قـراءة في مفـهـوم القـوة الناعـمة..
الدكـتـورة/ سـلـوى سـلـيـمـان
خبير تربوي ، واستشاري اكتشاف ورعاية موهوبين
قـراءة في مفـهـوم القـوة الناعـمة..
عندما نحلل مفهوم القوة الناعمة؛ علينا أن نتطرق في عجالة إلى مفهوم القوة الذي تحويه قائمة المفاهيم الدارج استخدامها فيما بيننا، ويعني القدرة على التأثير بأدوات مادية أو معنوية، والقدرة على جعل الآخرين يقومون بتصرفات لم يكونوا ليقوموا بها لولا أثر القوة التي تم إخضاعهم لها.
ونؤكد أن مفهوم القوة ارتبط بالممارسات الإكراهية التي تجبر الآخرين على التصرف بطريقة معينة، وظل هذا المفهوم هو الأوحد استخداما وتداولا على المستوى الدولي والفردي حتى قيام “جوزيف ناي” عالم السياسة الأمريكي بتطويره، وطرحه كمصطلح في التسعينات للتعبير عن الإمكانية على الجذب والإقناع من غير الإكراه، وقد استخدم ناي هذا المصطلح في كتابه مقدرة للقيادة : “الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية” الصادر عام١٩٩٠، علما بأن “ناي” نفسه طور هذا المفهوم؛ فقام بعرضه بالتفصيل في كتاب آخر أصدره عام ٢٠٠٤ بعنوان “القوة الناعمة : وسائل النجاح في السياسة الدولية”، والذي أخذنا عنه التعريف أعلاه، وهذا المصطلح يستخدم حاليا على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل الباحثين والمحللين والسياسيين.
ولم يكن “ناي” هو الوحيد الذي عرّف القوة الناعمة؛ بل لابد لنا أن نرسو على ضفاف تعريف “ميشيل فوكو” Michel Foucault،
والذي يعتبرها إجبارا وإلزاما غير مباشرَيْن، وسجالا عقليا وقيميا يهدف إلى التأثير على الرأي العام في داخل الدولة وخارجها.
ومن خلال متابعة التعريفَيْن يتضح لنا أن “فوكو” و “ناي” متفقان على أن القوة الناعمة هي التأثير بالرأي العام، ولكن بوسائل غير عنيفة مباشرة، وذلك بهدف السيطرة والهيمنة على العقول، ولكن “ناي” يستبعد الوسائل الاقتصادية كجزء من القوة الناعمة في التأثير بينما يخالفه “فوكو” في ذلك.
ومن هنا فالقوة الناعمة بحسب الباحثين أركان وموارد وأبعاد، وبالكاد مفهوم القوة الناعمة يفتح الباب لدراسة القدرة على التأثير في سلوك الآخرين عبر الجاذبية والاحتواء.
فالقوة الناعمة هي قوة النموذج، وجاذبية الثقافة، وسمو القيم والمبادئ، والمصداقية في الالتزام بكل هذا؛ إنها امتلاك الخصائص التي تجعل الآخرين يتطلعون للدولة باعتبارها نموذجاً يحتذى، ومصدراً للإلهام.
فضلا عن أنها أيضا القدرة على التأثير في الآخرين؛ بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج الذي يودّون الاحتذاء به.
أما عن مصادر القوى الناعمة فتتمثل في الثقافة، القيم والدبلوماسية، وكما نعلم أن الثقافة هي التي تساهم بشكل أساسي في عملية جذب الآخرين، ولأي دولة نوعين من الثقافة، ثقافة النخبة وهي ثقافة المتعلمين المهتمين بالعلم وأبحاثه، والتي بها تصبح الدولة قوية، والثقافة الشعبية أي التعامل اليومي للأشخاص، وعندما تكون الدولة قوية في المدد الثقافي لها يزداد وينتشر انتشارا كبيرا في كل مكان، وتصل إلى عمق الثقافة في العالم؛ أما بالقيم فتستطيع بها معرفة كيف يفكر المجتمع، ولا شك أن القيم معيار رئيسي لقوة الدولة أو ضعفها.
أخيراً .. على الرغم من أن مصطلح القوة الناعمة ظهر في تسعينيات القرن الماضي؛ إلا أن البعض يعتبرها ملازمة للتاريخ الإنساني، وهي تظهر في كتابات الفلاسفة أمثال “كونفوشيوس” confucius و”سقراط” Socrates، أو من خلال انجذاب الناس إلى الأديان مثلاً، ومن هنا لقد فرض هذا النوع من القوة نفسه، وأضحى من أهم العناصر التي تعتمدها الدول في برامجها، وتعتمد عليها في سياق عملها السياسي الدبلوماسي، ولنا أيضا أن نستخدمها في غرس قيم، وأيضا تغيير عادات وأفكار ومفاهيم غير صحيحة دُست في مجتمعنا بوسائل غير مقبولة؛ من منطلق أن التأثير على العقول آلية فعّالة تُحدِث تغييراً، وتضمن عدم خروج الأفراد عن سياق معين اتفاقاً مع مبدأ “ثيودور روزفلت” : تحدث برفق، واحمل عصاً غليظة.