مقالات وآراء

هـابِّـتِـنَّـه الكُـوس !!..

 

 

الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي

 

 

 

هـابِّـتِـنَّـه الكُـوس !!..

 

لدي صديق فقير وجميل من نيابة رأس الحد الهادئة الجميلة..

من أولئك الذين يقول عنهم البدو حين يعتزون بأخلاقهم : (هابِّـتِـنْـهُم كُـوس حَدْرا)..

بمعنى أنهم (كهبوب الكوس الندية) نفوسهم سخاء وقلوبهم رخاء وأرواحهم نقاء..

وعموما الغالبية العظمى من قاطني الساحل الشرقي من عمان “هابِّـتِـنْـهُم كُـوس حَدْرا”..

أولئك المكافحين الذين يستخرجون لقمة عيشهم بأصابعهم من بين أسنان البحر..

فهم على الرغم من بساطتهم، وشظف عيشهم، كرماء غاية الكرم .. تكسو سلوكهم النخوة وتجلل أفعالهم الشهامة..

شاب في الثالثة والثلاثين من العمر فقير جداً .. بل يكاد يكون معدماً..

تعرفت عليه صدفة ذات نهار .. فلفتت نظري رجولته، وملأت عيني شهامته ونخوته..

فأخذت رقم هاتفه .. وتبادلت معه الرسائل والنكات .. والضحكات .. والمكالمات..

زرته مرة في بيته .. فلم أجد معه بيتاً..

كان فقيرا معدما يسكن في بيت أهل زوجته، يتكدس هو وأطفاله الخمسة في غرفة صغيرة واحدة..

لا يعرف سوى البحر .. ويحاول جاهداً أن يوثق علاقته بالبحر، فهو مصدر رزقه الوحيد رغم يقينه التام بسرعة غدره وخيانته .. ولكن لا منفذ له من البحر بعد أن يئس تماماً من الحصول على أي وظيفة في أي شركة سمينة أو مؤسسة هزيلة..

يذهب صديقي إلى البحر ليصيد، ولكن البحر لم يعد كريماً مع هؤلاء الفقراء كسابق عهده..

البحر أصبح كريماً جداً مع أصحاب الملايين، وأصحاب الجرافات البحرية، ومصانع الأسماك الضخمة، وأصحاب أساطيل شاحنات تصدير الأسماك العابرة للقارات..

البحر يتعامل مع الصياد الفقير كما تتعامل معه الدولة .. بالكاد يعطيه لقمه يسد بها رمقه ورمق أطفاله وأحيانا كثيرة يحرمه منها ويجعله يتلوى ويتشقلب من الجوع..

حين ذهبت لزيارته أول مرة لم أكن أعلم بأنه لا يملك بيتاً .. لأنني حتى اللحظة لا أتصور أن هناك شاباً عمانياً عمره فوق الثلاثين عاما وليس لديه بيت يُؤْويه هو وأطفاله..

قال لي : تقدمت بطلب مساعدة إسكانية منذ 6 سنوات .. ولا جواب حتى اللحظة..

لا أعرف لماذا تتسبب وزارة الإسكان من حيث تدري أو لا تدري في تعذيب هؤلاء الفقراء، الذين ينتظرون سنوات طوال قد تتجاوز أحيانا العشر سنوات، لأجل الحصول على مساعدة سكنية بسيطة لبناء غرفتين وصالة ودورة مياه ومطبخ، أو للحصول على قطعة أرض..

صديقي الفقير هذا لا ينتمي لحزب “الكنبة” .. ولا علاقة له بحزب “الغنفة” .. وإنما هو عضو في حزب الجوع والبؤس والعوز والفاقة ..

كما إنه لا يعرف “الهوامير” التي تتوالد وتتكاثر في اليابسة، ولكنه صياد ماهر لتلك “الهوامير” التي تسكن في قاع البحر وباطنه..

هو من الفقراء المنسيّين الذين يعيشون خارج هامش الحياة وكأنهم لا أحد !!..

كم دولتنا بحاجة ماسة الآن لدعوات هؤلاء الفقراء .. كم دولتنا بحاجة ملحة في هذه اللحظة ليرفع هؤلاء المساكين أياديهم إلى السماء يدعون لدولتهم وحكومتهم بالخير الوفير، والنفط الغزير .. والذهب الكثير..

ربما لا تعلم الدولة بأن دعاء الفقراء مستجاب وليس بينه وبين الله حجاب .. وأنهم من أهم اسباب حلول الرخاء أو وقوع البلاء..

حين قرعت باب بيته احْمَرَّ وجهه خجلاً وحياءً مني، وقال لي : “إعذرني ليس معي مكان أستقبلك فيه”..

كدت أبكي من الألم .. وألطم وجهي من الخجل والندم .. فقد تسببت في جرحه وإيذائه نفسياً دون أن أقصد..

شاب بدون وظيفة .. وبدون مصدر رزق .. وبدون بيت، ولكنه مازال يضحك ويبتسم .. ويتحرك بين الناس كإنسان طبيعي .. ولكنه مسكون بالهمّ .. معجون بالألم !!..

أي جمال يحمله هؤلاء البسطاء في نفوسهم..

أي صبر يملكونه في صدورهم..

أي رِضاً وقناعة هم فيه..

يعيشون في أوطانهم فقراء غرباء..

يشبعون يوما .. ويجوعون شهرا..

وهناك من يقبض في الشهر 30 ألفاً دون وجه حق .. دون عطاء .. دون وفاء .. ودون جهد .. ودون إنتاج .. ودون أن يقدم لوطنه مقابلاً لهذا الراتب الفلكي..

وهناك من وظيفته هي مجرد الجلوس على “الكنبات” والحلوى والمكسرات وقبض آلاف الريالات !!..

أخذني صديقي الفقير إلى أحد المطاعم عندهم، وأكرمني أيّما إكرام،  وأنا أعلم بأنه لا يحمل في جيبه ريالاً واحداً !!..

وحين نهض ليغسل يديه سمعته يهمس في أذن مسؤول المطعم، ويقول له : (سجّل المبلغ في حسابي)، ثم سحبني بعدها من يدي قبل أن أدخلها في جيبي..

لم ينتهي كرمه عند هذا الحد .. بل أجبرني بقَسَمٍ غليظ على المكوث معه حتى العشاء .. وفي العشاء شجون وفنون ..

إتصل من وراء أذني بأحد أصدقائه الأقل فقراً منه بدرجة .. ورتّب معه في بيته البسيط وجبة عشاء توسطها خروف كامل ..

ما أكرم وأسعد وأغنى فقراءنا .. وما أبخل وأتعس وأفقر أغنياءنا ..

وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال : (اللهم احشرني في زمرة المساكين) .. إنهم أصحاب القلوب الزكية .. والأرواح النقية .. إنهم بركة المجتمعات .. وعافية الأوطان..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى