الكاتب/ د. محمد السعيد إدريس

mohamed.alsaid.idries@gmail.com

شـرخ مـروّع فـي جـدار الثـقـة..

أن تتوقع الكارثة شيء وأن تعيشها شيء آخر…؛ هذا بالتحديد هو واقع ما تركه قرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) بتأجيل إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وبالتبعية قطعاً الانتخابات الأخرى، أي الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني كما أعلن عنها وعلى لسان الرئيس الفلسطيني في يناير الماضي.

هاجس الإلغاء، وليس فقط التأجيل كان يطارد مواقف واجتهادات الفلسطينيّين، على الأقل ابتداءً من ليلة 31 مارس الفائت عندما أخفقت حركة “فتح” التي يترأسها أبو مازن في تشكيل قائمة موحدة تخوض بها غمار انتخابات “المجلس التشريعي” (البرلمان) الثالث. بل أكثر من ذلك عندما جاءت القائمة التي تم اعتمادها، والتي فجرت وحدة الحركة بعد ذلك، مزدحمة بمن كان محظوراً عليهم الترشح على متنها من أعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري والمحافظين والنواب السابقين، ما أدى إلى كثافة طوابير الغاضبين والناقمين والمتمردين وخرجوا إلى شوارع مختلف مدن الضفة الغربية ناقمين على تلك القائمة.

فقد ترتب على هذا الإخفاق تمرد الأسير مروان البرغوثى، أحد أبرز القادة المحسوبين على حركة “فتح” الذى كان قد أعلن دعمه لخيار “قائمة واحدة لفتح شرط أن تكون ديمقراطية ونزيهة وشفافة”، فقد دعم البرغوثى “قائمة فتحاوية بديلة” تضم المتمردين على قيادة أبو مازن والطبقة الحاكمة ووضع على رأسها زوجته فدوى البرغوثى إلى جانب ناصر القدوة ابن شقيقة ياسر عرفات (رئيس الوفد الفلسطيني بالأمم المتحدة سابقاً ووزير الخارجية لاحقاً) الذى كان قد تمرد على الرئيس الفلسطيني، وتم طرده من الحركة باعتباره “متمرداً” أو “منبوذاً”.

لم يكتف البرغوثي برعاية قائمة انتخابية حملت اسم “قائمة الحرية” جعلت من “إحداث التغيير الذي يحتاجه الشعب الفلسطيني” هدفاً لها، لكنه كشف عن عزمه الترشح منافساً للرئيس الفلسطيني في انتخابات الرئاسة

وهكذا وجد الرئيس الفلسطيني نفسه أمام انشقاقين تحولا إلى قائمتين منافستين من رحم حركة “فتح”، بعد أن نجح القيادي الفتحاوي المعزول محمد دحلان في تشكيل قائمة انتخابية منافسة أخرى لحركة “فتح” تحمل اسم “قائمة المستقبل” اتخذت لنفسها شعار “كرامة، عدالة، تنمية، إرادة ثورية”. وهكذا أدرك أبو مازن أن حركة “فتح” تواجه خطر التفكك والتداعي في الوقت الذى يقف فيه المنافس التاريخي سياسياً وانتخابياً، أي حركة “حماس” موحداً ومنظماً، وأكثر استعداداً للمعارك الانتخابية الثلاث.

قبل أن يعلن الرئيس الفلسطيني قراره يوم الخميس (29/4/2021) بتأجيل الانتخابات كان قد تم تسريب تسجيلات صوتية لاجتماع أبو مازن باللجنة المركزية لحركة “فتح” (الاثنين 19/4/2021) في رام الله، منها تسجيل جاء فيه أن الرئيس الفلسطيني “جن جنونه بعد أن سمع تقديرات أعضاء مركزية فتح للنتائج المحتملة للانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها”.

فقد اجتمع غالبية أعضاء اللجنة على أن القائمة التي تمثل عباس وجماعته “لن تحصل على 50%+1” كما كان يتمنى محمود عباس، والأسوأ من ذلك إعلان أحد الأعضاء البارزين أن قائمة محمد دحلان (قائمة المستقبل) قد تحصل على 29 مقعداً، وقائمة ناصر القدوة (قائمة الحرية) على 12 مقعداً من إجمالي 132 هي إجمالي مقاعد المجلس التشريعي. عندها بات مؤكداً أن مسيرة الانتخابات سوف تتوقف حتماً.

وهنا يكشف آيال زيسر المستشرق الإسرائيلي البارز نائب رئيس جامعة تل أبيب ما يراه خلفيات لهذا القرار في مقال نشره بصحيفة “إسرائيل اليوم” الموالية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ، قبل يوم واحد من إعلان أبو مازن قراره بتأجيل إجراء الانتخابات. في هذا المقال قال آيال زيسر أن الرئيس الفلسطيني “يبحث عن سلم لإنزاله عن شجرة التورط بالدعوة للانتخابات الفلسطينية التي دعا إليها في يناير 2021”. ولفت زيسر إلى أن “المهم بالنسبة لأبى مازن كان مجرد الإعلان عن إجراء الانتخابات، وأنه لم يقصد أبداً إجراؤها من الناحية العملية، بل كل ما يسعى إليه كان أن يعرض نفسه أمام الإدارة الأمريكية الجديدة كديمقراطي، ولحشر إسرائيل في الزاوية باعتبارها مخربة دائمة للمساعي الفلسطينية بإجراء انتخابات ديمقراطية”. ويستخلص آيال زيسر من ذلك أنه لم تمض غير أسابيع قليلة على إعلان أبو مازن إجراء الانتخابات حتى وجد نفسه يكتشف أنه “فتح صندوق مفاسد” إذ أن خطوة الانتخابات دفعت بأعدائه داخل منظمة التحرير وخارجها لأن يستغلوها، وهكذا، وحسب آيال زيسر فإن “خطوة هدفها تعزيز أبو مازن والمسّ بإسرائيل تحولت إلى خطوة من شأنها أن تجلب عليه نهايته السياسية”.

مقال آيال زيسر المشار إليه يأخذنا إلى البحث في الاتجاه المعاكس لتبريرات الرئيس الفلسطيني وجماعته للأسباب التي فرضت قرار تأجيل الانتخابات، أي رفض إسرائيل تمكين “المقدسيين” (الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس) من المشاركة في الانتخابات ترشيحاً وتصويتاً، وإصرار الرئيس والسلطة على التمسك بمبدأ أنه “لا انتخابات بدون القدس” أي لا انتخابات بدون المشاركة الكاملة لأهل القدس. فهذا المبدأ رغم أهميته القصوى، لكونه يؤكد أن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية ويرفض تماماً الاعتراف بالجريمة التي ارتكبها الرئيس الأمريكي السابق بإعلانه أن “القدس الموحدة (القدس الشرقية والقدس الغربية) هي عاصمة أبدية لإسرائيل، بقدر ما يضع نهاية لما سمى بـ “صفقة القرن” إلا أنه يفرض طرح أسئلة مهمة لها علاقة مباشرة بما سبق إعلان قرار تأجيل الانتخابات وبما سوف يعقبها من تطورات وإجراءات، أول هذه التساؤلات يتعلق بجدية نوايا الرئيس الفلسطيني إجراء الانتخابات من منظور إلى أي مدى كان يعتقد أبو مازن أن إسرائيل، بعد أن حصلت من دونالد ترامب على صك اعترافه بوحدة القدس كعاصمة لإسرائيل، وبعد أن بدأت في الالتزام بـ “قانون القومية” الذى يتعامل مع أرض فلسطين كلها من النهر إلى البحر كوطن لشعب واحد هو الشعب اليهودي دون غيره، يمكن أن تفرط في هذا كله وتقبل أن تعود القدس مرة أخرى مدينة فلسطينية يشارك أهلها، وعلى أرضها في القرار الوطني الفلسطيني باعتبارهم مواطنين فى عاصمة الدولة الفلسطينية.

ثاني هذه التساؤلات يتعلق بما إذا كانت الانتخابات ، وفق شرط “لا انتخابات بدون القدس” ستكون مؤجلة فقط، وليس أنها تم إلغاؤها، على الأقل من الناحية العملية، إذا كانت إسرائيل لن تسمح بأي حال من الأحوال أن تقبل بالمطالب الفلسطينية، وبالتحديد تمكين أهل القدس من ممارسة حقوقهم الانتخابية كمواطنين فلسطينيين؟.

الإجابات صعبة ومريرة وتؤكد أن ما هو قادم سيكون أكثر صعوبة، فالتوافقات لم تتداعى فقط، ولكن أسئلة المستقبل، أي ما بعد إرجاء الانتخابات أو إلغائها عملياً، هى التي ستكون معنية بحسم أي خيارات سيقبل الفلسطينيون بعد هذا الشرخ المروع في جدار الثقة بين كل الأطراف وخاصة الأطراف التي شاركت وتهيأت للانتخابات وشكلت قوائم انتخابية بلغ عددها 36 قائمة كانت تواقة للمشاركة السياسية وتغيير الطبقة الحاكمة.