لـمـاذا نـكـتـب ؟..
شـيـخـة الـمـحـروقـيـة
لـمـاذا نـكـتـب ؟..
تتعاقب أجيال من الكتّاب والأدباء ومع كل جيل يتكرر ذاك السؤال الفلسفي لينبش في داخل النفس الإنسانية ويبحث عن سبب إقدامها على بعض الأفعال ومنها فعل الكتابة.. فيا ترى.. لماذا نكتب؟
معظم الإجابات التي قرأتها للكتّاب المتحققين والموهوبين والمغمورين والممتهنين تنحصر في إجابة واحدة: إن الكتابة تحرر وتطّهر؛ فمن ماذا يتحرر الكاتب؟ من مخاض كلمات وعبارات كبرت في رحم دماغه؟ من آراء وأفكار لا بد أن تُسمع؟ أم من عواطف جيّاشة تعتمل بداخله على وشك الغليان؟
لفت انتباهي ما قالته آني إرنو – الحائزة على جائزة نوبل للآداب 2022- في فلسفتها حول الكتابة، حيث تقول أنه إن كان ثمة تحرر عبر الكتابة فهو ليس في الكتابة ذاتها بل في المشاركة مع أناسٍ مجهولين في تجربة مشتركة، وهذا ما جعلني أتساءل عن سر الرغبة الجامحة لدى الكتّاب لمشاركة الآخرين كلّ ما يكتبونه قبل أن يسألوا أنفسهم هل يستحق النشر؟ وماذا سيستفيد الناس من قراءة كتاباتهم؟ هل يقدمون قيمة فكرية أو أخلاقية أو معرفية مضافة للمجتمع أم أنهم يبحثون عن قيمة وجودية بين المجتمع؟
من خلال قراءاتي واطلاعي على العديد من الكتابات وجدت أن الشريحة الأكبر من الكتّاب تميل إلى سرد القصص الحياتية أو التجارب الشخصية والذكريات والانعكاسات العاطفية للأشياء ووقع الأحداث على النفس، فما جدوى هذا النوع من الكتابات؟ إلى أي مدى قد يكترث القارئ بآلام كاتب وجروحه وحتى لحظاته السعيدة والجميلة؟ هل يستمتع القارىء بالاستماع بصريًا إلى فضفضة صديق يعرفه اسمًا وصورةً ويجهله حياةً وواقعًا؟ هل يشعر بأنه يرتبط بعلاقة مميزة عندما يقوم أحدهم بإدخاله في عوالمه الخاصة؟ وهل فعلاً ما يمر به الكاتب يتقاطع مع تجارب الناس اللذين عجزوا عن التعبير بذات القدرة والأساليب التي يستطيعها؟ وهل مهمّة الكتابة توفير المتعة وإشباع الاحتياجات الاجتماعية؟ و طالما أن الكاتب يتحدث في غالب الوقت عن حالته الشعورية الخاصة متمسكًا بحق الانتفاع من مركز الكون ليلتفت العالم إلى ذاك التجلّي المتفرّد الذي يعيشه مع نفسه أو أحبابه، ألا يُعمّق الكاتب بذلك الفجوة بينه وبين وعموم الناس عبر هذه الفردانية المحضة؟ هذه أسئلة تراودني كلّما قرأت عملاً إنشائيًا يخاطب العواطف فقط ولا أجد فيه سوى بعض السلوان والمتعة اللحظية، وعندما أفرغ منه يتساءل عقلي: وماذا بعد؟
في المقابل هناك شريحة لا تكاد تُذكر من الكتّاب الذين يعكفون على التأمّل في مجريات الحياة من حولهم ويبذلون الجهد الجهيد في التحليل والتفسير والبحث عن المنطق في كل أمر، يغوصون في أعماق النفس الإنسانية لسبر أغوارها وكشف الأسباب والدوافع وراء سلوكها ليساعدوا القرّاء على فهم أنفسهم، يستشرفون المستقبل من بعض التفاصيل الصغيرة، يستشعرون المتغيّرات ويحذّرون مجتمعاتهم منها، يضيئون الجانب المظلم من كل أمر، يستدلّون بالأدلة الدامغة ويستعرضون المعلومات الوافية لإثبات صحة نظرياتهم، يتعرّض القارئ وهو يقرأ كلماتهم لموجة قاسية من اللكمات، لتكون ردّة فعله مع كل كلمة: “أووووه.. آاااهاااا.. وااااو.. لم أكن أرى الأمور هكذا!!!” ورغم جمال اللحظة وروعة التجلّي في هكذا كتابات إلا أن الكاتب التقدّمي لا يجد نفسه مندمجًا مع بقية الكتّاب على اختلاف خطوطهم؛ فهو يكتب وفق معايير محددة ومبادئ عالية يرفض المساومة عليها، يكرّس قلمه من أجل الفكرة والرسالة فينتهج اللغة الواضحة المباشرة والمؤثرة لإيصالها، كما أن شعبيته محدودة ربما لأن قدرته على الوصول إلى الأعماق واستخلاص العناصر المفيدة لبناء الأفكار التقدّمية تُعتبر تحديًا للعقول التي استرخت بفضل التحليق في فضاءات المشاعر والأحاسيس، كما أن الكثير لا يستطيعون رؤية ما يراه لذلك فهم لا يستشعرون أهمية أفكاره وكتاباته.
وبين هاتين الشريحتين يتنوّع الكُتّاب، فهناك من يكتب لأجل الكتابة فقط لا مبتدأ و لا خبر في نصوصه، وهناك كاتب غاضب حانق ينتهج الأسلوب العنيف في إيصال رأيه وكلمته معتقدًا أنه السبيل الأفضل للتأثير وتحقيق الغاية؛ وهذا النوع من الكتاب قد يثير الإعجاب ويحقق بعض الانتصارات وتنتشر كتاباته على نطاق واسع إلا أن بريقه لا يلبث أن يخفت فيعود إلى الطرقات المظلمة ويعيش في غيابت النسيان؛ فهو ينتهج النقد اللاذع لكل سلوك وحدث ويسقط بكلماته كلَّ قائمٍ أرضًا، يرسم أهدافه اعتمادًا على أخطاء الآخرين.
وهناك الكاتب معدوم الفكر والعاطفة الذي ينتهج الأسلوب الميكافيلي حيث يكون قلمه وسيلة لتحقيق غاياته الشخصية؛ فبضع كليمات كفيلة بإيصاله إلى منصات التتويج والشهرة والمال؛ فتراه يستخدم المصطلحات الرنّانة ويقتبس كثيرًا من قراءاته المتنوّعة ويشير في كتاباته إلى شخصيات معروفة في عالم الثقافة والأدب والكتابة وأحيانًا السياسة، يسحر القارئ بكتاباته دون فائدة أو نتيجة محققة، يأخذه في رحلة دون وجهة محددة ليعيده منها بخفيّ حنين. هذا النوع من الكتّاب يرتزق على قضايا اللحظة ويبحث عن “الترندات” ليخوض فيها مع الخائضين ولكن بلغته المنمّقة التي توحي للناس بإنه مثقف!
لماذا نكتب؟ وعمّا نكتب؟ وكيف نكتب؟ هي أسئلة تحكمها وتجيب عليها غاية الكاتب من الكتابة، فإن أراد التغيير والتأثير سيعرف كيف سيكون نصّه وماهية جنسه وقالبه، ستكون لغته واضحة ومحددة ومباشرة بعيدة عن الابتذال والبهرجة اللغوية، سيحدد فكرته الرئيسة التي تدور حولها جميع كلماته وسيكون جمهوره معروفًا على أكثر تقدير بخلاف الكاتب الشاعري صاحب التجربة الفردية فإنه يكتب وينشر وليتلقّف كتاباته أي أحد.
نعم نحن بحاجة للغة الشاعرية لتتغذى بها عواطفنا ونضمن ثبات إنسانيتنا؛ إلا أننا أحوج إلى الكتابات الفلسفية التقدّمية التي تحلل الواقع وتستشرف المستقبل، كتابات تقرأ التفاصيل الصغيرة وتوفر للقرّاء فهمًا مسبقًا للأحوال منتهجة مبدأ “الوقاية خيرٌ من العلاج”، كتاباتٌ تساعد على تنويرنا وتوسيع آفاقنا فنستطيع البناء عليها، كتابات تأخذ بيدنا نحو المكانة العليا فكرًا وفعلاً بين البشرية دون التخلّي عن قيمنا ومبادئنا الإنسانية.
لماذا نكتب ؛ سؤال عميق ولا إجابة له ، ولكن من المهم أن تستمري في الكتابة يا أستاذة شيخة …
لا جف مداد قلمك