بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

أب لا يشبع .. وطفل مسكين!!..

الدكتور/ محمد بن ناصر الصوافي

 

أب لا يشبع .. وطفل مسكين!!..

 

خلال العام المنصرم الذي كان فيها التعليم عن بعد؛ بسبب ظروف وباء (كوفيد-19)، اشتكى لي أحد الإخوة الأعزة أنه اكتشف أن ابنه ذي المستوى التحصيلي الجيد يحاول الحصول بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة على الدرجة كاملة في كل الامتحانات والأعمال المطلوبة منه، بما فيها اتباع الأساليب الملتوية لتحقيق نتائج مثالية في الامتحانات النهائية، ولا سيما أنها كانت تؤدى عن بُعد وفي المنزل؛ مما يسهل استخدام هذه الأساليب بعيدًا عن نظر المعلمين والآباء.

وبعد الجلوس مطول مع ولي الأمر هذا، وحوار مفتوح بيننا اتضح لي أنه اشترط على ابنه بداية العام الدراسي أنه لن يقبل منه إلا الدرجات النهائية في جميع الامتحانات القصيرة، شأنه شأن باقي أشقائه الذين يفوقونه في القدرات العقلية، كما وعده بسيل من الهدايا والمكافآت إن هو حصل على درجة (100) في أي مادة، بالإضافة إلى عدد من الوعود والعقود والتي قال له فيها بالحرف الواحد “إنه لن يسمح أن يحصل على أقل من (أ) في أي مادة، سواء كانت مادة أساسية أو من مواد المهارات الفردية”.

إذن هذه النتيجة طبيعية؛ لأن الأب وضع نصب عينيه توقعات مبالغًا فيها من ابنه أو ما يسمى في بعض الأحيان مشكلة الكمال الزائد، إذ يُحمّل الآباء أبناءهم توقعات عالية تتجه نحو الكمال أو المثالية، فيريدون أن يحقق أبناؤهم ما لم يحققوه هم بأنفسهم، ويريدون من فلذات أكبادهم أن يَظهروا بمظاهر التفوق والتميز فقط دون غيرها من جوانب الضعف والفشل، فتكون النتيجة بأن يشعر الطفل أنه غير قادر أو مؤهل على تلبية هذه التوقعات فهنا قد يستخدم الغش للحصول على أعلى الدرجات؛ نتيجة الضغط الأبوي الذي يتعرض له من أجل الأداء الجيد.

كل ما سبق يقع تحت عنوان “المبالغة في التوقعات” ويعرَّفُ بأنه: الأهداف والطموحات التي يضعها الآباء لأبنائهم، والتي تتصف بأنها تفوق إمكانياتهم وقدراتهم، مع ضغط الآباء على أبنائهم في سبيل الوصول لهذه الأهداف، مما ينعكس سلبًا على أداء الأبناء في شتى جوانب الحياة الأخرى.

والسؤال الذي يدور في مخيلتنا الآن هو : ما مخاطر التوقعات المبالغ فيها أو التي تفوق قدرات وإمكانيات الأبناء على الأبناء أنفسهم أو والديهم؟.

  1. فشل الأبناء تحصيليًا وسلوكيًا وخلقيًا : فهم يركضون خلف سراب توقعات غيرهم، وليس أهدافهم وطموحاتهم.
  1. الشعور بخيبة أمل شديدة : نتيجة الفجوة الواسعة بين التوقع والواقع.
  1. تجنب تجربة الأشياء الجديدة؛ نتيجة الخوف والقلق من ردة فعل آبائهم. 
  1. النظرة المتدنية والقاصرة لذاته؛ بسبب غياب ثقته بنفسه في سبيل الوصول للأهداف التي رسمها له والداه. 
  1. الوقوف عقبة في سبيل تحقيق الأهداف التي كان يسعى لها الطفل، وبالتالي التحول إلى أهداف أخرى مختلفة وضعها الآباء، قد يكون أخفقوا في تحقيقها في طفولتهم؛ فيحلمون أن تكون في أبنائهم.
  1. اللجوء إلى الغش في سبيل تحقيق الأهداف والتوقعات: هنا سوف يركز الابن على النتيجة النهائية عوض التركيز على التعلم كما حدث لبطل قصتنا في هذا المقال.
  1. الإحجام عن المشاركة: عندما يشعر الطفل في قرارة نفسه أن الهدف في متناول يده، ويمكن الوصول إليه فمن المتوقع منه أن يسعى سعيًا حثيثًا للمشاركة، وصقل مواهبه وقدراته، وحتى لو فشل فسوف يتعلم من فشله.

فبالإضافة إلى ما سبق من الآثار السلبية على الأبناء هنالك تأثير واضح على الآباء، منها : شعورهم بالإحباط، ونفاد الصبر، والمسارعة إلى ضرب صنوف من المقارنات بين الابن وأخيه أو غيره من الرفاق والزملاء، وبالتالي استخدام طرق غير سوية في التربية والتي تؤثر تأثيرًا سلبيًا في شخصية أطفالهم ونفسياتهم.

وبعد أن تطرقنا إلى تعريف المشكلة وأبرز مخاطرها على الآباء والأبناء، وقبل الحديث عن الحلول نجيب عن سؤال مهم هنا، وهو: لماذا يلجأ الآباء إلى التوقعات المبالغ فيها؟.

من ضمن الأسباب المؤدية إلى التوقعات المبالغ فيها من الآباء هي إسقاط ما فشلوا في الوصول إليه من أهداف في الحياة على أبنائهم، فالأب الذي كان يحلم بأن يكون طبيبًا يجر طفله جرًا للتفوق عن طريق هذه التوقعات حتى يصبح طبيبًا في المستقبل، ومن ضمن الأسباب أيضًا مقارنة الأب بين ابنه وغيره من الطلاب النجيبين وأصحاب المواهب، بالإضافة إلى ما سبق رغبة الآباء الجامحة إلى المثالية والكمال تؤدي إلى الهرولة خلف التوقعات المبالغ فيها.

كيف نتغلب على التوقعات المبالغ فيها والتي تفوق قدرات وإمكانيات أبنائنا؟.

 هنالك مجموعة من الإرشادات التي تقينا من هذا الداء العضال منها على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً : أن تعمل الأسرة بمعايير وتوقعات مناسبة للأبناء :

يعود فشل الأبناء في كثير من الجوانب التحصيلية والسلوكية إلى معايير وتوقعات غير منطقية تتعامل معها مع الأبناء، سواء كانت التوقعات مرتفعة ومتطرفة وقاسية أو التوقعات المتدنية غير المحفزة التي لا تدفع الأبناء إلى بذل أي جهد يذكر.

 فالحل إذن أن تكون التوقعات واقعية ومنطقية تتناسب مع قدراتهم ومستوياتهم العقلية والعاطفية والسلوكية، ومقدار الجهد الذي يبذلونه، وكيفية إدارة أوقاتهم بصورة إيجابية.

ثانيًا : أن يسود المناخ الأسري الموضوعية والود :

المقصود بالموضوعية هو محاسبة الأبناء على أخطائهم بهدف التوجيه والتصحيح، دون المحاسبة بهدف إنزال العقوبة فقط، مع توفر الحب والمودة داخل كيان الأسرة حبًا غير مشروط، وذلك بالتغاضي والتغافل عن بعض الأخطاء والهفوات.

ثالثًا : أن تكون تصرفات الأسرة نموذجًا وقدوة للأبناء :

فإذا رأى الطفل منذ نعومة أظفاره أسرة تكافح من أجل التفوق والنجاح، فإن ذلك سيكون دافعًا له نحو الاجتهاد والمثابرة.

رابعًا : أن تحترم الأسرة رغبات واستقلال أفرادها :

إن الأسرة التي ترى كل فرد فيها كيانًا مستقلًا له حرية الاختيار، وله شخصيته وحاجاته الفردية الخاصة، سوف تكون توقعاتها متوازنة ومراعية لهذا الكيان، دون إفراط أو تفريط.

وزبدة هذا المقال : أن فلذات أكبادنا يختلفون عن غيرهم في قدراتهم العقلية ومهاراتهم وسلوكياتهم وانفعالاتهم، فليس من العدل أن تتوقع منهم الإنجاز نفسه مع تفاوت بَيّنٍ في القدرات والإمكانيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى