بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حماية العامل هدف اجتماعي وغاية تشريعية .. الجزء (2)..

الدكتور/ سعيد بن عبدالله المعشري

محام ومسـتـشار قانـوني

 

حماية العامل هدف اجتماعي وغاية تشريعية .. الجزء (2)..

إن منظمة العمل الدولية (ILO International Labour Organization) لعبت وتلعب دورا بارزا على المستوى العالمي في تحديد المعايير والأسس التي تقضي بإلزامية توفير الحماية اللازمة للعامل.

وقد تبلورت فكرة تأسيس هذه المنظمة بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1919م لما أسفر عنها من نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية، وتعد هذه المنظمة من الوكالات التابعة للأمم المتحدة مهمتها تعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية؛ من خلال وضع معايير العمل الدولية، وهي تمثل اليوم أحد الركائز الأساسية في إحلال السلام والعدل الدائم من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية، وكذلك السعي إلى إرساء معايير تحديد أجر وساعات العمل وإقرار السياسات المتعلقة بالأمن والسلامة المهنية.

وبذلك تكفلت هذه المنظمة بالسعي إلى توفير الحد الأدنى لمبادئ الضمان الاجتماعي للعمال مواكبة للتطورات الصناعية والتكنولوجية وازدهار الحركة العمالية على المستوى الدولي، التي دعت الحاجة إلى حماية العامل مما ينشأ عن هذه التطورات من مخاطر كثيرة تؤدي إلى إصابات عديدة للعامل أثناء العمل، الذي استدعى منظمة الأمم المتحدة(UN) الى تبنى التوجه بإنشاء المنظمة لتكون رعاية لحقوق العمال نحو إيجاد ضمانات إضافية تحميهم من أصحاب الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال خاصة في ظل ظهور الشركات المتعدية الجنسيات (Multinational Corporations-MC)، وبالتزامن مع تطور أحكام تعويض العامل المصاب على المستوى العالمي، وما فرضه القانون الدولي على الدول والمنظمات الدولية، سعت الدول العربية إلى إيجاد منظومة عمل موحدة تتوافق مع اتفاقية العمل الدولية وتلبي خصوصية وطبيعة المجتمع العربي، وبذلك اتفقت على تأسيس منظمة العمل العربية ( (Arab Labor Organization-ALO في عام 1965م تحت مظلة جامعة الدول العربية (والتي للأسف لم تحقق أدنى الأهداف والغايات التي أنشئت من أجلها).

ومن ذلك يتضح أن العامل حظي بالحماية على المستوى المحلي والدولي مع بداية ظهور وازدياد المخاطر المهنية على العامل تزامناً مع ظهور الصناعات الحديثة الكبرى التي أدت إلى بناء المصانع الضخمة في ظل تفاقم الإصابات بين العمال بها، وخاصة بالدول الصناعية المتقدمة، التي مرت على أسوأ حروب طاحنة عرفتها البشرية التي تولد عنها التنافس الكبير فيما بينها سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، مما استدعى الأمر لديها إلى إقامة الصناعات الضخمة اعتقادا منها أن من يملك أعتى المعدات والآلات والأسلحة هو المنتصر في المعركة العسكرية والسياسية والاقتصادية، جعل من ذلك أهمية إقامة المصانع الضخمة بها التي كان العامل محركها نظراً للتكنلوجيا المستخدمة بها كانت في بدايتها تعتمد اعتمادا كليا على الانسان.

ومنذ ذلك بدأ ظهور فكرة أهمية توفير الحماية الاجتماعية للعامل مما ساعد على ظهور ما يعرف اليوم بالتامين الاجتماعي، والذي كانت غايته تحقيق الحافز للإنسان بالعمل في المصانع الحديثة مرتفعة المخاطر، من خلال إيجاد نظام يضمن له التعويض المناسب له ولأسرته في حياته ومماته، ومنها تبلورت هذه الفكرة كمنظومة حماية اجتماعية تبنتها العديد من الدول بعد انتهاء الحربين العالمتين الأولى والثانية، مما حظى هذا الجانب باهتمام بالغ على المستوى الدولي، والذي تمخض عنه إبرام العديد من الاتفاقيات والتوصيات برعاية منظمة العمل الدولي وخاصة في ظل ظهور الإعلانات الدولية لحقوق الانسان.

وفي حقيقة الأمر إن ظهور مصطلح التأمينات الاجتماعية بالمعنى الفني كان في بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر بالقانون الألماني الذي يعد أول نظام متكامل للتأمينات الاجتماعية، والذي يشار إليه بتشريعات “بسمارك” أو “التشريعات البسماركية”، وكذلك تبنت فرنسا قانون التأمين الاجتماعي بعد الحرب العالمية الأولى عندما استعادت الالزاس واللورين اللتين كانتا خاضعتين تحت الاحتلال الألماني التي يطبق فيها قانون التأمين الاجتماعي، وقد صدرت في المانيا ثلاثة قوانين في هذا الصدد، قانون التأمين من المرض الذي صدر في 5/6/1883م، وقانون التأمين من إصابات العمل الذي صدر في 6/7/1884م، وقانون التأمين من العجز والشيخوخة الذي صدر في 23/6/1886، ومثلت هذه القوانين انطلاقة لنظم التأمينات الاجتماعية في أوروبا.

ومن منطلق ذلك كانت بداية ثورة إرساء قواعد تشريعية بشأن تعويض إصابات العمل (مع بداية ظهور الصناعات الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر) كأحد سبل توفير الحماية اللازمة للعامل، وقد واجه العامل في بداية تطبيق هذه القواعد الصعوبة في إثبات مسؤولية صاحب العمل عن إصابته، وما كان للفقه والقضاء إلا أن لعب الدور في سبيل التخفيف على العامل من عبء إثبات مسئولية رب العمل، وفي المقابل للتقليل من وطء ما يتحمله أصحاب الأعمال من دفع تعويضات باهظة وفقاً للقواعد العامة، والتي تقوم على ثلاثة أركان هي الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما، إلى أن تبدلت المسؤولية عن إصابة العمل لتتأسس على تبعية المخاطر المهنية التي تقع على العامل أثناء وبسبب العمل دون أن يتحمل عبء إثباتها بل يكفي وقوع الإصابة أثناء أو بسبب العمل لتكون المسؤولية عن إصابة العامل مفترضة على صاحب العمل، وحيث أتى هذا التحول بعد صدور قرار مجلس الدولة الفرنسي المشهور في قضية (Cames) في الحادي والعشرين من يونيو عام 1895م الذي أقر فيه أن مسئولية رب العمل مفترضة على أساس مخاطر العمل دون أن يتكلف العامل بأثبات خطأ رب العمل، فأعقب هذا الحكم إصدار المشرع الفرنسي قانون في 09 إبريل 1898م، وتحقيقا لرغبة أصحاب الأعمال في سبيل قبولهم في تغيير أساس مسؤوليتهم عن إصابة العمل تم إقرار التعويض الجزافي المحدد مسبقاً في القانون بدلاً من التعويض الكامل. وبهذا فأن للحديث بقية في الجزء التالي من هذا المقال.

المـراجـع :

– د. حسام الدين الأهواني، قانون التأمين الاجتماعي، دار النهضة العربية، 1993م.

– د. سعيد بن عبدالله المعشري، تعويض العامل المصاب في القانون العماني، دار الجامعة الجديدة، الطبعة الأولى.

– د. حسام الدين الأهواني، و د. رمزي فريد مبروك، الوسيط في قانون العمل لدولة الإمارات العربية المتحدة، القسم الثاني، علاقات العمل الفردية، مطبوعات جامعة الإمارات العربية المتحدة، عام 1421هـ-2000م.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى