مقالات وآراء

خط مصر الأحمر يصل سَدّ النهضة..

 

الكاتـب/ عـلـي شـنـدب

 

 

خط مصر الأحمر يصل سَدّ النهضة..

 

 خط أحمر جديد أعلنه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال أيام قلقة عاشها العالم وليس مصر فقط انطلاقا من قناة السويس التي شهدت إنسدادا قسريا بفعل جنوح السفينة البنمية، التي أعاد البحريون المصريون تعويمها على ايقاع اكتمال القمر وعوامل المد والجزر التي شكلت روافع مناخية طبيعية ساهمت في تعويم السفينة وسط كفاءة عالية لهيئة قناة السويس التي امتدحها السيسي خلال زيارته لضفة القناة في الإسماعيلية.

وقد اتخذ السيسي من نجاح تعويم السفينة منصة للإعلان عن موقف مصر الحاسم والنهائي حول “سد النهضة”، وبدت مواقف السيسي “مياه مصر لا مساس بها، ومحدش يتصور إنه يقدر يبقى بعيداً عن قدرتنا” بمثابة قصفة جوية استطلاعية تسبق اندلاع الحرب التي لا تريدها مصر. وحده المساس بمياه النيل ما يدفع مصر للحرب. هذا ما حصل زمن جمال عبدالناصر، وأيضا زمن خلفه أنور السادات الذي سبق وقصف (ولم يقصف) سدود أثيوبيا. وهو ما كاد أن يحصل في عهد حسني مبارك، وهو ما قد يحصل الآن في عهد عبدالفتاح السيسي الذي أطلق صلية صواريخ تهديدية، سيؤثر تجاهلها على استقرار المنطقة بالكامل.

اذن سد النهضة ملف قديم يتحرك بهدف يتجاوز الضغوط على مصر والسودان، ونرى كيف أن أثيوبيا (وكان من ورائها تركيا وقطر وإسرائيل وغيرهم) تحث خطاها في بناء السد لفرضه كأمر واقع بعد سنوات من المناورات التفاوضية، حاولت خلالها أثيوبيا التملّص من الالتزام أمام وساطات الاتحاد الافريقي والامم المتحدة.

لكن الأمر الواقع الأثيوبي المدفوع والمعزز من قوى إقليمية ودولية اصطدم بالخط الأحمر المصري الذي فكّ شيفرة مواقف دونالد ترامب خلال مهاتفته التطبيعية مع رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك، وقوله “إن مصر ستضرب سد النهضة الأثيوبي، وإنه لا أحد يستطيع لومها”. ورغم الحروب الداخلية التي تعصف بأثيوبيا انطلاقا من اقليم التيغراي وتداعياته على دول المنطقة، فإن اثيوبيا المهددة أقاليمها بالتفكك، وربما تسلحت بخروج ترامب من البيت الأبيض، مضت في سعيها لملء السد وفرضه على دولتي المصب مصر والسودان خاصة.

لكن خطوط مصر الحمراء بدأت تتجحّظ في المنطقة بأبعادها العربية والمتوسطية والأفريقية .. الخط الأحمر الأول كان في ليبيا عندما أعلن السيسي في سياق رده على التقدم التركي أن مدينتي سرت والجفرة خطاً أحمر للأمن القومي المصري والعربي، والحقيقة أنه من رحم هذا الخط الأحمر استولدت المبادرات السياسية برعاية الامم المتحدة ونجحت في وقف إطلاق النار، ومن ثم في إنتاج مجلس رئاسي وحكومة جديدين، كخطوة جادة باتجاه توحيد المؤسّسات السيادية الليبية، واطلاق قطار المصالحة، وتعزيز سلطة الدولة التي ترتكز على حلّ الميليشيات وطرد المرتزقة عامة والموالين لتركيا خاصة.

وقد تمكّن الخط الأحمر المصري في ليبيا من فرض واقع جيواستراتيجي جديد في الاقليم وخاصة في شرقي المتوسط، وهو الواقع الذي كان وراء تراجع تركيا التي بدا تغولها في ليبيا أيضا بمكانة الضلع الثاني لسد النهضة المطوّق لمصر، وهو الواقع الذي فرض على الرئيس التركي اردوغان الإعراب عن نيته وسعيه واستعداده لتطبيع العلاقات مع مصر التي وصفها ابراهيم كالن المتحدث الرئاسي التركي بـ “عقل وقلب العالم العربي”. وقد كانت استجابة تركيا لشروط مصر وتشذيبها ألسنة الاخوان المتصاعدة من اسطنبول، بمنزلة الدفعة التركية الاولى التي استحسنتها القاهرة بحذر، رغم أنها لا تلبي كامل الشروط المصرية.

إذن فرمل الخط الأحمر المصري في ليبيا اندفاعة أردوغان، وجوّفها من أغلب مضامينها الاستراتيجية، وهذا ما ستجحظه المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية في السلطة الليبية الوليدة التي جاءت انعكاسا لتفاهمات اقليمية ودولية سمحت بانطلاق التسوية السياسية التي ستجرف بطبيعة الحال، في طريقها جميع “الرؤوس الدامية” التي تعبر عنها الاغتيالات او التصفيات الاحترافية في ليبيا شرقا وغربا.

إذن بعد ثبات ورسوخ خط مصر الأحمر في ليبيا، وتحقيقه النتائج المطلوبة، إختار السيسي اللحظة السياسية المناسبة لإطلاق الخط الأحمر الثاني، انطلاقا من جنوح السفينة البنمية في قناة السويس وما حملته من رسائل تزامنا مع اعلان اسرائيل نيتها البدء في شق “قناة بن غوريون” لتربط بين البحر الأحمر والبحر الابيض المتوسط. إنه الربط المستفيد من عودة جزيرتي “تيران وصنافير” إلى السيادة السعودية، وقد أصبحت “تيران” ممرا مائيا دوليا، ولتكون  قناة بن غورين في سياق السعي الاسرائيلي المزمن للسيطرة على منابع المياه، بديلا عن قناة السويس وبالحد الأدنى شريكا مضاربا عليها، وهذا ما يستدعي من مصر أن تحضر نفسها للخط الأحمر الثالث.

ما تقدم يشي بأن محاولات تعطيش مصر ومحاصرتها مائيا قائمة على قدم وساق، وأن هذه المحاولات تذكر بمواقف معلومة للعقيد معمر القذافي وتأكيده بأن الحروب القادمة هي حروب المياه، ويرجح أن إنشائه للنهر الصناعي العظيم يقف وراء حتمية اندلاع حروب السيطرة على المياه الهادفة بدورها لتقويض مصر والسيطرة عليها. وفي هذا السياق تفيد المقارنة بين الدعم الاجنبي القديم المتجدد الذي تتلقاه اثيوبيا، وبين الرفض والفيتو الاميركي البريطاني ومعهم صندوق النقد الدولي وعدم دعمهم مصر في بناء السدّ العالي في زمن جمال عبد الناصر.

وأمام تعنّت أثيوبيا واصرارها على الاستمرار في الملء الثاني لسد النهضة، يمكن الفهم العميق لجدية تهديدات الرئيس المصري، المتزامنة مع مناورات “نسور النيل2” المصرية السودانية في قاعدة مروى السودانية بمشاركة القوات الجوية وقوات الصاعقة الذين يقع على عاتقهما أمر التعامل المناسب مع سد النهضة. والى المناورات الخاصة، فقد بلغت التحضيرات للتعامل العسكري مع سد النهضة وجوزيتها حد انتظار الأوامر في تدمير السد. وتردّد أن مصر والسودان تحوّطا لتدفق كميات المياه الهائلة جراء تدمير السد بتخفيض مياه عدد من بحيرات السدود داخل السودان ومصر لجعل هذه البحيرات تستوعب مياه سد النهضة بأقل أضرار ممكنة.

فهل تتوقف أثيوبيا عن الملء الثاني للسد، وتتلقف فرصة المفاوضات في الكونغو وتجنح لإبرام اتفاق ملزم حول تحاصص مياه النيل بين دول المنبع ودول المصب، أم تنزلق دول اقليم النيل الى الفوضى وعدم الاستقرار الذَّيْن تحدث عنهما عبدالفتاح السياسي وقوله “محدش يقدر ياخد نقطة ميه من مصر واللي عايز يجرب، يجرب”.

في ليبيا إنتصر الخط الأحمر دون حرب، في سدّ النهضة تثبيت الخط الاحمر ربما يستوجب الحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى