بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

بين الطبيب والطبيبة فوارق شتى..

عـبـدالله الفـارسـي

 

بين الطبيب والطبيبة فوارق شتى..

 

(خدمات الرعاية الصحية الأولية لدينا تعتبر من أجود الخدمات الطبية في الشرق الأوسط…)..

_ رئيس اللجنة الصحية بمجلس الشورى

*****

قبل أشهر تورطت واشتريت علبة لون لصبغ الشعر ..

وبرغم حذري الشديد في هذه الأمور وحرصي على شراء النوعية الممتازة والخالية من الأمونيا المسببة للحساسية ..

إلا أنني للأسف وقعت في المحظور.

قررت صبغ لحيتي فقط والتي بدأ يغزوها البياض ..

حقيقة لا أعلم ما الذي دهاني إلى فعل ذلك رغم عدم اكتراثي بالشعر الأبيض الهاجم ، ولا حتى بالعمر الراكض الطائر.

غالباً لا يهمني كثيراً اللون الأبيض ، ولا يهمني كم سأعيش ، ولا ألتفت إلى اقتحام  الشيب شعر لحيتي وهجومه على رأسي.

 ولكن استطاع إبليسي أن يضحك علي ، وقال لي : (قليلاً من السواد على ذقنك قد يرفع من جمالك ، ويشعل نشاطك ، ويلهب حماسك ، ويفتح شهيتك للحياة).

وفعلاً استطاع إقناعي بذلك.

.. هذا ليس هو المقصد من مقالي.

المهم لقد صبغت لحيتي وأشعرني اللون الأسود بالزَّهْو والشباب ، واقتحمني النشاط  والحماس ، ولكن للأسف لم يطل ذلك الشعور فقد بدأت الحكة تدغدغني وتعبث بذقني.

أصابتني حساسية سريعة في ذقني ، وبدأت المنطقة السفلى من وجهي تلتهب وتنتفخ.

فذهبت أركض إلى المستشفى رغم علمي بحقيقة المستشفى وواقعه المرير؛ إلا أنني ارتكبت ذات الحماقة التي ارتكبها دائماً .. وذهبت إليه بقدمي.

دخلت أولاً على طبيب عام فنظر  إليّ نظرة سريعة ، وكتب لي مرهماً وحبوباً ضد الحساسية.

قلت له : ألا أحتاج إلى تحويل لطبيب الجلدية لعله أدرى بالجلد وحساسيته ؟؟.

فقال لي :  لا  لا .. حالتك بسيطة وشائعة.

فخرجت فَرِحاً مسروراً بمرهمي وحبوبي وحالتي الشائعة.

في المنزل دهنت موضع الالتهاب وتناولت حبة واحدة من تلك الحبوب التي وصفها لي الطبيب العام الموقر.

لم أنم في ليلتي تلك من حساسية الهرش والحكة.

فظللت انتظر الصباح كحارس أمن مريض ينتظر نهاية مناوبته وحضور زميله ليمسك الحراسة بدلاً منه.

طوال الليل وذقني يؤلمني وتنتابني رغبة شديدة وعنيفة للهرش والحكة بسبب شدة الحساسية ولكنني تحكمت في زمام أصابعي وسيطرت عليها حتى لا أقوم بنتف شعر لحيتي وتمزيق جلدي.

تأخرت الشمس في الشروق في ذلك الصباح وكأنها تتعمد ذلك  فصرخت عليها : هيا أرجوك اشرقي أيتها الشمس الحبيبة ؛ فأشرقت الشمس وسحبت جثتي ولحيتي إلى المستشفى الحكومي الموقر.

*****

طلبت تحويلاً عاجلاً إلى عيادة الجلد فحولوني بصعوبة !!.

جلست في عيادة الأمراض الجلدية منتظراً الطبيب الموقر.

دخلت على الطبيب المختص بأمراض الجلد وأنا معبأ بالفخر والاعتزاز بوجود قسم اختصاصي بالمستشفى وبه أكثر من طبيب.

نظر إليّ الطبيب نظرة سريعة أسرع من نظرة الطبيب العام..  ولم يسألني كيف حدث ؟؟ وكم ؟؟ ومتى ؟؟!!.

ولم يستعن بأي شيء من أدواته ليفحصني ويرى طبيعة وشكل الالتهاب ولونه وحجمه!!.

فأخبرته بأن زميله كتب لي المرهم الفلاني.

فقال لي توقف عن استخدامه وسأكتب لك مرهمين آخرين أفضل من المرهم السابق.

فأبهجتني كلماته وأسعدتني ثقته ونبرة صوته.

ركبت سيارتي مبتهجاً مسروراً بمراهمي وخرجت من المستشفى لممارسة تعاستي.

*****

وفي البيت غسلت يدي جيدا وأحضرت المرهمين فسكبت من كلّ منهما جزء يسيرا ، وبدأت في مزجهما بخفة ورشاقة.

وضعت المرهم على ذقني ودهنت منطقة الالتهاب وتركته طوال الظهيرة حتى صلاة  العصر.

لم أشعر بأي تحسن في موضع الالتهاب ، ولم ينخفض انتفاخ الذقن ولا معدل التَّحسُّس.

فقلت لنفسي لعلّ الجرعة الثانية ستكون هي الشافية.

جاء الليل وأظلم الكون وهدأت الكائنات ونامت البهائم والطيور والساحرات..  فأحضرت مراهمي وسكبت من كلٍّ منهما جزءاً يسيراً ومزجتهما مزجاً لطيفاً رقيقاً .. ودهنت موضع الالتهاب.

لم أشعر طوال الليل بأي تحسن في ذقني بل زادت أعراض الحكة وتشنَّج فكي السفلي بالكامل.

فتحت التلفاز وجلست أنتظر الصبح حتى تنفس.

ذهبت إلى مدرستي وأنا مكمم الوجه لم أستطع أن أرِيَ الآخرين ذقني المنتفخ الملتهب فكانت الكمامة منقذة لي من التطفل والتعاطف والنصائح والتشدقات الطبية في ذلك الصباح.

في منتصف النهار خرجت من المدرسة وتوجهت إلى إحدى العيادات الخاصة المعروفة في المدينة.

فتحت زيارة ودخلت على طبيبة هندية لا يتجاوز عمرها الخامسة والثلاثين.

عرضت عليها ذقني الملتهب ووجهي المنتفخ !!.

فأخذت تتفحص موضع الورم وطبيعة الالتهاب ، وأحضرت كشّافاً ومرآة مقربة لتتأكد من طبيعة الالتهاب ونوعه.

ثم سألتني عن كمية الصبغ الذي وضعته ، وكم مقدار الوقت الذي تركته قبل غسله ؟؟.

ثم قالت لي : نصيحة احفظها إلى الأبد لا تستخدم أي لون أو أصباغ لشعرك إطلاقا فكل الأصباغ كيماوية وجلدك يرفضها تماما فجلدك حساس جداً اتجاه أي مادة كيماوية.

فقلت لها : يا إلهي .. جلدي حساس ، وقلبي حساس .. ما أتعسني !!.

فضحكت الطبيبة ضحكة جميلة عذبة فأضفت ضحكتها شيئا من المرح على صباحي التَّعِس.

وصفت لي الطبيبة مرهمين مختلفين تماماً عن تلك المراهم التي وصفها لي الطبيب العظيم المتخصص في الأمراض الجلدية بالمستشفى التابع والخاضع لوزارة الصحة العظيمة الموقرة ، وطلبت مني استخدامهما لثلاثة أيام فقط  ، وقالت لي إذا لم ينخفض الالتهاب ويختفي الورم خلال يومين فيجب الرجوع  إليها مباشرة.

والحمد لله استخدمت المرهمين مرتين فقط في ظهيرة ذلك ، وفي المساء قبل نومي ونهضت في اليوم التالي معافا وقد اختفى جزء كبير من  الورم ، وزال التشنُّج والالتهاب من النصف السفلي من وجهي.

*****

أنا هنا لا أتحدث عن رداءة الخدمات الصحية معنا لأن هناك أموراً أكثر رداءة وكارثية تحدث في القطاع الصحي ، والكثير منا  إما عايشها أو قرأها أو سمعها .. وتعبت الأقلام والأصابع من تسطيرها.

الموقف الذي حدث معي يُبيِّن الفرق الشاسع بين طبيب يحمل إحساساً طبِّياً ووازعاً داخلياً ، ويمتلك مهارة طبيّة ، وبين طبيب لا يملك إحساساً طبِّياً ، ولا يمتلك المهارة الطبية.

بل الغريب في الأمر أنني سألت عن راتب الطبيبة الهندية الماهرة المخلصة فقالوا لي إنها تقبض 500 ريال في الشهر ..  بينما ذلك الطبيب الاختصاصي في المستشفى الحكومي راتبه يتجاوز الألفي ريال .. وشتان بين الراتبين.

وحقيقة نتمنى له الزيادة والارتفاع ؛ لكن نرجو  أن يصاحب تلك الزيادة المهارة والإخلاص ، وأن يرافق ذلك الارتفاع الحب والتفاني والإتقان.

وهذا لا يعني مطلقاً التعميم في القصور والفتور هناك أطباء في مستشفياتنا غاية في دماثة الخلق ويقظة الضمير وفي المهارة العملية والعلمية تجمعنا بهم الصدفة متباعدة ، ونسمع عن بعضهم أخباراً مبهجة ومفرحة.

*****

هنا نتيجتان استخلصتهما من تجربتي هذه..

الأولى

أن الطبيب في العيادة الخاصة غالباً ما يقابلك بأدب واحترام واكتراث 

، ويلتفت إليك يسألك عدة أسئلة حول ما تعانيه.

يمد يده ويأخذ مرآة مكبرة ومصباحاً ، ويفحص منطقة الالتهاب أو مكان الألم.

فهذا التهاب في الجلد.

والالتهابات أنواع وأشكال مثل الأطباء والطيور والزهور.

بينما الطبيب الحكومي الموقر التابع لوزارة الصحة الموقرة لم يتحرك من مقعده ، ولا يكشف لك شيئاً من مهاراته العظيمة ، ولا يقول لك شيئاً من أقواله المأثورة!!.

الثانية :

المراهم التي صرفها لي الطبيب الحكومي الموقر.

نوعين : الأول صناعة عربية رديئة ، والثاني صناعة خليجية أكثر رداءة 

سعر الأول ريال ونصف ، وسعر  الثاني ريال و 300 بيسة.

بينما سعر المرهمين اللذين صرفتهما لي الطبيبة في العيادة الخاصة 

الأول : صناعة أوروبية وقيمته ريالين فقط ، والثاني أيضاً صناعة أوروبية قيمته 4 ريالات ونصف.

فأسعار الأدوية متقاربة جداً.

هل فهمتم قصدي ؟.

المقصد أننا بحاجة إلى شيئين رئيسيَّيْن في قطاعنا الصحي

نحتاج إلى أطباء محترمين قبل أن يكونوا ماهرين..  أطباء يعرفون كيف يتعاملون مع المرض ومع المريض.

وأيضا نحتاج الى أدوية جيدة تستورد من دول متقدمة طبِّياً تتقن صناعة الأدوية وتتميز في جودة العقاقير.

أما عن القصيدة التي نسمعها دائماً وهي دعم شركات الأدوية العمانية الرديئة ؛ فأقول إما أن نسمح بإنشاء مصانع أدوية محترمة شبيهة تماما بالأدوية الأوربية ومطابقة لمواصفاتها العالمية ، أو نقفل تلك المصانع ونحولها مطاحن دقيق ونتوقف عن صناعة أدوية رديئة لا جدوى منها ونملأ بها صيدلياتنا ومستشفياتنا ونتسبب في زيادة أمراض الناس وأوجاعهم..

وأعتقد بأن سلطان البلاد حفظه الله أكد في اجتماعه الأخير قبل أسابيع  مع المشايخ وأعيان الولايات بأن الصحة أولوية قصوى ، وأن الرعاية الصحية هي ركيزة من ركائز النهضة العمانية ، وهي غاية في حد ذاتها  لأجل إعداد جيل صحيح وسليم ومعافى ، وهي من أهم غايات رؤية عمان 2040.

فلا يمكن أن ننهض ونتقدم خطوة إلى الأمام في أي مجال ونحن نبخل عن تقديم خدمة طبية وعلاجية محترمة للناس .. نبخل عن استيراد أدوية محترمة لهم ، والتي لا يتجاوز الفارق في السعر بينها وبين الأدوية الرديئة سوى مبلغ زهيد لا يكاد يذكر.

أنظر حولك الآن .. الجميع يهرب الى العيادات الخاصة الفقراء قبل الأغنياء لأنهم يبحثون عن اهتمام ورعاية وتشخيص سليم وصحيح ، وعلاج ناجع وجيد.

الجميع يهرب من أدوية المستشفيات الرديئة السيئة والأغلبية تهرب من المعاملة الطبية السيئة.

لذا نرجو من وزارة الصحة العظيمة الموقرة متابعة أطبائها وإعطائهم دورات تخصصية مكثفة في مجالات تخصصهم ودورات نفسية واجتماعية متكررة في كيفية التعامل مع المرضى ومع الأمراض.

وأيضا نتمنى من وزارة الصحة الموقرة مراجعة عقود توريد الأدوية ، وفرز الغث من السمين منها ، وإيقاف التعاقد مع شركات الأدوية الرديئة والبحث عن الأدوية الأفضل والأجود عالمياً.

*****

النداء الأخير لوزارة الصحة الموقرة :

نريد ونرغب ونتمنى أن تتمتع أجيالنا الحالية المنهكة ، والاجيال القادمة البائسة بخدمة صحية رفيعة لأجل صحة جيدة طويلة الأمد حتى يتمكنوا من مقاومة هذا الواقع  الحياتي المزري والصمود في وجه هذا  الحاضر  المعيشي المتردي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى