المحاماة ومعاونة القـضاء في تحقـيـق العـدالة .. الجـزء (4)..
دكتور/ سـعـيـد بن عـبـدالله المـعـشـري
مسـتـشار قانـونـي
المحاماة ومعاونة القـضاء في تحقـيـق العـدالة .. الجـزء (4)..
تناولنا في الجزئيين الثاني والثالث من هذا المقال فكرةً عامة عن مراحل تطور مهنة المحاماة في اروبا إبان العصور القديمة والوسطى والحديثة، وبما أن المراحل الحضارية التي مرت بها أروبا في مختلف العصور المنصرمة كان لها التأثير المباشر على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالولايات المتحدة الأمريكية بحكم أن قيامها كان بفعل الاتصال الحضاري والاستعماري الأوروبي عقب انتهاء العصور الوسطى في أروبا وما تبعه من انتقال بعضاً من مورثاتها الثقافية والاجتماعية والحضارية بفعل الهجرات البشرية الكبيرة القادمة منها والتي استوطنت بعدها على الأراضي الامريكية مشكلة بها مجتمعات متباينة اجتماعياً وبقواسم مشتركة بنتها على الوحدة السياسية والاقتصادية، مما ساعد على ظهور العديد من التطورات القانونية والقضائية المتميزة بها الممزوجة مع ما هو قادم من أوربا وما استجد عليها من تنوع بشري وثقافي، ولقد نالت مهنة المحاماة نصيبها من هذه التطورات والتغييرات.
ولقد كانت مهنة المحاماة بالولايات المتحدة الامريكية في بداية مراحلها الأولى (أي قبل حقبة الحرب الأهلية) لم ينلها الاستقرار التنظيمي بسبب ندرة وجود المتخصصين من ممارسي المهنة، ويعود ذلك إلى عدم وجود مراكز تدريب رسمية للمهنة بالإضافة إلى أنه لم يكن هناك كليات للحقوق تدرس القانون خلال فترة الاستعمار، مما أدى إلى افتقار المهنة للتنظيم على الرغم من وجود نظام وقتها يُعرف بالتلمذة الصناعية (Apprenticeship) ( الذي وهو عبارة عن عملية تدريب وتعليم للمهن والحرف لفئة الشباب مصحوبة بدراسة صفية تقليدية بمعاهد حكومية لمدة سنتين، وإذ تعود التلمذة الى العصور الوسطى في أوربا وذلك من خلال استقطاب فئة الشباب للتدريب على المهن والحرف في المقابل أن يوفر لهم المأكل والمسكن والمشرب ومن ثم يتم توظيفهم في مهنة أو حرفة معينة، وحيث أن التلمذة في العصر الحديث كذلك تبنتها الحكومات الأوربية والولايات المتحدة الامريكية، وقد كانت التلمذة الصناعية في الولايات المتحدة إلزامية في الأقسام الحضرية بالمستعمرات)، وعلى الرغم مما وفرته من تدريب في مختلف المهن القانونية منها المحاماة، إلا أن ذلك أدى إلى تباين في المعرفة القانونية لدى المحامين، واستمر هذا الوضع حتى أواخر القرن الثامن عشر.
فإن مع بداية الثورة الصناعية بالولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأ التحول الحقيقي لمهنة المحاماة تزامنا مع بدء نمو الأعمال التجارية وتطور القوانين وظهور العديد من المهن الأخرى وخاصة في أواخر القرن التاسع عشر، مما استدعى الأمر للنخب الصناعية والشركات التجارية الاستعانة بالمحامين لتقديم لهم المشورة في أعمالهم، ومن هذا المنطلق بدأ ظهور العديد من شركات المحاماة في وول ستريت (المعروف بشارع الجدار) بنيويورك التي لعبت دوراً وخاصة في تقديم الآراء للسياسيين وخاصة منهم الجمهورين المحافظين.
وبعد انتهاء الحرب الأهلية، ازداد الطلب على خدمات المحامين مؤدياً بذلك إلى إضفاء الطابع المؤسسي والتقسيم الطبقي على التعليم القانوني الرسمي نتيجة التفرقة العنصرية حينها التي ظلت قائمة فترة طويلة بعد الحرب، وخاصة عندما أزداد اعداد المهاجرين من شرق وجنوب أوروبا خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، الذين كانوا غالبًا ما يواجهون مشاعر معادية ضدهم، ورأى العديد من المهاجرين من الجيلين الأول والثاني بأن دراسة القانون والعمل به هو فرصة عظيمة لهم لرقيهم الاقتصادي والاجتماعي، ولقد كان العديد من قادة النقابات المهنية يرون أن تدفق المهاجرين يمثل لهم تهديداً وخاصة مع اتاحة التعليم الابتدائي العام المجاني لهم، ولا سيما في المناطق الحضرية التي يتواجد بها مجتمعات كبيرة منهم.
ولقد نما دور المحامين بعد الاستقلال مما أصبح العامة ملزمين بالاعتماد على خدماتهم في أداء مجموعة واسعة من أعمالهم، وخاصة مع النمو الاقتصادي والتوسع الجغرافي للولايات وحدوث الكثير من التطورات القانونية بها، مما رتب حدوث منافسة قوية في مجال تقديم الاستشارات القانونية وتدويل المشكلات القانونية للشركات، وظهور تقنيات جديدة ومجالات مختلفة في القانون وطرق حديثة في ممارسة مهنة المحاماة.
وأيضاً في حقيقة الأمر أن مع بداية ظهور ممارسة المهنة في الولايات المتحدة تم استبعاد النساء من ممارستها تاريخيا، إلا أن في عام 1869م حدث تحول بشأن ذلك عندما حصلت أول أمرأه ترخيصاً لمزاولة مهنة المحاماة والتي هي أرابيلا مانزفيلد (Arabella Mansfield) بعد اجتيازها لامتحان نقابة المحامين في ولاية آيوا (Iowa)، وكذلك هناك مصادر أخرى تشير أيضا على أن هناك نساء أيضا انخرطنا في ممارسة المهنة في عدد من الولايات خلال تلك الفترة، وبعدها بدأ ازدياد نسبة النساء في مهنة المحاماة بمختلف الولايات.
ومن المعروف أن الأنظمة في بعض الولايات الامريكية قد تختلف بحكم تمتع كل ولاية بحكمها الفيدرالي فيما عدا الأنظمة الفيدرالية التي تكون مشتركة فيما بينها لتعلقها بالسيادة والوحدة الامريكية، وبالنسبة لأنظمة المحاماة قد تكون متشابهة في شروط ومعايير ترخيص المحامين، ومنها وجوب المحامي حصوله على شهادة في القانون شرط أن يكون المؤهل من كلية معتمدة من نقابة المحامين الامريكية، إلى جانب اجتيازه لامتحان المحاماة المعتمد في كل ولاية.
فالمحامي بعد اجتيازه لاختبار المحاماة يكون مؤهلاً للقبول في نقابة المحامين، وفي الغالب يكون من الممكن على المحامي ممارسة المهنة في أكثر من ولاية شرط اجتيازه لاختبار المحاماة في الولاية التي يرغب بممارسة المهنة بها، وبعدها يتم قبوله في نقابة المحامين بالولاية وفق الشروط والقواعد التي تحدد من قبل أعلى سلطة قضائية بالولاية، مع شرط عدم ارتكابه لأي مخالفة جنائية أو سلوكية مهنية أو إدارية أو أكاديمية.
وبلا شك أن حركة التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي حدثت في الولايات المتحدة بالتزامن مع استلامها زمام قيادتها للعالم اقتصاديا وسياسيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان له الأثر الكبير في تطور العديد من القوانين والأنظمة المحلية على المستوى الداخلي للدول والعالم أجمع، وخاصة في ظل ظهور المعاهدات والاتفاقيات الدولية التجارية والشركات العابرة للقارات التي انطلقت من الولايات المتحدة موزعة أعمالها على نطاقاً واسعاً من العالم، إلى جانب ذلك ظهور المحاكم الجنائية والتجارية والاقتصادية والرياضية الدولية والتحكيم الدولي، وبهذا فإن للحديث بقية في الجزء التالي من هذا المقال.
_________________
المراجع :
– د. عكاشة عبدالعال، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، منشورات الحلبي الحقوقية، 2002م.
-U.S. BUREAU OF LABOR STATISTICS، Department of Labor Logo United States Department of Labor web.
-https://www.americanbar.org.
-OTHER POWERFUL FORCES: A BRIEF DEMOGRAPHIC HISTORY OF THE LEGAL PROFESSION، Posted on (https://www.law.columbia.edu).
-Jonathan Rose Professor of Law College of Law Arizona State University، The Legal Profession in Medieval England
A History of Regulation, https://papers.ssrn.com
– https://www.americanbar.org.