إتّقِ شر الطبيعة إن غضبت !!..
شـيـخـة المـحـروقـيـة
إتّقِ شر الطبيعة إن غضبت !!..
تخيّل روبرت فروست في قصيدته الشهيرة (جحيم وجليد) أن هذا العالم سينتهي إما بالنيران أو الجليد مستلهمًا ذلك من الكوميديا الإلهية لدانتي، وقد كتب تلك القصيدة بعد المآسي التي عاشها العالم بسبب وباء الانفلونزا الإسبانية والحرب العالمية الأولى، وكان فروست يرى أن الطمع والكراهية سيقودان العالم إلى حتفه، ربما لو عاش فروست إلى يومنا هذا لاحتار في كتابة قصيدته؛ فالعالم الذي عاش حروبًا عديدة وعاصر أوبئة مختلفة يقف عاجزًا في مواجهة الطبيعة الغاضبة، جزءٌ منه يعاني من الحر الشديد والجفاف وجزءٌ آخر يواجه أعاصير وفيضانات، بعضه يحترق بفعل براكين تثور لفترة طويلة وبعضه يهتز بفعل زلالزل متتالية، بعضه يتجمّد بفعل العواصف الثلجية وفي بعضه تنهار الجبال الجليدية وتذوب.
مشى الإنسان في مناكب هذه الأرض وأكل من أرزاق الله المنتشرة في برّه وبحره، واتخذ من الأنعام حمولةً وفرشًا وطعامًا، وجد فيها ما سخّره الله له من زينة ودفء ومنافع ومشارب، وأخرج الحديد لما فيه من بأس شديد يعينه على صناعة السيارات والطائرات والسفن، نقّب في بواطن الأرض ليظفر بثراوتها من غاز ومعادن وذهب أسود، وقطّع أشجارها ودمّر غاباتها ليمتد في البناء والعمران، قتّل حيواناتها ليستخرج منها كل شيء يعينه في أدق شؤون حياته، وقد تمادى ابن آدم في استنزاف عطايا الطبيعة، واستغلّ سخاءها، وأَمِنَ صمتها إلى أن جاء اليوم الذي ينقلب فيه مزاجُها ويتغيّر مُناخها محذّرة إيّاه بأنْ سيأتي عليه يومٌ ينشغل فيه بضمان الحياة على هذه البسيطة قبل الاستمتاع بها.
انشغل ابن آدم منذ بدء الخليقة بممارسة دوره كخليفة الله في الأرض، وقد أنساه طموحه وطمعه حقها عليه، فنسي شركاءه فيها من نبات وحيوان، وأفضى سلوكه اللامسؤول إلى تلوّث هذا الكوكب الذي كتم غضبه الحامي في جوفه فأصبح على مَرِّ السنين “انحباسًا حراريًا” كما يُسمّيه العلماء، وعندما بدأت الطبيعة الأم تنفجر وتعبّر عن استيائها سارع أبناؤها إلى إيجاد الحلول التي ترضيها وتخفف من حرارتها 1.5 إلى 2 درجة سليزية على الأقل قبل نهاية هذا القرن.
منذ عام 2007م وحتى يومنا هذا يجتمع قادة العالم لاقتراح الحلول العادلة لمواجهة “ظاهرة تغيّر المُناخ”، وقد بحّت العديد من الأصوات وهي تنادي بضرورة الالتفات إلى “الفيل الذي يكبر في الغرفة” (1)؛ خاصة من الأجيال الشابّة التي تتّهم السابقين بأنهم سلبوا اللاحقين مستقبلهم، ولطالما كان التوقف عن استخدام المحروقات كالفحم والنفط بحلول 2050م حلاً أساسيًا لِما تسببه هاتان الثروتان من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، أما الحل الآخر فهو التقليل من الأنعام كالأبقار والأغنام والإبل لما تسببه هذه الحيوانات من انبعاثات غاز الميثان.
الحلول المطروحة يصعب الاتفاق عليها لأنها تُبعد العالم أكثر عن أحلامه ومقاصده؛ فالهند مثلاً ترفض الاستغناء عن الفحم قبل 2070م لأنها أكبر منتج له في العالم وتعوّل عليه في صنع ثرائها، والهند هي ثاني أكثر الدول تلوثًا في العالم، والثانية في قائمة الدول المهددة بمخاطر تغيّر المُناخ بعد مدغشقر، ورفضها يعني المزيد من التلوّث والمزيد من غضب الطبيعة المتجسّد في الحالات المدارية بالمحيط الهندي التي من المتوقع أن تزيد شراستها وقوة تأثيرها على السواحل المتجّهة إليها كسواحل السلطنة، وإعصار شاهين وبقية المنخفضات والعواصف القادمة من الهند دلائلٌ على ذلك.
يُنظر إلى الغاز الطبيعي كبديل أمثل للنفط والفحم لأنه أقل تلويثًا، ولكن اعتباره كمصدر صديق للبيئة خلق جدلاً واسعًا بين الدول؛ فبعضها يراه نظيفًا والآخر يراه مصدرًا للكربون والميثان الخانقين للغلاف الجوي، وقد تعقّد أمرُ الغاز أكثر بعد الحرب الروسية – الأوكرانية لا سيما بعد قطع روسيا إمداداتها منه؛ مما أدّى إلى ارتفاع الطلب مرة أخرى على النفط، ليعيش العالم بين مطرقة مسؤوليته تجاه هذا الكوكب وبين سندان حاجته من الطاقة خاصة قبل حلول فصل الشتاء.
إن أسلوب حياة البشر اليوم وخاصة في غذائهم دفع إلى تزايد الطلب على اللحوم والألبان مما أدّى إلى ازدياد عدد مزارع تربية المواشي، وقد انطلقت نداءات على مستويات سياسية وثقافية عليا لاعتماد الطعام النباتي كنظام حياة، أما نيوزيلندا التي تعتبر أكبر مُصدّر للألبان تخطط لفرض ضرائب على مربّي الماشية، لكن البرازيل – وهي أكبر مُصدّر للحوم – رفضت تقديم أي تنازلات حفاظًا على اقتصادها.
مما يثير الدهشة أن الإنسان نفسه قد يعتبر خطرًا على الأرض، فازدياد عدد سكّان العالم لطالما كان أمرًا مقلقًا على مر التاريخ، إذ يشير جوستاين غاردنر في رواية (عالم صوفي) إلى أن هذا العالم يُدار تارة بالعاطفة وتارة بعقل بارد، فإذا ما لقي ملايين البشر حتفهم نتيحة زلزال أو وباء فإن العالم قد يحزن ويتعاطف، وعلى العكس تمامًا قد يتعامل ببرود تجاه هذا العدد الكبير من الوفيات؛ فاختصار عدّة ملايين من البشر ليس أمرًا سيئًا لأن ازديادهم يهدد مصير الأرض.
الوقتُ يداهم العالم، فهناك سواحلُ ومدنٌ كُبرى مهددة بالغرق بسبب ارتفاع منسوب المياة في الأنهار والمحيطات، وملايين من البشر مهددون بالهجرة من مواطنهم والتشرّد والموت جوعًا بسبب الجفاف والتصحّر، وهناك دول مهددة بعدم الاستقرار الأبدي بسبب الطبيعة الغاضبة الثائرة على هيئة حرائق وبراكين وزلازل وأعاصير وفيضانات، وهناك عالم بأجمعه مهدد بالاختناق والأمراض القاتلة والمزمنة لأن رئته (غابات الأمازون) احترقت، وربما يكون ذلك نوعًا من الدمار الإبداعي حيث يُجْبَر ابنُ آدم على “هدم جميع جسوره ليبنيَ من العدم من جديد” (2)، فيبتكر أساليب حياة جديدة تجعله حكيمًا في استغلال ثروات الأرض ومراعيًا لوجود مخلوقات الله الأخرى كشريكٍ له في هذا الكون.
إن علاقة الإنسان مع الطبيعة كعلاقة الجنين بالحبل السرّي مثلما شبّهها ثور هايردال، فالنعم التي يهنأ بها الإنسان في حياته هي من خيراتها وثرواتها، والثقافات المتنوعة التي يزخر بها العالم ما هي إلا نتيجة التبادل الدائم معها كما يرى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وجمال الطبيعة هو الملهم الأول للفلاسفة والأدباء والشعراء والفنانين؛ بيد أن الإنسان لا يمكنه نسيان القسوة الكامنة خلف ذاك الجمال كما تقول ماري ويب، وغضب الطبيعة شرٌ لا بد للإنسان أن يتّقيه حتى لا يدخل معها في نزال هو الخاسر فيه في كل الأحوال.
هوامش :
– تعبير “الفيل في الغرفة” كناية عن تجاهل مشكلة واضحة وهي هنا “ظاهرة تغيّر المُناخ”.
– مقولة للمعماري سنان في رواية “الفتى المتيّم والمعلّم” – إليف شافاق.
للأسف سيواصل الإنسان طغيانه على الطبيعة إلى أن تطغى عليه فما هو إلا ظلوما جهولا .
بورك قلمك يا استاذة شيخة ؛ مقالك رشيق وعميق في آن واحد ولا يمكن وصفه إلا “بالسهل الممتنع”