بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

نمرٌ عليّ وفي الحياة نعامة!!..

شـيـخـة الـمـحـروقـيـة

 

نمرٌ عليّ وفي الحياة نعامة!!..

 

تغمرنا السعادة عندما نتلقّى خبرَ حصولنا على وظيفة، نشرع في تخيّل أنفسنا ونحن نتعامل مع الزملاء والمسؤولين، ونحدّث النفس ونحفزها لبذل كل ما أوتينا من جهد وعلم ومعرفة حتى نثبت وجودنا وقدراتنا واستحقاقاتنا، نأمل بالتأهيل عبر الدورات والمشاركات المختلفة؛ فالتعليم الأكاديمي ليس بكافٍ حتى نبدع في مجال العمل، في خضم ذلك ننسى بأن هذا الكون به من العاهات النفسية الكفيلة بتحويل ذلك الحلم السعيد إلى كابوسِ مرعب تذبل بسببه وردة شبابنا وتخمد نار حماستنا ونفقد شغفنا لأنه – وبالخطأ – تم إرسال مجموعة من المعتلّين أخلاقيًا ونفسيًا إلى مؤسسات العمل ليتنمّروا علينا ويغرزوا مخالبهم في نفوسنا.

حظيت ظاهرة “التنمّر الوظيفي” باهتمام العديد من الباحثين الاجتماعيين عالميًا، وهناك قصص مأساوية عن موظفين في دول عديدة قرروا وحاولوا الانتحار بسببها، ومن نفذوا الانتحار حاولت عائلاتهم مقاضاة مؤسسات العمل ولكن دون جدوى لعدم وجود قانون يفصّل هذا السلوك ويعرّفه ويحدد صوره ودوافعه وعقوباته.

سيثق البعض بقوة إيمانه ودينه الحنيف الذي يحميه من فكرة الانتحار، ولكن الأرقام تقول إن الوطن العربي يشهد يوميًا 2000 حالة انتحار، وهناك أسباب عميقة لهذا القرار ولا يُستبعد أن يكون التنمّر الوظيفي من بينها، فالإنسان هو الإنسان سواء في الولايات المتحدّة أو سلطنة عمان؛ لذا فإنه من الأهمية بمكان تنفيذ دراسة وإن كانت على مستوى مُصغّر حول هذه الظاهرة في مواقع العمل بالسلطنة.

أجريتُ دراسة عددية مصغّرة لقياس ظاهرة “التنمّر الوظيفي” في السلطنة، شارك فيها 554 موظفًا من أصل 752 ألف موظف وموظفة، وفي معادلات البحوث والدراسات تعتبر هذه العينة نموذجية حيث تقبل نتائجها التعميم بنسبة 95%، توزّع المشاركون بين الذكور ونسبتهم 57% والإناث بنسبة 43%، يعمل 77% منهم في القطاع الحكومي و 23% في القطاع الخاص، وتبيّن الدراسة أن 56% من الموظفين قد أُطلقت حولهم الشائعات التي سببت أذىً نفسيًا وشوهت سمعتهم؛ فنُسف على إثرها جهدهم وعطاؤهم وحُرموا من التقدّم الوظيفي.

تعرّض 68% من الموظفين للاستهزاء والسخرية، أما 52% منهم تعرّضوا للتأنيب العلني والإذلال، أُجبر 70% من المشاركين على تحمّل أعباء وظيفية وتأدية مهام غير واقعية، وطُلب من 65% إنجازَ أعمالٍ معقّدة في وقت قصير، إلا أن 66% تم تجاهلهم وتهميشهم في مهام مرتبطة باختصاصاتهم الوظيفية، وحتى مع تنفيذهم لعملهم تلقّى 52% منهم انتقادات لاذعة مُهينة.

حُرِم 65% من المشاركين من ترقية أو مهمّة أو دورة تدريبية لأسباب غير منطقية ولا مهنية، وتم اتهام 51% منهم زورًا بارتكاب الأخطاء، ولم يحظَ 42% بالترحيب في التجمّعات غير الرسمية أو “الشِلل” التي تتكوّن في أماكن العمل، ومن المثير للاستغراب أن 39% تم التجسس على حياتهم الشخصية ومحاولة كشف أسرارهم الخاصة، ومن المفاجيء أيضًا أن 35% تعرّضوا للتخويف والتهديد، بينما تم التعدّي لفظيًا وجسديًا على 30% من المشاركين، وتعامل 17% مع زملاء عمل قاموا بتفتيش أغراضهم الشخصية وإخفائها والتلاعب بها.

أكّد 27% من المشاركين تعرّضهم للتمييز العنصري بسبب نوع الجنس أو العرق أو الحالة الصحية أو الدرجة الاجتماعية أو المستوى المادي، بينما 33% كانوا غير متأكّدين لأن التعرّض للتمييز العنصري كان مجرّد شعور أكثر من كونه حقيقة واضحة، وربما هذا الشعور سببه بعض السلوكيات؛ فقد وجدت بعض الدراسات الاجتماعية ما يُسمّى بالعنصرية المبطّنة المتجسّدة في صور مختلفة كأن يتم استبعاد الموظف من منصب أو موقع وظيفي جيّد رغم كفاءته وأهليته، أو تهميش آرائه وتجاهل مقترحاته، وأحيانًا تُعقد الاجتماعات دون إشعاره أو دعوته للانضمام إليها والاكتفاء بإبلاغه بالنتائج، ومع غياب المبررات العملية المهنية يشعر الموظف أنه مُستقصدٌ شخصيًا، ولا يجد تفسيرًا سوى أوجه الاختلاف لتكون دافعًا لممارسة العنصرية ضدّه.

قد يتساءل البعض : ما هي الفئات الوظيفية الأكثر ممارسةً للتنمّر؟ في حقيقة الأمر لا يمكن القول بأن التنمّر يأتي من اتجاه واحد؛ فهناك 3% من رؤساء العمل عانوا من سوء معاملة مرؤوسيهم، وهناك 36% من المرؤوسين عانوا من سوء معاملة رؤسائهم، بينما تذوق 13% مرارة التنمّر من زملائهم الذين يفترض أن يكونوا سندًا وعونًا، ولكن المثير للاهتمام هو معاناة 48% من تنمّر زملائهم ومرؤوسيهم ورؤسائهم جميعًا وبدرجات متفاوتة، ومن المؤسف جدًا أنه لا يزال 40% من المشاركين يعانون من التنمّر إلى يومنا هذا .. فما الحل؟.

من الجوانب المثيرة للاهتمام في هذه الدراسة أن 20% من المشاركين يجدون الحل في المعاملة بالمثل، مما يعني أن المتنمّرين لا يكتفون بتعذيب الآخرين بل ويخلقون متنمّرين جددًا، ولو عرف المتنمّر بأن الآخرين يشفقون عليه ويعتبرونه مريضًا نفسيًا يعاني من عقدة النقص وفاشلاً في مختلف مناحي حياته ربما سيدرك حجمه الطبيعي الصغير وهو الذي يتوّهم بأنه نمرٌ مفترس.

إن المؤسسة تنتظر من الموظف الكثير من العطاء والإبداع والتطوير، فكيف لهذا الإنسان الذي يحمل على عاتقه مسؤوليات ومشكلات حياتية عديدة يحاول أن يضعها خارج سور العمل، يجاهد النفس ليصب جامّ تركيزه على مهامه الوظيفية، كيف له أن يتعامل مع مسألة أخرى كان من الممكن تفاديها أو التقليل من حجم أضرارها إن تم تطبيق بعض الحلول، كتشريع قانون يجّرم “التنمّر الوظيفي” كما تفعل أستراليا حاليًا، أو إنشاء دوائر ومراكز للعلاج النفسي في مؤسسات العمل، أو تنفيذ لقاءات توعوية داخلية توضّح مغبّة التنمّر الوظيفي أسوةً ببعض الشركات الخاصة.

إن الشيطان لا يميّز الناس حسب جنسياتهم وثقافاتهم ووظائفهم ومستوياتهم الفكرية والاجتماعية؛ بل ينجذب من بعيد إلى أولئك الذين يحملون مثقال ذرّة من كِبْر في قلوبهم فيغمطون الناس ويحتقرونهم، يحاولون التشبّه بالنمر في شراسته وهم في الحياة كالنعامة، يدّسون رؤوسهم في الرمال ويهربون من مشاكلهم ولا يعترفون بفشلهم وعيوبهم، هؤلاء موجودون كجزء من التجربة الحياتية ومطبّة من مطبّات رحلتنا في هذه الدنيا، ومهما حاول البعض تبرير سلوك المتنمّرين بأنه نتيجة تراكمات من خيبات الأمل والمشكلات الاجتماعية والعاطفية، إلا أن المنطق الإنساني يرفض إلحاق الضرر النفسي والجسدي بالآخرين في أي حالٍ من الأحوال، وإن كان بالإمكان تفادي المتنمّرين فليكن؛ فإن للحياة وجوهًا مكشرة كثيرة كفيلة بتعليمنا بأقسى الطرق الممكنة حتى لا ننسى الدروس والعبر منها مهما حيينا.

ملاحظة :

لتبرئة الذمّة العلمية : النعامة لا تخبّئ رأسها في الرمال خوفًا وهربًا؛ بل تقوم برصد المهددات عبر استشعار ذبذبات الصوت المتنقلة بين طبقات الأرض، كما لا يوجد حيوان محدد يتصف بالجبن والتخاذل حتى يتم تشبيه الجبناء به.

* عنوان المقال جاء على وزن المثل القائل: أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة.

‫2 تعليقات

  1. حفظك الله العزيز عادل.. إلى أن يحين الوقت لسنّ قوانين تنظم وتنظف البيئة الوظيفية يمكن للفرد أن يقاوم التنمّر بعدّة طرق بعضها تطوير ذاتي وبعضها بإيجاد منافذ في القوانين الحالية حتى يضمن الموظف حقّه! والأهم من كل ذلك أن يجاهد المُتنمّر عليه حتى لا يتحوّل إلى مُتنمِّر.

  2. “هذا الكون به من العاهات النفسية الكفيلة بتحويل ذلك الحلم السعيد إلى كابوسِ مرعب تذبل بسببه وردة شبابنا وتخمد نار حماستنا ونفقد شغفنا”
    للاسف هذا واقعنا ؛ التنمر أصبح جزء من الروتين اليومي في أغلب المؤسسات ؛ لكن عزاؤنا فيما يحيط بنا من نجوم وأقمار كنوارة الإعلام الاستاذة شيخة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى