رواية وادي الرمال .. الحلقة 30..
حـمـد الـنـاصـري
كاتـب و قـاص
رواية وادي الرمال .. الحلقة 30..
وصف الجدّ الكبير رجال القرية القديمة ذات مرّة وصْفاً يَليق بهيبتهم:
ـ إنّهم رجال قد اطْمئنوا بالحياة بلا تكلّف، فرحين بما أتتهُم السماء من خير ولم يغفلوا امتدادهم بالقرى ولم ينسوا ما تربطهم من علاقة مُتجذّرة ولم يَجهلوا أواصرَ تاريخيّة تَجمعهم بالوادي، فكان ذلك الإطمئنان سبيلاً للحوار.
أؤلئك الرجال ساهموا في خلق حضارة إنسانية، فكانوا عظاماً، وكراماً بأفعالهم، وبأفكارهم النيّرة صَنعوا قيَماً وثقافة، لم تجد مِثْلها في مُجتمع وادي الرمال.
ومن ملامحهم تبدو قلوبهم طيبة، ومن طيبتهم تألَفهم للوهلة الأولى ولا تُخطئ ألسنتهم عن مكارم الأخلاق.
رجال لا يَجأرون بمصائبهم ولا يَخشوْن أحداً أعِزةً إنْ أقْدَموا، صادقين لا يَفترون، رجال لا تشغلهم التفاهات ولا يَلتفتون إلى التُرّهات، ولا يُقيمون وَزْناً للأفكار الناشزة، ولا يَقتربون من التافهة. حياتهم مُستقرّة مُتراصّة كالبُنيان.
كان لهم مَلكاً ذا قوامة وصَيت، عُرف بالحِكْمة، بليغ إذا تحدّث، راسخ إنْ أوْجَب، يُنّزهَهُ رجاله عن تُرّهات الأخبار الزّائفة ويَرفعونه فوق الأفْعال السّاذجة، يُشاركونه برُشدهم، فيجمع بين صواب الرأي ورشادة الحكِمة في القول والعمل.
سكت بُرهة. ثم أردف قائلاً:
ـ أتعرفون من هُم؟.
قال أحد الرجال من بين الجمع الذي تحلّق حول الجد الكبير:
ـ أنت الذي عندك عِلْم من الكتاب، وأنت الذي تعرفهم؟ فجميل القلب يَعرف مَن هو مِثله! ونقيّ الفِكر يسموا إلى عبق الكلام الجميل.
ابتسم الجد الكبير ابتسامة طويلة، أغمض عينيه، وبدا كأنّ في إغماضته انبساط وسلام ومحبّة للقوم الذين أسْماهم برجال القرية القديمة.
وهزّ رأسه فرحاً مَسْروراً وتَلى كلاماً طيّباً، لكأنّ ذلك الكلام الطيب هو الثمرة:
ـ لا أتخيّل أنْ يأتيَ رجال مِثْلهم، رجال لا يُظهرون غير الخير للناس ولا يَتظاهرون بغير التسامح واللِيْن ولا يَتجاوزن الحقّ إلاّ لتساهُل أجمل للحياة.
سكت ثم أردف:
ـ إنّ الوصف ليخجل في حقهم.
توقف فجأة ولم يَبزم بحرف، فخاف المُجتمعون، رُبما أصِيب بسوء أو مكروه، ثمّ أخذ يَفرك عينيه بتكرار، كأنّما لحقها تَلف، وأشار إلى ـ وليد ـ ليُكمل ما تبقى من حديث، وظلّ في مكانه ولم يَنبس بحرف.
قال ” وليد” وهو ينظر إلى جدّه:
ـ يُحكى. أنّ أولئك القوم، ذو رُشد وبصيرة يعرفون الحق ولا يخرجون عنه، وإنْ حضروا، لم تَكد تَعرف من الرشيد من بينهم.
وقد أجاب جدي ذات يوم، وأنا مُندهش من الطريقة التي كانوا عليها، وقال:
ـ بأنّ علاقتهم ببعضهم كبيرة بينهم، وأخْلاقهم عالية بالمودّة، وذلك مَبدأ من الحياة المُستقرة في مُجتمعهم.
وحين سألته:
ـ من هم أؤلئك القوم؟.
فأجابني بهدوء:
ـ هم رجال قرية مَجن الساحلية، المعروفة في غابر السِنين بالقرية القديمة؟ وعند البعض، أنّ وادي الرمال يتكوّن من القرية القديمة، وقرية الوادي والقريتين العتيقة والمكينة.
وتعود تسميتها، بالقرية القديمة، كما يُقال، نظراً لارتباطها التاريخي بجذور قرى الوادي الثلاث، ويجمع البعض التسمية، أنّ القرية القديمة، عُرفتْ كقرية تاريخية، اشتهرت بالتراث والمعرفة والاستقامة إلى جانب وقوعها على بحر كبير، ونظراً لموقعها البحري، فقد نشأت قرى ساحلية على ضفاف البحر، مما تسبّب ذلك الموقع لأطماع الغُرباء.
قام رجل بعد أنْ ذهب الجد الكبير وعرّف نفسه:
ـ أنا من حيث عرفتم، سيداً وشريفاً، صفتان ورثتهما أباً عن جد؛
توقف وليد عن الحديث مع الناس، وبدا غاضب لمقاطعة عياد لعرج حديثه مع الناس، مُستغلاً غياب الجد الكبير عن تجمّعهم ونصّب نفسه سيّداً على الوادي، فأخذ يُحدث الناس عن نفسه وقد وضع يده اليُمنى على صدره وقال:
ـ نعم، أنا سيّد القرية، مُنذ أنْ كنت صغيراً وأنا أكبر معها، فأنا “عياد الأعرج” لُقّبت بالشيخ. وهي صِفة قديمة ثابتة ورثتها عن أبي وعن جدي.
سكت قليلاً، ثم استطرد، دعوني احدثكم عن ما قاله جدّي الاول عوّاد:
ـ إنّنا قوم أنبنا إلى الرُشْد، نؤثر الكرامة كخصاصة لم يسبقنا إليها أحد، وهي فضل مُمتد لا يَنفد؛ فنحن الاثر ونحن الصلاح ونحن الحياة ونحن الأحقّ بها من غيرنا، وأمّا رُعاع الناس فهم قوم يجهلون! لا نأخذ عليهم ولا نسفك دماءهم ولا نخرجهم من ديارنا.
والرجل الذي جاء من أقاصي الديار، وقال للناس يومئذ:
ـ لستم على شيء، حتى تعترفوا أنّ ذلك الفضل هو شأوًا نحن نختصّ به.”! ذلك هو جدي. فهل عرفتم من أنأ؟.
قال “أزهر” بصوت مرتفع:
ـ ما هذا الهُراء يا رجل، ارتق بنفسك فالذين يَعملون عمل الجميل هم أقدر الناس على الخير، فإيّاك أنْ تكون من الجاهلين.
التفت إلى السيد وليد وسكت ولم ينبس بحرف. وبعد نظرات مُتبادلة، قال وليد:
ـ أيها الرجال، ما أقتبسه “عياد لعرج” من أقوال لجده عوّاد. فذلك الكتاب، مأخوذ عليه ومشكوك فيه، ولا شكّ أنّ عوّاد جاء من أقصى بحر الرمال، وكان مَرجع لكثير من الناس، والحقيقة ما كان يَنبغي على أحد منكم أنْ يتطاول على الغير ولا أنْ يفتخر بنفسه وينعت غيره، ولا أنْ يتشارك في الاساءة في فهم المُختلف عليه.
ما زلتُ أتذكّر يوم أنْ جاء عيّاد لِعْرج إلى مجلس جدي بالقرية، قرية الوادي، لحلّ مَعضلة كبيرة بينه وبين أخوته الثمانية في ميراث لهم في قرية البحر الواقعة غرب ساحل مجن، وتلك القرية الناشئة، قال عنها جدي الكبير، إنها امتداد إلى ساحل مجن وليست إلى قرية الوادي.
ومن خلال تلك القصة نشأتْ علاقة إنسانية واجبة، بين جدي الكبير وبين عوّاد لِعْرج وبقاء جدّك عوّاد في قرية الوادي لا يَعني أنّ جذوره منها، فامتدادكم إلى قرية البحر، لا يزال باقياً.
سحب نفسا، ثم أردف:
ـ وما سردهُ أخي أزهر، نقلاً عن جدي الكبير عمّا رُوِيَ عن أهل قرية مجن، فهيَ صحيحة، فقد اطّلعتُ على كثير في هذا الشأن، وبالأخص حكاية القرية ورجالها، وقد سُردت بأكثر من مقام وبها أجمل صِفات القيم الإنسانية، ودُوّنت سيرتهم في أكثر من كتاب، والسيرة الطيبة وُثّقت بالمراجع التاريخية.
والقرية البحرية، لا ريْب عظيمة المكانة التاريخية، وكما عرّفه جدي الكبير بأنّ جدك كان يُدعى بـ عَواج وليس عوّاد وكان سبب إضافة مُفردة لِعْرَج، لضعف بإحدى رجليه، وقد اعتاد عامة الناس في مجتمع قرية البحر لاستبدال بعض الاحرف في النطق، كإبدال الحروف المُتحركة إلى ساكنة وتوظيف أحرف بديلة وفق بيئة اللغة المحلية وتفاعل مهاراتها وبعد حين من الزمن، تتحوّل إلى إنْتماء وعلاقة تكوينية وما اكتسبه اسم جدّك كان عِوضاً لإسْمه الاول إلى اسم يليق به، وفق مفهوم البيئة المكانية، فصار اسم عواج إلى عوّاد؛ وذلك يعني ، أنه ليس منها في الأصل، وإنما هو اليوم ينتمي إليها وفق ما استمسك بإنتمائه البعيد بها.
وفي الأثر البعيد عبّر عنها الجد الاكبر نقلاً عن جدي الكبير:
ـ تعرّضت قرية البحر إلى جوائح طبيعية مؤلمة في قديم الزمان، كما أصيبتْ أطْراف الدّيار عوارض من الجائحات، لكأنّ السَماء، كانت تمتحن إيْمانهم وصَبرهم، فما استكانوا وما وهنوا وما ضعُفوا بل ازدادوا شكيمة وقوة وعزّة، وظلوا أوفياء لقريتهم وانتشرتْ الأوبئة بينهم وامْتدت إلى أقصى أطرافهم، فصبروا وتحمّلوا، فكان العزم نجاح لهم.
وفي أسطورة المجد للجد الأكبر نقرأ ما وصفهُ في كتابه:
ـ اشتدّت الجائحات بقرية البحر وتحوّلت أرضها ورمالها البعيدة إلى مُعضلات كارثية، إلى درجة اصبحت بيئة المكان شديدة على الحياة فيها؛ ولكن الرجال ـ رجال القرية ـ عزموا بالجِد والنشاط لتجاوز محنتهم؛
وأجمعت المراجع بأنّ القرية البحرية عبارة عن قرى مُتناثرة بوادي الرمال وأخرى مُتجاورة للبحر وقد رحل كثير منهم وهاجر عبر امتداد البحر واتساعه، كحال جدك المُسمى بـ “عواج لعرج” الذي استوطن قبلها قرية البحر ثم جاء إلى قرية الوادي وأقام فيها.
وكما قال الجد الكبير ، أنّ رجال قرية مجن الساحلية جاؤوا في زمن جدي الاكبر، في سنين غابرة وجاء من بعدهم رجال ـ أيضاً ـ في عهد الجد الكبير ولم يُعرضوا أنفسهم ولم يَطلبوا البقاء في بلد غيرهم. مثلما فعل جدك” عواج لعرج” الذي بقيَ في قريتنا، ثم نازع كثيرا من رجالنا ولكنّ الجد الكبير أركسه وأرجعه إلى حقيقة أصْله، وخيّره بالكفّ عن شيطنته أو يردّه من حيث جاء.
ونحن نعلم يقيناً، بأنّ بلاداً أعجمية تنتمي إلى الرمال وتتشارك معنا الحياة، وفصّل جدي الكبير في خطابه شيئاً من ذلك، وقال، أنّ كل القرى تنتمي إلى وادي الرمال، ولكل قرية بعيدة او قريبة تاريخ خالد وعميق امتداد للرمال الواسعة لكنّا لا نستطيع أن نقول عنها بأنها تنتمي إلى قرية الوادي العتيقة ولا إلى القرى الخالدة في تاريخها العميق كقرية مجن ولا إلى جذور امتداد القريتين المكينة والعتيقة.
ذلك رجعٌ بعيد فيه استحالة القول البعيد عن الصواب.
وآخر قولي المكين بأنّ قرية مجن بحرية ولها ساحل طويل وكل القرى التي تجاورها وتُحاذيها امتداداً لها وتُعَدّ جزءاً من رمالها.
قال عياد لعرج بغضب:
ـ اختلف معك، وتلك الكلمات التي أثرتها لا تُعبر عن الاستقرار في الوادي، ولا تُجانب أهدافنا ولا تُرضي طموحنا.
لقد اجحفت حقّنا وقسوتَ على نصيبنا بوادي الرمال، وغيّبت حقوقنا ولم تُداري إنسانيتنا، لكأنّ نصيبنا منها، كلمة خبيثة اجتثّتْ أرزاقنا أو كأنّ نصيبنا من قولك، موقفاً يُقلّل من رغبتنا في التعايش بسلام.
وأنا ومن هذا المكان، أحذّر أصحاب الامتداد، وليترقبوا إنكارنا للاستقرار معهم. وتلك هي أهدافنا الأساسية.
نظر عيّاد الاعرج إلى وليد نظرة غضب واستفزاز، ولم يُعقب، التفت إلى رجالٍ وساروا خلفه.
يـتـبـع 31 ..