بعد قرنين أوروبا تودع عصر العقل!!..
المحامي/ عيـسى بن عـلي الغـساني
كاتب وباحث في علم الاجتماع القانوني
بعد قرنين أوروبا تودع عصر العقل !!..
انتقلت اوربا من العصور الوسطي وظلماتها الحالكة مع بدايات القرن السابع عشر الميلادي الى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ،وكان المحرك والقوة الدافعة لعصر العقل او التنوير هو أفكار مجموعة من المفكرين منهم دينيس، ديكارت، جان جاك روسو، فولتير ،جون لوك ، وتأسست جل النظريات سواء في العلوم الاجتماعية او الاقتصادية او العلمية مثل الفلك والكيمياء والفيزياء وغيرها على المنهج العلمي ، وكان الاختلال الاجتماعي والظلم الاجتماعي وكرامة الانسان واحترامه احد ركائز عصر العقل . واحدث عصر العقل تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية دفعت أوروبا الى مركز الصدارة في مختلف العلوم وزامن ذلك نمو وتطور اقتصادي ورفاة مادي منح اوربا القدرة الاقتصادية لتسيير والسيطرة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
لكن قوة أوروبا الدافعة والتي جوهرها قيم الحرية والعدالة والمساواة لكل البشر والتي سادت أوروبا لردح من الزمن منذ الثورة الفرنسية والتي عمادها العدالة والحرية والمساواة لكل البشر ، شهدت تراجعا بينا ، منذ بدء من نشوء الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1940 ، وتجلي تنامي أفكار اليمين المتطرف ونجاحها في ايقاد للحرب العالمية الثانية . الا أن هزيمة محور التطرف الفكري والعنصري للحرب اخمد الفكر اليميني المتطرف لبرهة.
ومع نهاية الألفية الثانية عاد اليمين المتطرف ليس الى الواجهة الثقافية والسياسية فقط بل واصل انتشاره الواسع الى الأحزاب والقادة ودعاة اليمين مندفعا الى مراكز القيادة والصدارة . كل ذلك يعطي مؤشرا بان القوة الجامعة للمجتمع والدولة في أوروبا انتقلت من الوسط الى اليمين .مما يعني نشؤ تنافر وصراع فكري واجتماعي وسياسي واقتصادي بين معتنقي فكر الاعتدال واحترام حقوق الانسان وبين انصار اللون الواحد والجنس الواحد وما عداهم يجب إقصاؤه أو تهميشه.
والعامل الثاني انحسار تجربة الاتحاد الأوربي ، إذ كما يذهب جانب أوروبي ، بأن الاتحاد الأوروبي مشروع ثقافي بقاطرة اقتصادية ، ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وتنامي المد الشعوبي بين دول الاتحاد الأوربي مؤشر على عجز قوة أوروبا الناعمة عن خلق توافق فكري ، وليس بجديد أن شعوباً أخرى مثل إيطاليا وفرنسا ينظرون إلى خروج بريطانيا بعين الاعتبار والتقدير ، ويتزامن تراجع الاقتصاد الأوروبي المعرفي مع فكر الخروج من الاتحاد الأوربي وعنصرة القوانين واستخدام القوة بمعزل عن سياق الاجماع الأوروبي.
حق المعرفة وكورونا..
العامل الثالث حق المعرفة والذي كان احد مفاخر أوروبا ، وقوامه بأن الإنسان يجب احترام إنسانيته وعقلة ومن الضروري أن تقدم الحقائق والمعرفة دون تحفظ أو إخلال ، وإذا كان حق المعرفة نُظِّم باتفاقيات منها اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية ، إلا أن أحداث جائحة كورونا ، شهدت تعتيما وتضاربا وتناقضا ، أخل بحق المعرفة إخلالا جسيما ، وغَيَّب الحقيقة بشأن الجائحة وصدرها وحقيقتها وعلاجها تغييبا جزئيا ، وفي أحيان أخري كليا ، ونتيجة لذلك كانت المظاهرات في مراكز التنوير بلندن وباريس واضحة وجلية ومعها يظهر التراجع أو النكوص عن التنوير جليا ، وأيا كان السبب في التعتيم فإن رحلة مغادرة عصر التنوير ربما تكون في منتصفها أو اقتربت من نهايتها.