الكتابة .. مشروع خاسر !!..
الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي
الكتابة .. مشروع خاسر !!..
إلتقيت بصديق عزيز وكاتب بارز أو بمعنى أصح كان بارزا في يوم ما .. كان مشتعلا مضيئا ذات زمن فقرر التوقف والخفوت والهمود والانطفاء كأي نجم أو كويكب سماوي أضاء زمنا ثم أنطفئ وانتقل إلى مقبرة النجوم المظلمة.
جلسنا ندردش عن عالم القراءة ومستقبل الكتابة ..
فقال لي ناصحا : الأفضل أن تتوقف عن الكتابة ؟!!
فقلت له : لماذا ؟!!
فقال : لمن تكتب ؟!!
لا أحد يقرأ .. ولا أحد يفهم .. ولا أحد يقدر ولا أحد يثمن..
يقول صديقي : نشرت كتابين كلفاني 4000 ريال لم أبع منهما 100 نسخة حتى الآن ..
ومازالت مرصوصة في المكتبات يعلوها التراب والغبار!!
إذن لماذا ولمن نكتب ؟.
حقيقة تألمت من كلامه .. وأحرقني شعوره..
فهو صاحب قلم جميل وروح وطنية وحب ومثابرة ورغبة في العطاء والخدمة والتضحية لأجل هذا الوطن..
جاءه اتصال فتركني وذهب..
بقي كلامه يرن في عقلي ويغلي في صدري ..
لماذا أكتب..؟؟
ولمن أكتب..؟؟
وإلى متى سأكتب ..؟؟
سأعترف لكم اعترافاً نفسياً..
الكتابة بالنسبة لي ليست موهبة بقدر ماهي علاج لكل عاهاتي وأمراضي النفسية التي حقنني بها هذا المجتمع في كل أوردتي ، والتي تجثم في صدري وتستوطن عقلي طوال الثلاثين عاما الماضية !!..
فأنا أكتب لأعيش وأقاوم..
لا تتخيلوا كيف يساعدني القلم في التنفس والمشي والوقوف والاتكاء تجنبا للسقوط !!
يقولون الحاجة أم الاختراع..
لقد اخترعت الكتابة لحاجتي الملحة لها..
الكتابة بالنسبة لي هي فعل مقاومة..
أكتب لأتنفس..
أكتب لأستنشق..
أكتب لأتحرر من نفسي..
لأتحرر من القيود التي تكبلني..
*أنا ** أتألم ** إذن ** أنا ** أكتب *..
لذلك لن أتوقف عن الكتابة طالما هناك ألم .. لن أكسر القلم طالما لم ينطفئ الوجع .. ولا أظن بأن هذا سيحدث..
فكل المؤشرات تقول بأن الألم سيعيش طويلاً..
كل التنبؤات تؤكد بأن الألم أزلي ولن ينتهي..
فليس هناك أي بوادر أو علامات تشير إلى قدوم لقاحات تقضي على الألم ليس هناك مؤشرات لولادة زهور تبهج النفوس وتثلج الصدور..
كل المعطيات سالبة سيئة رديئة وسوداء مظلمة..
بدأت الكتابة منذ العام 2005 .. وجدفت بقلمي وورقتي في بحر لا يكترث بالقارب ولا يحترم الصياد..
أنا لا أكتب لأشتهر أو لأعرف أو ليُشار لي بالبنان لأن هنا لن يعرفك أحد مهما كتبت ومهما نقشت ومهما أبدعت .. المعرفة والشهرة ليس طريقهما القلم والفكر والثقافة والكتابة..
الشهرة والبروز هنا لها مجالات عجيبة وتخصصات غريبة..
ومقاييس الإبداع لدينا تختلف كثيرا عن مقاييس العالم..
الكلمة في عالمنا العربي عموما ليس لها قيمة والكتاب أسوأ البضائع المعروضة وأتفهها..
قرأت مقالا قبل سنتين عن كاتبة فرنسية أصدرت كتاباً .. باعت منه 30 مليون نسخة خلال ستة أشهر..
وصلني الكتاب مترجماً..
الكتاب يستحق بأن يوصف بالتافه السخيف..
كتاب في منتهى الضحالة والضمور .. حيث أنني لم احتمل قراءة 50 صفحة منه .. فألقيت به في سلة القمامة .. فهو حتى ليس جديراً بوضعه في الجانب المظلم من مكتبتي .. وتأسفت حتى على الثمن الذي دفعته من أجله..
وقلت لنفسي لو اشتريت قطعتي بيتزا لأطفالي أفضل من خسارة هذا المبلغ لأجل كتاب تافه..
ولكن لأن الكاتبة فرنسية وتعيش في فرنسا ودار النشر فرنسية .. وفرنسا بلد النور التي تخلق من الظلام ضياء وتصنع من العتمة نورا وتجعل من الكتب التافهة كتباً أسطورية.. فالكاتبة باعت ملايين النسخ خلال أشهر قليلة .. وتسلقت قائمة أكثر الكتب مبيعاً..
والآن هي تعيش في نعيم مقيم في إحدى المستعمرات الفرنسية بفضل كتاب تافه طبع ونشر في فرنسا بلد النور..
أنا لدي كتابين جاهزين للنشر منذ سنتين .. وحتى اللحظة لم أفكر في طباعتهما ونشرهما..
لأنني على يقين بأنني لن أجني منهما سوى التعب والأرق والتنقيح والسهر والخسارة النفسية والمادية..
لن أجني منهما لا القيمة المعنوية ولا المكسب المادي .. لأنني لا أعيش في فرنسا بلد النور والفكر والضياء..
الكتابة بالنسبة لي مجرد تفريغ هم وتخلص من الألم وحرق للشحنات السلبية التي امتصها في النهار وأتجرعها طوال اليوم ..فتجثم كصخرة كؤود على صدري .. فسيعفني القلم في زحزحتها عن صدري بضع سنتيمترات ورمي ألمي على ورقي .. لأواصل عملية التنفس بشكل طبيعي بعدها..
أنا أكتب للتنفس فقط وليس لأؤلف كتاباً أو أصدر رواية تجعلني في قمة الهرم الأدبي العماني وتقلدني وسام الأديب الأريب والكاتب الأشهب !!.
وليس هناك أسهل من كتابة كتاب أو رواية من 500 صفحة معبأة بالسفاسف والتفاهات والضحالة !!.
والجلوس على طاولة في معرض كتاب فاشل لتوقيع النسخ المشتراة وتوزيع ابتسامات صفراء على الحاضرين !!.
بينما تلك الكتابة المنسوجة بالجمال المخيوطة النور المسبوكة بالدهشة والضياء والمتعة والإبهار فهي تكاد تكون معدومة تماماً..
للأسف .. إننا لا نملك محترفي هذه الصنعة البديعة فهنا كل ما شيء يقتل الموهبة ويفتك بالإبداع !!.
أنا وأمثالي الذين يمارسون الكتابة من خلال معاناتهم الروحية ومن صميم عالمهم الوجداني نعيش واقعاً مريراً وصراعاً قاسياً مع أفكارنا وهمومنا وقضايانا النفسية ومصائبنا المجتمعية..
لذلك الكتابة هي علاجنا المؤقت لتهدئة صداعنا وتخفيف أوجاعنا وآلامنا
الكتابة برووفين لصداعنا..
الكتابة “سبرام” لاكتئابنا..
الكتابة” سبرالكس” لاضطراباتنا..
الكتابة هي المصل واللقاح الأنجع “لكورنا” حياتنا..
لذلك صدق صديقي حين قال لمن تكتب ولماذا تكتب .. ولا جدوى من الكتابة !!
نادرون جداً جداً أولئك الذين سيقولون لك : شكرا لقد كتبت نصاً جميلاً .. لقد أثلجت صدري وأشعلت عقلي ودغدغت مشاعري المتيبسة..
نادرون جداً جداً هنا أولئك الذين يرسلون لك عبارة (شكرا عبدالله على هذا النص الماتع .. شكرا لأنك تمنحنا شيئاً من البهاء في هذا الواقع المعتم الكئيب) !!.
ذات نهار من الصيف الماضي وقعت في مشكلة قانونية بسبب نشر مقال وتحولت القضية للمحكمة فطلبت من هيئة تعتبر نفسها هيئة مدافعة ومساندة للكُتّاب العمانيين .. وتتشدق بالدفاع عن حقوق الكاتب ودوره ومكانته !!.
فطلبت منهم رسالة لدعم موقفي في المحكمة ومساندتي أمام القاضي .. فرفضوا مساعدتي وقالوا لي : هذا ليس من اختصاصنا !!.
هنا .. لا أحد يقف مع الكاتب .. ولا أحد يمد له يداً إذا غرق .. أو يسعفه إذا حاول الموت أو الانتحار !!.
هنا الجميع يساعدك على الموت !!.
هنا الكل يناولك السكين لتقطع وريدك !!.
هنا الكل يقدم لك حبلاً رخيصاً لتشنق نفسك !!.
هنا الجميع يستمتع بمشاهدة جسدك وهو يتدلى من حبل المشنقة !!.
هذه ليست مجتمعات الكتابة وليست مجتمعات الكلمة وليست مجتمعات الورقة والكتاب والقلم والرواية !!.
أذكر ذات شتاء منذ خمس سنوات كتبت بعض مقالات في إحدى المنتديات .. فاتصل بي أستاذ فاضل من هولندا كان مرافقا لزوجته الطبيبة في مؤتمر طبي في هولندا لمدة أسبوع فأقسم لي قائلاً والله لقد قرأت كل مقالاتك واستمتعت بها أيما استمتاع لمدة أسبوع كامل في ليالي أمستردام الباردة..
يقول : شكرا لك لقد منحتني النشوة والمتعة والتسلية والدفء وأنا جالس وحيداً في فندق هائل كئيب وبارد منتظرا عودة زوجتي من مؤتمرها..
هذه الكلمات الوحيدة الجميلة التي سمعتها خلال الـ 15 سنة الماضية من تورطي في الكتابة والتي أبهجت صدري وأشعرتني بأنني كاتب أو مشروع كاتب .. وحقنتني بحقنة منشطة لمواصلة الكتابة ومازال مفعولها سارياً في شراييني حتى اللحظة .. ولكنه حتما سيتلاشى وسينطفئ في لحظة ما..
كما لا يمكنني أن أنسى مكالمة هاتفية وصلتني منذ شهرين من رجل فاضل اتصل بي من مكتبه ليحرضني على جريمة الكتابة ويتواطأ معي على مواصلة جرمها القبيح المشؤوم..
حتى دعم مادي هزيل لا يناله الكاتب في هذه المجتمعات الميتة..
كتابته مجانية .. وقلمه مجاني .. اشتغاله مجاني واحتراقه مجاني .. وذوبانه مجاني لا أحد يقدم له مقابل يرمم به مشاعره ويوقف نزفه ويلطف به وأوجاعه !!.
معنويا محروم وماديا معدوم !!.
أين الحقن الداعمة المنشطة للكتابة في هذا المجتمع ؟!!
لا شيء أبداً !!.
المتوافر معنا وبكثرة هو أدوية الخمول وحُقًن التجمّد وكبسولات التَّجلُّط ومحاليل الإحباط والتهميش .
لماذا أكتب ؟؟.
تعزية لنفسي من قلب فهم الحياة واستوعب الواقع أيما استيعاب..
الكاتب الواعي يدرب نفسه منذ الصغر على عواصف الخذلان وزلازل الانكسارات .. فهي ما ينتظره خلف بابه .. فليس هناك أية قيمة لانتصارات القلم وسط هذه هزائم الحماقات العظيمة.
القلم هو المحراث الذي نحرث به أوجاعنا وأحلامنا وأحزاننا ورفضنا وحريتنا وصراخنا.
قال لي أحدهم ذات مساء :
أكتب الوهم يا صديقي .. كن “دون كيشوت” يناطح الحقيقة ويقاتل الوهم !!.
أكتب لقراء وهميّين وصارع طواحين وهمية ، ففي النهاية الوهم هو المنتصر وهو المنهزم !!.
آخـر كلمـة..
لأنني أحتاج للكتابة في الوقت الراهن لأنها فعل هروب..
فعل تحرر من كل القيود التي تكبلني من جهاتي الأربع..
لذلك سأكتب حتى تنطفئ كل الشموع .. وتخمد كل الجمرات التي في داخلي رغم يقيني المطلق وإيماني الراسخ بأن الكتابة في وطني مشروع خاسر ، وطريق مؤلم وخطير وزلق..