معزوفة السلطان .. ذوقٌ راقٍ وإحساس جميل..
حـمـد النـاصـري
معزوفة السلطان .. ذوقٌ راقٍ وإحساس جميل..
للموسيقى الكلاسيكية بأشكال آلاتها الموسيقية ، وأساليبها الغنائية عُشّاق وذَوّاقة يطربهم ويريحهم سماع نغماتها وهي بالعموم تروق وتعجب الأغلبية من البشر ولكنها ذات طعم آخر لدى عشاقها
؛ فمثلا في الأوبرا يغني أكثر من صوت مُنفرد (سولو) أو مغنون منفردون، وتظهر خلف المغني حركات مسرحية تضاهي سير كلام المغني ، والموسيقى الكلاسيكية ، هي الفن الموسيقي الذي له جذور ممتدة من القرن الحادي العشر حتى العصر الحالي.
وتعتبر ألحان الموسيقى الإيطالية لـ جوسيب تارنتي Giuseppe Tartini المولود في 8 أبريل 1692 إلى 26 فبراير 1770 من أجمل وأرقى الموسيقى الأوربية ، فجوسيب ملحن موسيقي وعازف كمان إيطالي ، بدأ دراسته الموسيقية وهو في سن السادسة والعشرين ، وقد سُمّي عصره الموسيقي بعصر الباروك، وعُرف تارنتي كأشهر عازف من معزوفته التي استلهمها، حينما كان نائماً ، حلم بأنه يعزف بالكمان عند قدميه .. واشتهرتْ تلك المعزوفة بهزّة الشيطان وعزفها جوسيب تارنتي بقالب السوناتا؛ ويحتوي قالب السوناتا على إبداع فني بثلاثة أقسام رئيسية، العرض / التفاعل / المرجع.
ويُعتبر عصر الباروك من العصور الزاخرة بالتطور الموسيقي والاستحداث الجديد المتطور في الموسيقى الغربية ، فعصر الباروك هو ذلك الشكل الغريب ، غير المُتناسق والمِعْوَج في مقطوعته .. حتى أن فن العمارة والتصوير أَخَذَ منه تلك الاستحداثات والتجديد في الأشكال الغريبة المِعْوَجَّة وغير المتناسقة.
وترجع تلك التحولات إلى منتصف القرن السادس عشر الذي شهد تحولات مضطردة ، وتغييرات جذرية في الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاختراعات التكنيكية والميكانيكية الجديدة والاكتشافات الجغرافية ، مما أسفر عنه تأثيرات عميقة في عقلية شعوب أوروبا بشكل خاص ، ويمتد عصر الباروك من سنة 1550 إلى سنة 1700.
وقد تعرّف العمانيون على تلك المقطوعات الموسيقية من خلال مقطوعة الموسيقى الكلاسيكية التي كان يُحبها المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه وترافق كافة المقاطع المرئية (الفيديوهات) التي كانت تصور زياراته ولقاءاته الداخلية والخارجية عند عرضها على شاشة التلفزيون العماني.
وكان لجلالة السلطان قابوس رحمه الله ذوق رفيع وراقٍ في اختيار الموسيقى ، وحتى في اختياره لأشكال وألوان الساحات العامة والحدائق المحيطة بالشوارع.
ودلالة على ذلك الاهتمام وعشق جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه للموسيقى الكلاسيكية الراقية ، وحيث أنه ومنذ صغره كان يحلم بتأسيس دار أوبرا عمانية تليق بالسلطنة ومستواها الثقافي والحضاري وتكون صرحاً حضارياً للأجيال ، وقد تحققت بدايات ذلك الحلم عام 1985 حين تم تأسيس فرقة أوركسترا عمانية بسيمفونيتها السلطانية ، وقد تولّدت فكرتها بإلهام من جلالة السلطان قابوس التزم بحسّهِ الموسيقي وانطلق بإيمان الموهوبين العمانيّين نحو خدمة شعبهم ، فأوفوا بوعدهم بالارتقاء بالموسيقى العمانية من خلال فرقة الأوركسترا الوطنية إلى مستويات عالمية نالت إعجاب واستحسان كل من شاهدوها وسمعوها.
وفي ذلك العام 1985 أبصرتْ الرؤية القابوسية بميلاد الأوركسترا السيمفونية السلطانية النور بإشراف مباشر من لدن جلالة السلطان الراحل طيب الله ثراه ؛ فحرص على إكساب الموهوبين بالقدرات الأساسية للموسيقى التقليدية العمانية كاللحن والإيقاع والإنسجام والأداء الموسيقي الرفيع.
وفي يوليو 1987 أحْيَتْ الأوركسترا السيمفونية السلطانية حفلاً موسيقياً حضره جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه، وحضور نُخبة من المهتمين وكبار رجالات الدولة والسفراء المعتمدين في السلطنة ، وفي برلين قدمت الأوركسترا السلطانية بقيادة المايسترو البريطاني سايمون رايت ، كما قدمت العديد من قطع معزوفاتها الرائعة في اكثر من بلد كبلجيكا وألمانيا وفرنسا .. ونالت إعجاب رواد القاعات والمسارح والمُتخصّصين ومتذوّقي فن الموسيقى الكلاسيكية.
وقد غطت الأوركسترا العمانية بحفلاتها مُعظم دول أوروبا ، وأقامتْ جسراً بين الشرق والغرب؛ بصحبة عازف الكمان لاكشيمينا رايانا سوبرامانيام وعازف العود والكمان اللبناني مارسيل خليفة.
ومن الجدير بالإشارة هو ظهور عازفات عُمانيات انضممنَ إلى فرقة الأوركسترا ، والتزمنَ بالزِّي التقليدي المحلي ، واشتهرنَ على الصعيد العالمي بأدائهن وحسِّهن الموسيقي العماني النقي ، وتميّزن بملابسهن التقليدية بلونيه الأحمر والأخضر اللذين يرمزان إلى لوني العلم العماني ، وازدانت حفلاتهن بهجة ونظارة وهنّ يضعن الذهب على جبينهن إشارة إلى زينة المرأة العمانية الزاخر بعبق الحضارة والتاريخ ، فازداد مظهرهن رونقاً ، كلما كان الأداء الموسيقي يصدح بين جنبات القاعات والمسارح العالمية ، وقدمنَ مقطوعاتهن المُبهرة بأداءٍ راقٍ ومحترفٍ ممزوجٍ باللحن التقليدي العماني وبلمسات من موسيقية لكبار الموسيقيّين المشهورين كأمثال الإيطالي جوسيب تارتنيني.
ويعتقد علماء الموسيقى وخُبراؤها أن كلمة موسيقى يونانية الأصل وتعني الفنون قديماً ؛ لكن حين تقدمت وتطورت سُمِّيَت أو أطلق عليها بلغة الألحان.
إن الاهتمام بالموسيقى التقليدية ورسوخها تأتي من الحس الطبيعي المرهف للموسيقى فتظهر علامات ودلائل تتناغم مع بعضها لتكوّن لنا مهارة موسيقية وعزف مُلهم يسمو إلى مستوى رسوخ تلك المهارة العالية ؛ ثم يمكن ان يرتقي إلى مؤلف للسوناتات والكونشرتات ، عُرِف هذا التداخل مع أركانجلو كوريللي Arcangelo Corelli عازف إيطالي عاش بين عامي (1653 – 1713م) واشتُهِرَ بتأليف السوناتا الكنسية او الكنائسية.
إن الموسيقى في كل العالم جزء من تراث وتاريخ الشعوب منذ اختراع أول ألة موسيقية في سومر وأول أغنية ، وعمان ليست استثناء ؛ فقد رافق تطور التراث الموسيقي والفولكلوري جميع مراحل التغيير والتطور التاريخية للسلطنة ، وكان هناك دوما تقاليد ونغمات خاصة لكافة المناسبات من زواج وأفراح وحتى طبول الحرب والحماس للقتال كانت جزءاً من تلك الموسيقى العريقة على مر العصور.