، أليست هيَ حاجتهم لبعضهم بأمان واطمئنان ، فأي حياة ليس فيها أمان واطْمئنان يكونَ رجالها ضُعَفاء .! ماذا لو خسَرنا البشَر وبقيَت الرمال ؟ أليس في ذلكَ خسارة لِفُرص المُجْتَمع وتطور الحياة على الرمال ..؟ لماذا نضعْ علاقاتنا في موضَع تتشتّت وتفرّق وشِقاق .؟ نعم .. المنافع جُزء مِن المسئولية والمصالح يَجب أنْ يَعِيَها الناس ، ونحن جميعاً مَسْئولون عَن هُموم بعضنا ، انطلاقاً مِنْ فهْم الحياة والناس فهماً لا يُفرّق ومُنطلقاً لا يُشتّت ، وغاية لا شِقاق فيها ، تلكَ هيَ الرسالة ، فَهْم الناس جزء مِن الحياة .! فالرسالة هدَف ، والغاية أمل والحياة فهْم .؛
تحلّقتْ حوله مجموعة مِن الشباب يَتجادلون في انفعال ، فقال أحدهم :
– صَدق وليد .. إنِّي أرى أنّ حُريّة الناس مَفقودة في الوادي .. فقد قرأتُ في السِّير الأولى في الرمال القريبة والبعيدة، أنه مِن أقْدَس الواجبات .. أنْ يُكافح الإنسان في سَبيل حُريته وحُرية الآخرين، لكي يَطْمئن بالسلام النفسي .. فمن يُرد الشر للحياة ، فسيمتلئ قلبه بالخوف والقلق وستكون لديه هواجس ومخاوف ولنْ يكسبَ غير أعداءً وبُغضاً من غيره .! وإني أرى أن وجهة نظر وليد صحيحة .. فالحياة أمل ، ولا يكون الامل مُستقراً إلا بفهم الناس لبعضهم والوقوف على أحوالهم .. إنني معه ، لنجد شيئاً ولو قليلاً من حياة بالوادي بلا مَشاكل ولا خِلافات.؛
رد آخر بإبتسامة :
ـ طيب دُلّني ، لماذا لا يُحِس الانْسان بالطُمأنينة وما الذي يُعكّر صَفو حياته ، ويَبقى غير مُطْمئنّ عليها ، مُنذ أنْ يُولد حتى نهاية حياته.؟
رد وليد :
ـ ثق بما سأقوله واحفظه في قلبك ، إنّ الذينَ لا يَخْشون عاراً ولا يَمْلكون حياءً ولا بوسعهم إقناع حتى أنفسهم بغاياتهم وأهدافهم لنْ يَجدوا طعْم الأمان والاطمئنان ، وبجانب سَعْيي لفهم الناس ، فأنا أشدّ الرحال إلى غايات أكبر واعظم .. أنا اتفكّر في الكون وعظمته واتساعه وفي جماله وغُموضه ، إنه بديع التكوين بكل ما يحمله من تعقيدات وما في طيّه مِن مُعجزات ، ورغم ذلك فهو بديع التكوين ، مُتْقن ، مُعْجز ، لا يُمكن أنْ تأتي الطبيعة بكلّ تلك التكوينات والتَعقيدات .؛ انظُر إلى مَخلوقات الحياة وتفكّر .. أليسَ واجباً أنْ نُتْعِب ونَجْتهد مِن أجْله .؟ أليسَ في الاطمئنان مَسُوغ حياة يَشْترك فيه الناس جميعاً.؟ لو سَلّمنا جدلاً بتلك النظرة المُستقرّة ، لِفَهْمنا بأنّ على كُل مِنّا أنْ واسع النظرة ، وأنّ عليه أنْ يَتطهّر مِن جَشع الفردية والأنانية الهَوْجَاء ، فكل أمْر تافِهٍ شأنه ضئيل ، وهذا الكون الفسيح أمْره عظيم عَمِيق التكوين .؛
قال ثالث مُقاطعا وليد :
ـ نحن لنا عاداتنا وأعْرافنا وما ألِفْناهُ مِن كِبارنا، أساس قُوتنا .. وما الحياة التي تتَحدَّث عنها إلا انْسلاخاً عمّا ألزَمَ بِهِ آباءنا أنفسهم مُنذ مئات السنين.. فهل يُعقل أنْ نُغيّر عاداتهم وما وجدناهُ مِن مَوْروث ونَترك قيَمهم ونتعاطف معكَ .!
قاطع رجل حديث المُجْتمعين ويَبدو أنه كانَ يَتنصّت على حديثهم دون أنْ يُشارك فيه وقال :
– رائع جداً ما تُفكّر به ( مُوجّهاً حديثه لوليد ومُوافقاً للرجل الذي كان آخر المُتحدثين ) ابْحث عَن غيرنا، لِتَجري عليهم تَجربتك .. ليس لدينا ما نقوله لك ، سوى أنّ أهْل وادي الرمال بَعِيدون كُلّ البُعد عَمّا تُفكّر فيه ، ولنْ تَصِل إلى ما تُريد ، وما هو مُرادك وغايتك التي تَرغَب أنْ تَصِل إليهم بتلك التجربة.! نَصِيحتي لك ، أنْ تُبحث عَن شيء آخر تُحرّك به سُكون أفْكارنا .. فأفْكارك تلك لم تَعُد نافِعَة ومُجدية ، فنحن يا ـ سَيّدي ـ غير مُلْزَمين بما جِئْتَنا به ، ومِن شِبه المُستحيل أنّك سَتتوصّل إلى إقْناعنا بوجهة نظرك و إذا ما بَقِيت على تلك الأفكار العَوْجاء فسَتجد نفسك مَنْبوذاً ومَطْروداً مِن الوادي..! ففي نفسك مَظانّ الشبُهات ، فموروثنا وتقاليدنا ليست مجالاً للتَغيير وسَيَبْقى تأريخنا فَخْرَنا ..؛
سكت .. وهو ينظر في عين وليد :
ـ والآن عليكَ أنْ لا تَخجل وتُصارح الجميع ، قُل لهم ، بأنّك مجَنون القرية ، ذلكَ ما تستحقّ .!
قال رجل آخر قد اسْند يده على كتف الرجل الذي يُحدث وليد :
ـ صحيح ، لا تَخجل مِن قول الصِدق يا وليد .. قُل لهذا الجمع المبارك ، بأنك تَحْتقر مَا أَلِفُوهُ مِن مَاضي القرية العتيقة، وأعراف أجدادهم؟ وقُل لهم بصريح العِبارة ، أنك تَنْوي أنْ تُغَيّر نِظام حياتهم، وتريد أنْ تجعل مِن خَادم القَوم سيّداً ، يشقّ طريقة في الوادي بأمان، وقُلْ ايضاً ، بأنّك تُريد أنْ يَتساوى وضِيع المكانة مع كريم المقام .!
قال كبير الرجال وكأنهُ يُريد أنْ يَرفق بوليد ويَحميه مِن شدة تهجّم المُتحدثين :
ـ كيف بكَ أنْ تُلْغِي أعْراف وتقاليد مِن الصُّعوبة بمكان التخلّي عنها.. أعْراف تَربّينا عليها وتربّى عليها آبائنا وأجْدادنا، فهل وصلتْ بك الجُرأة أنْ تَنسِف كُلّ ذلك الموروث الجازم الذي لا يَقْبَل الشكّ.؟ وإنْ كُنْتَ بقادرٍ أنْ تُثْبِت لنا أحقيّة طريقتك الجديدة، التي جِئتَنا بها.. فأْتِنا بدليل قوي وقَطْعي، لا يَتقاطع مع ما ورثناهُ ، وما نحنُ عليه ..!؟ ولا يحقّ لكَ أنْ تُلغي كلَّ ذلك التأريخ والأجيال المُتعاقبة بكلمات ابْتَدعتها وأفكار اصْطنعتها.!
ضحك الرجال المُتحلّقون حول كبيرهم، ونظروا تّجاه وليد بنظرات اسْتهزاء وسُخرية ، غير مُقْتَنِعين تماماً بما يَنْوي فِعله وتغييره في أحوال القرية والأفْكار التي تَتملكه في تَغْيِير نظام حياة وادي الرمال.
قال وليد بهدوء مُوجهاً كلامُه إلى الرجل الكبير :
– أنا لست باحثاً عَن الشُّهرة، ولا تَهُمّنى المناصِب.. ولا جئتُكم مِن أجْلِها ، وما ظَنَنتُموه مِن ظنّ في خيالاتكم وأوهامكم غير صَحيح وأنا أظنّ بكم كظنّ احدكم في كبيركم .. فأنا أسْتقوي بصغيركُم إذا عزم وأخْتلف مع كبيركُم إنْ اتّبَع هَواه وعانَد .. إنَّ أشَد ما أخشاهُ أنْ يَعِيق الرجال بجهلهم وعنادهم ثورة التّغيير .. واعْلَم أنّ التَردد والخوفَ همّان بائِسان!!.
قال رجل يقف على مَقْربة من وليد ، لديه عِلْم بفلسفة المكان : ـ إنْ كنتَ تعتقد أنّ الرّغبات تَخْلق قاعدة، وأنّ شَكْل العِلاقة تَخلق الرّغبات.. فما عليك إلاّ أنْ تُحَدّد العلاقة المُتّصلة بالقاعدة ، لتضمنَ أيّها يَخلق زخماً في عزيمتك ويُبدّد ما تَخْلقه لنا مِن تغيير وإنْ صَاحبتها عزيمة وجدّيّة.!
رَنَا وليد بنظره إليه وقد أسْكن طَرَفُه. رفع بَصُره إلى السّماء المُمْتدة في غَسقٍ رمادي، وبدتْ النجوم في السماء نائية بعيدة، كأنّما ترتفع إلى بُعدٍ أعلى، وأعلى.. وتبتعد عن الرمال شيئاً فشيئاً.