مجـتـمـع المـظـاهر !!..
عـبـدالله الفـارسـي
مجـتـمـع المـظـاهر !!..
(1)
كنت أتابع كعادتي فيلماً وثائقياً جميلاً عن حياة وسلوك السناجب ..
لا أدري لماذا اعشق برامج الحيوانات وافلامها أكثر من مسلسلات البشر وتمثيلياتهم وأكاذيبهم السخيفة ..!!
شدني الوثائقي بشكل عجيب وعلمني معلومات جديدة ومثيرة عن هذه المخلوقات الجميلة الصغيرة والتي تسمى السناجب.
أخبرني الفيلم الوثائقي بأن السناجب حيوانات جماعية متحابة متعاونة جداً ؛ تحب بعضها بشكل عجيب وتتقاسم أرزاقها فيما بينها بمنتهى الحب والأثرة.
ومن عجائب السناجب أن الذكر حين يهم بمغازلة الأنثى لا يأتي إليها خال الوفاض بل يحضر معه هدية حيث يقدم لها هدية عينية فإذا قبلتها الأنثى منحت الذكر قبلتين ساخنتين في خده الايمن وخده الأيسر ثم عناقاً حميمياً.
أيضا من المعلومات المثيرة للدهشة أن أنثى السنجاب اذا عثرت على سنجاب رضيع في مكان ما احتوته واحتضنته وجلست معه فترة طويلة ربنا تصل لساعات انتظارا لأمه الغائبة .. وإذا لم تعد الأم حملت أنثى السنجاب الرضيع معها وتبنته ورعته كأحد صغارها.
اندمجت مع الوثائقي درجة الانغماس حتى أنني تمنيت لو كنت أنثى سنجاب تعيش في مجتمع متناغم متحاب مترابط متعاون متجانس ومعبأ بالحب والتفاني .. يا الله ما اروعك أيتها السناجب.
*****
(2)
أتمنى من وزارة التربية والتعليم بأن تضيف موضوع (حياة السناجب) في مقرراتها.. فكم نحن بحاجة ماسة وملحة جداً إلى أن نعلم أبناءنا شيئا من أخلاق وسلوك السناجب ..!!
*****
(3)
حين تتهاطل عليك الرسائل الرمضانية الإيمانية كل صباح ومساء تشعر للوهلة الأولى بأنك تعيش في مجتمع طاهر فاضل جميل ورائع ومتحاب لدرجة لا يمكن رسمها أو وصفها ..
لا لا لا صدقوني .. تلك مجرد رسائل واتسابية للاستهلاك اليومي لأجل حجب وتغطية الوجه القبيح للواقع الأخلاقي المزري الذي نعيشه.
*****
(4)
قبل شهر رمضان الذي يجيد فيه الناس تمثيل دور الصالحين المتبتلين الساجدين العاكفين على المصاحف ؛ سألني صديق عن شخص ما .. فرد من أفراد هذا المجتمع الفارغ.
فقلت له : لا اعرفه .
فضحك وقال لي : كيف لا تعرفه وهو صاحب السيارة الفخمة نوعها (**)
والتي تحمل الرقم المميز (** )
فقلت له : هذه العلامات لا اعتمد عليها في معرفتي بالآخرين ، وهذه الإشارات لا استخدمها في الاهتداء إلى الطريق ، ولا اضعها ضمن عقيدتي السلوكية.
الحاصل حالياً أن مقياس الناس أصبح ليس أخلاقهم وكرمهم وثقافتهم ومواقفهم النبيلة وعقولهم الكبيرة بل هو نوع سيارتهم وأرقامها المميزة .
لدرجة أن بعضهم يشتري سيارة ضخمة بقرض بنكي كبير لا يتناسب مع راتبه الهزيل لأجل أن يرفع من قيمته الإجتماعية وكثير من الأثرياء يشترون أرقام لسيارتهم ثنائية أو أحادية بمبالغ طائلة ممكن أن يفتح بها ملجأ لأيتام أو مركزا متطور لرعاية أطفال مرضى التوحد الذين يتكاثرون في مجتمعنا دون أن يكترث بهم أحد في هذا الوطن الجميل .
في مجتمعنا للأسف تقاس قيمة الإنسان بقيمة سيارته ورقمها وببيته وأرضه وموقعها ومساحتها.
بهذه الطريقة الفجة القبيحة تقاس قيمة الإنسان .. وهنا تلقائيا تصبح كل المعايير الأخلاقية الرفيعة لا قيمة لها في الميزان المجتمعي.
اذا كنت لا تملك سيارة ضخمة من نوع معين ولا تلصق عليها رقما ثنائيا أو ثلاثيا مميزا فأنت إنسان نكره مجهول الهوية.
يا لها من حقيقة موجعة.
مجتمع يضعك في ميزان المادة ويقيسك بمقياس التفاهة.
قبل سنوات ليست بعيدة كان الناس أيضا يقاسون بمقدار مالهم وثروتهم ولكن كانت النخوة والرجولة والشجاعة وحسن الخلق منافس عنيد وشرس في ميدان قياس قيمة الإنسان.
سنوات بسيطة انقلبت الموازيين وسقطت الأخلاق في الحضيض هنا وليست اليوم الخطورة ستكون غدا حين يتحلل المجتمع ويتجرد تماما من أية قيمة معنوية وأخلاقية.
أبناءنا الآن يشاهدون هذه المعايير عن كثب و يمتصون هذه الأفكار الدنيئة والمضامين الساقطة بكل هدوء ومع مرور الوقت ستصبح هذه المعايير الرديئة في نظرهم هي المقاييس الحقيقية والمعايير الاصلية في مجتمع يمتلئ بالمساجد ويعج بالمآذن وتتشدق منابره بالدين والإيمان .
كم راتبك واي سيارة تركب ؟؟.
هنا تكمن قيمتك الحقيقية في المجتمع.
الفقير البسيط ذو الخلق النبيل والسلوك الرفيع غالبا يكون خارج القائمة مشطوبا منها.
*****
(5)
قبل سنة ونصف تقريبا أن لم تخني ذاكرتي المليئة بالعفن والملح والصدأ والغبار جاءني أحد المعارف يخبرني قصة أحد الشباب البسطاء من أقاربه وهو شاب كغالبية الشباب الذين لا يملك أهاليهم سوى دخل شهري بسيط يطعمون به اولادهم وبناتهم.
هذا الشاب يعمل في شركة أحد أصحاب المليارات براتب 435 ريال وهو خريج جامعي لكنه اضطر اضطراراً أن يقبل هذا الراتب الحقير ليعيش ويتنفس ويدفع عن نفسه شبح الموت الذي يحاصره من كل الإتجاهات.
مطبقاً قول الشاعر :
اذا لم يكن سوى الأسنة مركبا **** فليس على المضطر إلا ركوبها
أراد هذا الشاب الطيب أن يتزوج.
أراد أن يحبس نفسه في قفص ذهبي ويعيش سجينا البقية الباقية من عمره .. وهذا طبعا حلم كل شاب لا يرى امامه أي أفق وينعدم معه أي أمل لتحقيق أي طموح أو السعي إلى الوصول إلى غاية ما في هذه الحياة.
فحين تكون كل الأبواب مؤصدة وكل الأحلام مصادرة يكون اختيار أسرع النهايات أمرا حتميا لكل شاب وأجمل النهايات واطيبها هو الموت في القفص الذهبي !!
خرج الشاب ووالده يقرعون الاجراس ويطرقون الأبواب ورغم كثرة البنات وترهلهن في البيوت إلا أنه لم يتلقى جوابا فالراتب الضئيل الهزيل لا يشجع
والسيارة الصغيرة القديمة التي تقف أمام الباب لا تفتح النفس ولا تثلج الصدر ولا تبهج الفؤاد ولا تمنحهم الدرجة الاجتماعية المطلوبة.
فأمام كل باب كان يستلم الجملة الثابتة المتكررة (لا نصيب لك عندنا).
حتى يئس الشاب وضجر والده.
ألتقيت أخوه ذات صدفة وأخبرني بالموضوع فقلت له : حين تذهبون لقرع الأبواب اذهبوا راكبين سيارة فخمة فارهة تحمل رقما مميزاً.
فقال لي : ليس معنا سيارة فخمة.
فقلت له : استعيروها أو استأجروها من أي مخلوق بأي ثمن.
وفعلاً .. بعد أسبوعين استعاروا سيارة فخمة فارهة من أحد أصدقاء أقاربهم لمدة ثلاث أيام.
وبعد أن وقفت السيارة الضخمة المستعارة أمام باب العروسة تهللت الوجوه وسال اللعاب من الأفواه وأتت الموافقة سريعا للشاب الفقير ذو الراتب الضئيل بفضل سيارة فارهة مستعارة لمدة يومين.
*****
هذا هو مجتمعنا المحافظ الذي يتشدق بالدين والعفة والخلق والفضيلة والتواضع
اذا ركبت سيارة فارهة الجميع سيرفع لك القبعة.
وسترتفع لك الأصابع و الأيادي إجلالاً وتوقيراً.
فكثرة المساجد والتي تصادفك في كل شارع وزقاق والتفاخر في بنائها وزركشاتها والركض إليها لم تغير شيئا من سلوك الناس مع بعضهم البعض ومعايير تقييمهم لبعضهم البعض.
هذا الوضع الخطير على وشك أن يتحول إلى درجة المصيبة والمصيبة تكاد أن ترتقي إلى مستوى الكارثة.
فنسأل الله السلامة والعافية وحسن الخاتمة..