ذات صـيـف..

الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسي
ذات صـيـف..
ذات صيف من العام 2017 كنت في حالة نفسية سيئة للغاية..
فقد تقاسم الدائنون كل تصفية رواتب الصيف .. ونهشوها نهشا كما تنهش ضباع أفريقية عجلا ميتا ..
فلم يبقَ في حسابي سوى 347 ريالا فقط وكمية ضخمة من حالة مزاجية قاتمة خانقة فكان لا مناص أمامي من الهرب من الوطن بأسرع وقت قبل أن ارتكب جريمة بدوافع الاضطراب النفسي والإنهيار العصبي والتقيؤ الكبدي ..
فقررت السفر الى دولة رخيصة ..
فكان الاختيار هو إندونيسيا .. ذاك البلد الكبير العظيم .. المعبأ بالبشر.. والفقر.. والمطر.. والشجر.. والزلازل.. والبراكين.. والمؤمنين والفاسقين..
إندونيسيا العجيبة ..
حين تنزل مطارها تشعر للوهلة الأولى أنك تمشي في قارة عظيمة .. وأرض غريبة ..
ذلك الأرخبيل الرهيب الشاسع..
لوحة فاتنة من الجمال
صورة باهرة من الروعة والإتقان..
حين تركب سيارة الأجرة لتعبر بك شوارعها الثعبانية الملتوية .. متوجهة بك إلى داخل جاكرتا..
مدينة العشرين مليون إنسان ..
حين تدخل جاكرتا أول سؤال يتبادر إلى ذهنك ..
كيف يعيش هؤلاء البشر ؟
أين يختفون حين يحل الظلام ..؟
وماذا يأكل كل هؤلاء الناس .؟.
منظر جاكرتا منظر تقشعر منه الأبدان ..
تصاب بالتوهان والهذيان والدوران .
نزلت فندقا رخيصا من فئة الثلاث نجوم أو ربما من فئة الخمس نجوم لست متيقنا .. فأنا لا أفقه شيئا في النجوم الفندقية كثيرا..
إستقبلتني موظفة الاستقبال فتاة صغيرة
تملك خدين متوردين تعلوهما حمرة كحمرة الشفق .
رشيقة تحمل شفتين صغيرين كحبتي فراولة لم تنضجا بعد ..
كلمتني بصوت خافت هامس .. إضطررت أن أقرب أذني الطويلة من فمها لأسمع ما تقول .. فشممت من صوتها رائحة الكرز ونكهة المطر .
كانت تقول : هل تحتاج إلى تدليك جسدي سيدي ..؟؟
ربما كانت تتعمد الهمس نظرا لأنها تعرض علي خدمة ليست بريئة ولا طاهرة .
كانت الفتاة جميلة جدا ولكنها كانت صغيرة جدا .. صغيرة على غضبي الشاهق .. وسخطي العابق..
فقلت لها مداعبا : لا أحتاج إلى تدليك جسدي .. لكني أحتاج إلى تدليك جهازي العصبي هل عندكم مدلك للجهاز العصبي!!..
ففغرت فاها كببغاء ولم تكلمني بعدها أبدا..
وفي الصباح .. نهضت كصبي صغير ..
مليء بالحماس والنشاط والثبات والغناء والغباء..
لبست شورت برمودا الطويل .. وتي شيرت أبيض أنيق .. وحذائي الـ Nike الجديد..
وانطلقت في الشوارع المجاورة .. أتسكع على سجيتي .. كأحمق مخبول ..
الشعب الإندونيسي عموما شعب طيب .. مسالم .. بريء .. خال من الخبث والأحقاد والضغائن..
شعب من السهل جدا التعايش بينهم والتأقلم معهم والانغماس فيهم..
نادرا ما يعترض طريقك أحد .. أو يضايقك إنسان .. حتى المتسولين مسالمين للغاية .. إن أعطيتهم فرحوا وضحكوا .. وإن منعتهم صمتوا وابتسموا..
قضيت ثلاثة أيام في جاكرتا ثم صعدت للتسكع فوق جبل بانشاك وما حوله .. ولكني رجعت بسرعة هربا من كثرة السياح العرب هناك ..
فحيث يتواجد العرب تتواجد الحماقة والفوضى والسفاسف والاستهتار والتفاهات بأنواعها .
عدت إلى ذات الفندق ..
في إحدى صباحاتي و أنا في قمة تسكعي .. وذروة تبعثري في الشوارع .. سمعت رجلا محترما يتحدث في هاتفه النقال..
كان يتحدث بلهجة سعودية لذيذة .
فتوقفت .. منتظرا أن ينهي مكالمته .
إنتهى الرجل من اتصاله .. فسلمت عليه .. فرحب بي وبسلامي .. فعانقته وعانقني.
كان ذلك الرجل هو ” سالم ولأنه من مدينة الإحساء أطلقت عليه سالم الإحسائي” ..
أخبرني سالم قصته العجيبة :
حيث وطأت قدماه إندونيسيا في العام 1996 .. وهو في الثلاثين من العمر..
فتح مكتبا لتوريد عاملات المنازل ..
خاض غمار الحياة في إندونيسيا لوحده .. دون مساعدة من أحد..
واجه صعوبات جمة للتأقلم مع الواقع الإندونيسي والتكيف معه كتاجر وصاحب مكتب ..
ولكنه تجاوز كل العقبات .. وقفز فوق كل الصعاب ..
سقط وتعثر ونهض وركض..
أتقن اللغة الأندونيسية المعقدة بمهارة .. فأخذ ينطقها كأهلها..
كان العمل في مجال توريد العاملات إلى البحرين والكويت والسعودية مربحا للغاية في حقبة التسعينات وأوائل الألفية ..
ولكن مع الوقت أخذت هذه التجارة تتعرض للمشاكل والضغوط بسبب سوء المعاملة وجرائم القتل التي تتعرض لها العاملات في الخليج .. والتي تسببت في إغلاق كثير من مكاتب توريد العاملات في إندونيسيا .. ومنعت الحكومة الإندونيسية توريد مواطنيها للعمل في الخليج إلا بشروط صارمة جدا..
كان سالم الإحسائي أحد هؤلاء المتضررين فقد أغلق مكتبه وفقد مصدر رزقه الوحيد ..
ولكن سالم كان مناضلا كبيرا ومقاتلا عنيدا اعتاد السقوط والنهوض.. اعتاد التشظي والالتئام..
إعتاد الهزيمة ثم الانتصار .. لم يفكر مطلقا برفع الراية البيضاء والعودة إلى السعودية ..
كان قد تكيف في طبيعة الحياة في إندونيسيا وأصبح كسمكة نهر اندونيسية عنيدة..
وحقيقة من يعيش في إندونيسيا يلتصق بها ..
هناك شيء غريب وجاذب في الطبيعة الإندونيسية تجبرك على الارتباط بها والهيام فيها..
فقد اضطررت إلى تمديد إجازتي أسبوعين آخرين ..
عرض علي سالم مرافقته إلى بيته..
فغيرت حجزي وأجلت تاريخ عودتي..
إلتصقت بسالم كصديق قديم وكأنني أعرفه منذ عشرين عاما..
تكيفنا مع بعضنا بسرعة غريبة وتناغمنا معا بهدوء وسلاسة .
أخبرني سالم بأنه التقى بفتاة إندونيسية سلبت فؤاده .. فتقدم لخطبتها وتزوجها .
كانت معلمة في مدرسة ابتدائية..
بنى لها بيتا جميلا في مقاطعتها وهي منطقة “تانجيرانج” حين كان مكتبه يدر عليه آلاف الريالات .. وهي مدينة جميلة تبعد عن جاكرتا 320 كم..
دلل سالم عروسه الجميلة أيّما دلال ..
قفز فوق أسوارها واقتحم قلعتها ودك حصنها وسيطر على قلبها وفؤادها.. وأنجب منها ثلاثة أطفال.. يحملون لون الصحراء ورائحة الغابات ونكهة الأشجار..
إصطحبني سالم إلى مدينته “تانيجرانج” حيث بيته الجميل هناك..
كانت منطقة “تانيجرانج” جميلة جدا لا يمكن أن يصف قلمي جمالها .
كان سالم يملك دراجة بخارية جديدة .. والدراجات وسيلة نقل مهمة ورخيصة جدا في شرق وجنوب آسيا..
كان يقول لي : “تعال اركب أيها العماني المسكين المثير للشفقة .. تعال أريك الجنة”..
فأركب خلفه ملتصقا بظهره كطفل خائف ملتصق بظهر أمه..
وينطلق بي في تلك الجبال والسهول الغناء ..
شوارع نظيفة جميلة مغسولة بالمطر مُخاطَةٍ بالأعشاب مُسَيّجة بالأشجار .. ملفوفة بالنقاء .. ملتحفة بالسحاب والضباب .
جبال مكسوة بالخضرة مطرزة بالأزهار..
كان المطر يداعب وجوهنا ويرشنا طوال الطريق بالرذاذ والضحكات..
كنا نتوقف لنأكل الذرة المشوية في الطريق ..
كانت أكشاك الذرة تتناثر على طول الطريق الجبلية الخضراء.. لم أذق ألذ وأشهى من تلك الذرة المشوية في حياتي..
كان يجلبها المزارعون طازجة يوميا من حقولهم فكان منظرها يخلب الألباب ورائحتها تسيل اللعاب وطعمها يطفئ الجوع ويغسل الألم والعذاب..
وجوه بائعات الذرة تفتح شهيتك للحياة قبل أن تفتح شهيتك للطعام فتضطر أن تطلب مزيدا من الذرة لتأكل بشهية حصان جائع وتبحلق عينيك الجائعتين بشراهة وفرح فارع..
لم أصادف متسولا واحدا طوال رحلتي هناك ..
الجميع فقراء لكنهم سعداء..
الكل بسطاء لكنهم بهجاء..
الشيء العجيب بأن الشوارع في كل مكان شوارع مرصوفة حتى تلك الممتدة إلى القرى القابعة فوق أعالي الجبال .
وشبكة الهاتف نشطة هائجة وفي ذروتها وبسعر زهيد جداً..
كان سالم يردد على مسامعي : عبدالله الذي يعيش هنا في هذه الجنة هل يفكر أن يخرج منها؟؟!!..
فأرد عليه : لا .. طبعا من يعيش هنا لا يمكن إلا أن يموت هنا..
فقال لي : لماذا لا تتقاعد وتعيش البقية الباقية من عمرك التّعس هنا ..؟؟
فقلت له : “المتعوس متعوس يا سالم ولو حطوا على رأسه فانوس “.
ولكنها فكرة رائعة . سأدرسها جيدا .. سأحاول التفكير للفرار والسفر والتخطيط للنجاة والحياة والهرب .
قضيت عشرة أيام بمعية سالم الإحسائي .. كانت عشرة أيام خيالية وكأنها حلم لذيذ من أحلامي الليلية الشتوية الطويلة داعب مخيلتي وجال في أضغاث عقلي درجة العبث .
سافروا إلى إندونيسيا..
أدفنوا همومكم في جبالها..
إغسلوا صدوركم في أشجارها..
واقبوروا لعناتكم في أنهارها..
أصر سالم الإحسائي على مرافقتي إلى مطار جاكرتا لوداعي..
هناك عانقني .. وقال لي مداعبا : عُدِ الآن إلى شقائك ومارس تعاستك بهدوء يا صديقي .!!












