مارك فاليري ونظرته الفَجّة تجاه السياسة العُمانية!!..
الـكـاتـب/ حـمـد الـنـاصـري
مارك فاليري ونظرتُه الفَجّة تجاه السياسة العُمانية!!..
يُعد مارك فاليري مِن الباحثين والمحُاضرين البارزين في الاقتصاد السياسي في معهد الدراسات العربية والإسلامية، وأستاذ بجامعة اكستير البريطانية، مُتخصص في شؤون الشرق الأوسط ومُديراً لمركز دراسات الخليج ، وتركّزت أبْحاثه على التحوّلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في دُول الخليج وخاصة في ما يَتعلّق بِبناء الدولة العُمانية والشرعيّة السياسية في سَلطنة عُمان منذ العام 1970.
ويَبدو أنّ الرَجُل قد ركّز في جَوانب كثيرة مِن ابْحاثه على عُمان، وحاضرها ومُسْتقبلها، ولكنه وبلا تَبْرِير مُقنع ألْبَسها مَشاعر القلق ، فهو حِين تحدّث عَن مَسار حُكم جلالة السُلطان قابوس تغمّده الله بواسع رحمته .. تحدّث بِلُغة مُتحيّزة وغير مِهْنية ، وأظْهَر سَطحية بالغة وقِلَة نُضْج في نَظْرَته نَحو السِيْرة العُمانية عَبر التاريخ ، وعَبْر حُقب سِنينه المُتواترة الخصبة ، وقد يَعود ذلك إلى الفَقر في مَعلوماته الصائِبَة مِمّا ألْجَأه إلى فرض تساؤلات غيرَ مَنطقية وبَعضها مَعلوم الاجابة عنها سَلفاً لِيَصِل إلى مُبْتغاه في تشويه الحقيقة مُفْتَقِراً إلى الرُشْد والصَواب .. قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} وهُنا نُلاحِظ طريقة دسّ السُم في الدَّسْم مِن خلال نَقْل فِكْرَة ظاهِرها رَحمة وباطِنها العذاب ، فعلى سَبيل المثال يقول مارك فاليري : (يُعتبَر نظام السلطنة السياسي الأكثر شخصانية من بين كل الأنظمة الملكية في الخليج).
ثُم يَسْتدرك قائلاً : (فمنذ وقت طويل، وضع الكثير من العُمانيّين البلاد وحاكمها، قابوس بن سعيد آل سعيد، الذي كسب ولاءهم من خلال بناء دولة وهوية وطنية تتمحور حول شخصه، في منزلة متساوية) ، وتلكَ لَعَمري رسالة مُبَطّنة بالتَشْويه والتَحْريف فجلالة السُلطان قابوس طيّب الله ثراه صَبّ كُلّ اهْتمامه على تَطوير عُمان وإسْعاد الانْسان العُماني ورَسّخ روح الوطنيّة العَمِيقة وجَمع شَمْل البلاد بَعْدَما كادَتْ تُمَزّقها الفُرقة والقبلية والفِتَن بالحِكْمَة والتَسامُح ، وأمّا مَنزلته التي اكْتَسَبها مِن العُمانيّين فقد جاءَت بِسَبب تعامُلِه السَمِح وتوادِّه مع المجتمع العُماني بَل وانْصِهاره فيهم في كُتْلَة مِن الألْفَة والانْسِجام التي قَلّ نَظيرها بينَ قائِد وشَعبه فكانَت له جَولات ولِقاءات سَنوية في كُل شِبْر مِن أرْض عُمان التي أحَبّها وأحَبّته ، وكانَ يَصْغِي لكلام شَعبه ويَتجاوب مَعهم فأحبُوه لإخْلاصهِ لهم.
ونعود إلى فاليري وطريقة نَقْدِه الهدّامَة فَنراه يقول في تقريره المَلِيء بالمُغالطات المقصودة : (كان للحقيقة أن أهم التظاهرات وقعت في مدينة صحار ، التي لها تاريخ غني في مجال التجارة يعود إلى آلاف السنين ، رمزيّة فاقعة ؛ فحتى أوائل العِقْد الماضي ، ظلت صحار مدينة ريفية أهملتها عملية التحديث التي جرت بعد العام 1970، شأنها في ذلك شأن المراكز الإقليمية الأخرى).
وتلك سَقْطَة كُبرى للكاتب وغَلْطَة كانَ يَجدر بهِ ألّا يَقع فيها بَلْ إنّها تُعَدّ تَجَنِّياً مَفضوحاً على المدينة التاريخية صُحار وعلى سَائر مُدن عُمان ، وتَنُم عَن جَهْل مُطْلَق ومُطْبِق لا يَلِيق بباحث يَدّعِي أنهُ درسَ تاريخ وحاضر السَلطنة ؛ فصُحار تُعْتَبر ذاكرة تاريخية عريقة لعُمان فمنها انطلقت أسْطورة السِندباد وذاكرة أسْواق العرب في الجاهلية ، فـسُوق صُحَار الأدبي هو أبْرَز ما عُرِفَتْ عنه صُحار قديماً .. وهيَ عبق من تاريخ أمجاد عُمان ، مدينة تَتقاطر زواياها بعظمة التاريخ والتُراث والعِلْم والعُلماء قال عنها المؤرخ المقْدسي أنّها قَصَبَة عُمان وتحدّث عنها المؤرخ الشهير المسعودي الذي زارَ صُحَار عام (304هـ / 917م) قائلاً : “إنّ علاقتها التجارية كانت مع شرق أفريقيا ودول الهند وشرق آسيا”.
ومن ناحية أخرى تُعتبر مدينة صُحار في العْهد الجديد لجلالة السُلطان قابوس طيب الله ثراه ، مِثالاً حقيقياً لِلتَحديث والتَطوير الذي طرأَ على مُدن السَلطنة بَعْدَ النهضة المباركة ، ففيها أكْبر المشاريع الاقتصادية ليسَ على مُسْتوى السلطنة فحسْب بَلْ على مُسْتوى العالم كمصانع البتروكيمياويات والبولي بروبلين والحديد والألمنيوم وبها الميناء الصناعي وغيرها إضافة لِبُنية تحتيّة وتَصْمِيم حديث لشوارع المدينة أبْهَر كُلّ زُوارها ، ناهيك عن أن جلالة السلطان قابوس رحمه الله قد خصها بـ (مكتب تطوير صحار) وكان المكتب تحت إشراف ديوان البلاط السلطاني ، ولكنْ يَبْدو أنّ مارك فاليري لمْ يُكَلّف نَفسه عَناء زيارة المدينة أو على الأقل مُتابعة التقارير التلفزيونية أو الاطّلاع على الكُتب التاريخية والحديثة المُنْصِفة للمدينة وتاريخها العريق.!!
لذا فإنّ طريقة طَرحه للمعلومات عَن تلك المدينة الجميلة وعَن بَقيّة مُدن السَلطنة تَنُم إمّا عَن جَهْل مُطْبِق ، أو تَقصّد في تقديم صُورة مُشَوّهة عَن الحقيقة ؛ فـ صُحار كما هو مَعروف نالتْ نَصِيباً أوْفَر مِن الاهْتمام والتَطوير الحديث حالها كحال باقي المُدن العُمانية الكُبْرى بِسَبب أهميّتها التاريخية والجغرافية وذلك الاهْتمام الذي كانَ حاضِراً وجَلِياً في كافة مُدن عُمان الكبرى التي كانَ لها نصيباً كبيراً مِن التَنمية الحديثة .. وقد أعْجَبني ردّ أحَد المُتابعين لتغريدات مارك فاليري .. حيث قال حفيظ الكاف العُماني الأصيل : “ما راح تسمع عن قابوس عند حديث المعصرات ، قابوس لن تلد النساء مثله حكمة وحنكة وحباً لعمان ، قابوس شخص نادر في عصر التقلبات السياسية والغربلة الغربية”.
خُلاصة القول..
إنّ حُريّة التَعْبِير نَهج سارَتْ عليه عُمان عَبْر أزْمِنَتها التاريخية وحِقَب سِنين حضاراتها المُتعددة ، وامْبراطوريتها ذات الإمْتداد شرقاً وغرباً قد أنْتَجَت حضارة سَلام ووئام .. ولا زِلْنا وبفَخْر نَحن الذين يَقومون بإنْقاذ بلاد الغَرب مِن أزْماتهم التي يَصْنَعونها بأيْديهم ، ولَطالما كانَت مَسْقط العامِرَة مَقاماً لِلْحُلول ولِلسّلام حتى عندما تَسْتَعصي الحُلول في أيّ مَكان آخر في الأرض .. فعُمان رَسَمت لنفسها مَسَاراً ثابتاً على الحقّ والخير لا تَضع سِياسَتها رَهْناً لأمْزِجَة المُتَفيقِهين ، ولا تَرسِم قناعاتها وفْقاً لأهْواء المُضِلّين ؛ إنّما تَخضع نَظْرَتها وتَعامُلاتها مَع كُلّ النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمبادئ بَنّاءَة وأسُس راسِخَة مِن وَحْي إنْسانيتها وتاريْخَها قديماً وحديثاً .. ومَفاهيمها القيميّة والأخْلاقية المُتّزنة لا تتَصادم مع الثقافات الأخْرى بلْ تَزيدها عُمقاً ووَهْجاً ، وتَمُدّها بجاذبية إشْراقتها لدى كُلّ الشُعوب.
عُمان تجربة ديموقراطية حقيقيّة وواعية مَصْدَرها الأساسي سَماحة وعظمَة الدين الاسْلامي والمُعْتَقد القِيَمِي الإنْساني واكْتسابها تلكَ التَجربة مِن واقع مَكانتها التاريخية ومَوقعها المكين .. بلا تَهافت ولا تَصَنّع ، وبعيداً عَن أية صِراعات إثْنِيّة أو تَصادُمات عِرْقيّة وما المَنْزلة التي وصَلْتَها ونالتْ اسْتحقاقها مِن احْترام وتَقْدير شُعوب الأرض قبل حكوماتها وتلكَ الثِقَة العَظيمة مِن شُعوب الدُول قاصِيْها ودانِيْها ومِن قياداتها إلاّ دليل على صَواب الرُؤية وسَداد الحكِمْة السياسيّة سَواء داخلياً وخارجياً.
عُمان دولة تاريخيّة أبْهَرت العالم بعنفوانها ، وحِكْمَة قادَتِها وما الموقف الذي شاهَده العالم أجْمع لحظة وفاة جلالة السُلطان قابوس رحمه الله ، وشُغور مَنْصِب الحُكْم وتنصيب السلطان الجديد إلّا نَمُوذجاً يُحْتَذى بِه ، وأصبحت هَيْكلِيّته مَدرسَةً لحكومات الأرض في النِظام والديمقراطيّة الواعية الرّصِيْنة.