قصص ، رواياتمنوعات

رواية وادي الرمال .. الحلقة 31

حـمـد الـنـاصـري

كاتـب و قـاص

 

رواية وادي الرمال .. الحلقة 31

 

شمس النهار تميل إلى الاحمرار، وبدا قُرصها يسقط في مكان مجهول. رجال يتحلّقون حول وليد في جموع مُتراصّة.

قال رجل من ضمن الذي تحلقوا حول وليد:

ـ هل أستطيع تكملة حديثكم عن قوة الشمس واسقاطاتها على قرية مجن ووادي الرمال.

ابتسم وليد وقال:

تفضّل. سوف نستمتع بحديثكم.

فقال الرجل وكان طويلا، نحيل الجسد، ويُعرف بذي الأسْرار، وقد أخذ يطعن في كلام وليد، مُوافقاً قول عياد لعرج:

ـ قرأت في كتاب “شمس الرمال” لكاتب مجهول، لم تُعرّف شخصيته في الكتاب، ولكن وحسب مُعَرّفات البعض وقرائن استدلالهم، أنّ الرجل ” الكاتب” يُنسب إلى رجل قدم إلى الوادي واتخذ من قرية الوادي مَقاماً.

ومن نصّ قوة الشمس، اقرأ لكم:

– “أنّ الشمس تضرب باطن الأرض وفي الأعماق تعصف سُخونتها، قوة عاصفة،
شديدة، تُعرف بتغيّرات البحر العميق وقد ترتفع امواج البحر من قوة فِعْل الشمس الضاربة في الاعماق، وإذا ما تبخّرتْ المياه فوق سطحها، يُنتج عنه خلخلة فوق البحار العميقة، تطال بقية البحار المحاذية لها، وتُزلزل يابستها بفعل القوة المُتكوّنة، فيثقلها، فالزلزلة البحرية تصطدم في بعضها قبل التقاؤها اليابسة، ثم يكون مدّ زلزلتها إلى رمال الوادي.

وقد يُنتج من جرّاء السُخونة القاذفة إلى مُحيط أعماق البحار قوة صادمة ومُضادّة في كثير منها، كحدوث زلزلة السماء ـ هكذا تُعرف ـ وتهبط زلزلة السماء بشكل دائري عميق يلتفّ حول نفسه مُشكلاً بؤرة عميقة كعين مُخيفة، فتسرط كل شيء إلى داخلها ثم تُلقيه إلى خارجها بفعل قوة شديدة، عميقة الدوران ومُخيفة، وحين تقذف العين العميقة ما بها، يَخرج مُزْنٌ يُغْرِق الرمال، تُعرف محلياً بالجائحة”.

أمّا الذين نقلوا خبراً بيّنه الجد الأكبر، ونشروهُ بطريقة مُختلفة، غير مُستساغة ـ من وجهة نظري ـ فالجد الاكبر لا يقول:

ـ أنّ السماء سوف تقذف غضبها إلى الأرض ولكنها يقول أنّ سَيل عرم سوف تُغرقها … ذلك السّيل الذي اكده الجد الاول في سيرته، هو مُزن عميق ـ لا يُقال بأنه غضب من السماءـ وإنما ذلك يحدث بفعل تصادم القوة الشديدة والدوران العميق في العين المُخيفة الناتجة من زلزلة البحر العميق.

قال رجل غاضب مُقاطعاً:

ـ هذا الكلام مردود فيه، لا نعترف به، ولا نُثبته.

فالجد الاكبر قال في سيرته الاولى:

ـ السماء تغضب وغضبها يكمن في إغراق الارض بالسّيل.

وأمّا ما يحدث في البحر العميق ليس غضب من السماء، بقدر ما هو نتيجة زلزلة او بفعل زلزلة ناتجة عن تصادم قوتين أحدهما اقوى من الاخرى.

وقد قسّم الجد الاكبر البحار على طبقات مُختلفة، فالبحر الغليظ أكبر شدّة من البحر العميق، والبحر العميق تتساوى قوة غِلظته عن البحر الظلام، وبحر الظلام تمتد شدته وعمقه إلى أنْ يصل إلى السواحل التي تُعَرّف غالبا بالمياه الآمنة، وسُمّيت سواحل، لكون مائها أكثر زُرقة، تُرى ما فيها غالباً بالعين المُجردة واكثرها ضحلة أو رقيقة. وبتلك الرقّة تكون الاقرب نشاطاً للإنسان اقتصادياً، لقربها من اليابسة.

ففي الساحل كما عرفه الجد الاكبر أنه توجد به كل مُقومات الحياة الاقتصادية لأهل القرى الواقعة على ساحله. وتخضع لقوة البشر ونشاطه فيها.

أما التقسيمات التي عنيتها، نقرأها من سيرة الجد الكبير الذي لا يزال بيننا، فكما وجد الجد الاكبر تقسيمات لطبقات البحار وجد الجد الكبير ـ أيضاً ـ تقسيمات مُماثلة ليابسة البحر وطبقات ظلمة الرمال، مثال ذلك ظُلمات الكهوف وظلمات السيوح وظلمات الاودية وظُلمات الرمال المُخيفة. وتلك قال عنها الجد الكبير أنها خاضعة لقوة الانسان وتطويعه لها.

فلا تتجنّى على الجد الأكبر ولا تُبدي أخلاقٍ تتزيّن بها وتُحرقنا بها، وتُظلل بترّهاتك قول الجد الكبير، فسيدنا الجد الكبير قال:

ـ إنّ ظُلمات البحار كظلمات الرمال، وقد تتساوى في جزئيات كثيرة، كالخوف من المجهول والفزع من المُفاجئات، وفي كلا الحالتين، الظُلمات، أسرار خفيّة، مجهولة، تغشاها لُجج سحيقة، من الظنون والغرق في غسق الدُجى شِدّة مُؤلمة؛

فالموت في ظُلمات البحار كمن يُواجه خطر أسَد في قفار الرمال.

قال ذو الاسرار مُعقباً:

ـ نصوص مُخيفة وأقوال غير مُلتزمة بنقل الخبر بحقيقته.

دعونا من موت القِفار والبحار. سأحدثكم عن المدارات الكونية الحارقة، فالشمس رغم صِغر حجمها فهي الاكبر ينجذب إليها كل شيء. والأكبر غالباً هو المُنتصر؛ ورغم ذلك فأنا لا أؤمن بأنّ الأرض أكبر من الشمس؛

فقد تأكد لي من كتاب” شمس الرمال” للكاتب المجهول. أنّ:

ـ قوة الشمس هي الاكبر ولذا فإن كلّ شيء سيدور حولها؛

ونجد ذلك في الواقع، فالشمس تُغطي الرمال والبحار والجبال، وهذا دليل بأنّها أكبر حجماً وكلّ ما عدا هذا القول ساقطاً، وباطل وتافه وتُرّهات خالية من القول الصحيح؛ وخالية من بيّنات النقل الصحيح إلاّ من تخليق ونُعوت مُفتقرة الدلائل، اكثرها تجنح إلى الاقاويل التي لا كمال فيها ولا رُشد.

قال رجل مُؤيداً قول ذو الأسْرار:

ـ صدقت، يُقال بأن القمر لا نشاط له، وليس له فِعل إنْ لم تبسط له الشمس قوة يستمدّ منها نشاطه؛

قال رجل قصير القامة مُقاطعاً:

ـ أنا مع قول ذي الاسرار في بعض ما ذهب إليه، لكنه لم يأتي بجديد غير حديث عن كتاب شمس الرمال، لقد أنهكتم عقولنا وأتلفتم بطنينها أسماعنا، فتلك الأحداث، عرّفها الجد الاكبر منذ مئات السنين بالجائحة، ولن أزيد عمّا قيل في حقّ أجرام السماء، فكل جُرم به طاقة وكل طاقة لها قوة، وكل قوة تُضاعف طاقتها لتكون الاقوى، والاقوى قادر على جذب الاصغر منه وجعله طيّعاً له؛

قال رجل يتوسط المُتحلقين:

ـ دَعْكم من أجرام السماء وطاقتها، فقد سَئمنا منها وتعبنا من أقوال سَقيمة، ولم أحد منكم بشيء ينفعنا، قولوا برشد، ما هي أسباب الرجال الذين فرّوا إلى ضِفاف مجرى الوادي، وتفرّقوا أشتاتاً وكوّنوا قرى صَغيرة، على أطراف الوادي؟ وأنا اعتقد أنّ الأسباب تَعلمونها.

قال الرجل قصير القامة مُعقباً:

ـ الأسباب كلها تداعيات مكذوبة وزورٍ مُفرّق، وشقيٌ انتصر بغباء؛

قال ذي الاسرار:

ـ طيّب والذين هربوا إلى بحار عميقة، ما هي أسباب هروبهم؟ ومن يتحمّل جُرم ذلك العناد. أتعرف من يتحمّل وِزْرها، أليس هو الذي قام بتحريم تداخل الإنسانيات ببعضها؟

أسألكم جميعاً من الذي خلق أقواماً غِلاظاً؟ من الذي أعدّ البطش كقوة واعتداد والجبروت حياة واستمتاعاً؟

قال ذي الاسرار:

ـ إني أعلم بأنه صَنعةٍ ولبوسٍ من العزّة الدافعة إلى المَنْعة والشدّة.

قال قصير القامة:

ـ أتلك إثارة من عِلم أم هو إيثار قدروا عليه، حُباً في الكرامة والمَنعة، يجعلون الرجال مُختلفين وقرى الوادي مُتناحرة وأهلها مُتفرّقين، وقلوبهم شتىّ غير مُؤتلفة، مُشتتة أحوالهم بين شقي وسعيد.

قال الرجل الذي توسّط المُتحلقين بحدّة:

ـ عُون السدّاح لعين الوادي والرمال، قد سنّ القَتل العَمْد وقال عنه بأنه شرف، فقتل الصغير والكبير. وهو أوّل منْ سَنّ الحرق الجماعي وأوّل من سنّ قانون الموت البطيء وأول من سنّ شَنق عجائز الرجال وعجائز النساء، بدافع الرأفة بهم.

أليس ذلك الرجل عون السداح، حقير أغرق الناس في ظلام وقتل وتشريد. وتسبب في موت النساء والاطفال، وألقى بعضهن من أعلى قمّة جبل الشَمّ، ليُواجهن الموت كما قُدّر لهن، وكانت تلك الصَنعة من أسوأ مواقف ذلك الرجل الاهوج المُغفّل، الذي قال عن نفسه، أنا صاحب رسالة إنسانية. رسالة فيها خباثة ونذالة تقوم على الظُلم والفساد وسَفك دماء البشر، ولن أزيد عمّا قيل عنها، بأنها رسالة تُعبّر عن سُقوط أحمق وأهوج وسُلوك أعوج ماحِق وفِعْل ظالم، إنها رسالة رَعناء حاقدة، خاتَل بها عُون السداح مُجتمع الوادي.

ساد صمت مُطبق، صمت مُرعب، كصَمت الموت، فأصبح المكان لا يُسمع فيه صوت ولا حركة وكأنّ الرجال قد قطعوا أنفاسهم.

يـتـبـع 32

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى