رواية وادي الرمال .. الحلقة (27)..
حـمـد الـناصـري
كاتـب و قـاص
رواية وادي الرمال .. الحلقة (27)..
تدخل الجدّ الكبير واصفاً رجال القرية المَكينة وصْفاً يَليق بهيبتهم قائلاً :
ـ إنّ رجال القرية المكينة هم نِعْم الرجال صدقوا عهودهم معنا ولم يحيدوا عن سير أجدادهم ومواثيقهم ويَربطنا بهم عهد وصِهْر ونسب، ولنا معهم صِلات وأواصر تجمعنا ببعض، تاريخنا مُشترك، وأعرافنا وتقاليدنا في تداخل، خِفّهم الحُلم والأناة وطريقتهم الاستقامة.
رجال حين تَعُدّهم، لا يَجأرون بمصائبهم ولا يخشوْن أحداً ولا يَهابُون عدوّاً، أعزة إنْ أقدموا، تعرفهم بِلِيْنهم، صادقين في قولهم، لا تشغلهم التفاهات ولا يَلتفتون إلى التُرّهات، ولا يسكتون على ضَيْم ولا يَهادنون المُرائين.
كان ملكهم ذا قوة وصَيت، عُرف بالسيّد الحكيم، بليغ إذا تحدّث، راسخ إنْ أوثق، يُنّزهَه رجاله عن تُرّهات الأمور ويرفعونه فوق الأفْعال الذميمة، يُشاركونه برُشدهم، فيجمع بين صواب الرأي ورشاد الحكِمة في القول والعمل.
سكت بُرهة .. ثم أردف :
ـ ومُنذ سِنين وهم يجتمعون في حلقة مُستديرة لا تُمَيّز شبابهم من شيبهم.. وقد عُرفت تلك الحلقة بأنها جزءٌ من سيرة رجال القريتين العتيقة والمكينة ورجال الوادي، وهيَ تَعْبِير عن التساوي بين المُجتمعين.
رجالٌ عُرفوا بالصدق والمودّة، أخْلاقهم السِّلم بين الناس وشِعارهم الالتزام بالمواثيق والاعراف كمبدءٍ للحياة الطّيبة.
وضع الجد الكبير يده اليُمنى على صدره بوداعة وسماحة نفس، ابتسم وقال :
ـ ذات مرّة تعرّضت قريتهم لجائحة من جوائح الطبيعة وأصابتْ الدّيار ما أصابتهم من عوارض تلك الجائحة، لكأنّ السماء تمتحن إيْمانهم وصبرهم، فما اسْتكانوا وما وَهنوا بل ازدادوا شكيمة وقوة وإصْراراً، وكانوا رجالاً أوفياء لقريتهم وحينَ انتشر الوباء بينهم وامْتد إلى أقصى أطراف القرية وأدْلهمت الخطوب وبلغ بهم الكُرب مَبلغاً وقد وصلَ بالناس مَبلغ العجز واستوطنهَم اليأس والمرض، وأصبحت بيئة الوادي شديدة عليهم.
ورغم كل ذلك فقد زادتهم المِحنة قوة إلى قوتهم وأورثتهم صبراً وجلداً، يَحسدهم عليه الجلمود من الصخر، فكان ذلك الصَبر مناراً ليقينهم.
ورغم تكالب المصائب والفواجع عليهم الواحدة تلو الأخرى ؛ إلا أنّ أهل القرية عُرفوا بمزايّا وخواص تميزوا بها وتفرّدوا بها عن غيرهم، العقل والحِكمة والطيبة.
وبرغم تلك الصفات التي تفوّقوا بها والسمات الطبيعية التي اختصوا بها، إلّا أنّ البعض القليل الذين اختلطوا بهم سلكوا مسلكاً غير قويم وسوّلت لهم أنفسهم بالسوء والضلال ليشهد عليهم غيرهم بالضلال.
فأغاروا على القرية، مِمّا اضطرّ أهلها بالتحالف مع قرى مُجاورة لقريتهم اتّقاءً وحفظاً للصفات التي تميزوا بها، وانتشروا مُتفرقين إلى حدود الوادي، تجنّباً لتعريض حياة الناس في الوقوع في الخلافات والمناوشات وتجنباً لأي آثار جسيمة قد تقع.
فقد أرشدهم كبيرهم بالسير نحو قرى ظاهرة على بحر طويل أو إلى أعالي الرمال.؛
*****
يَعتز الرجال بمكانة الجدّ الكبير، لكنهم على اختلاف دائم مع جماعة الوادي وعلى رأسهم وليد، فالرجال يَرون أنّ أصول تكوين الحكايات هي عبارة عن قصص مَبثوثة مُثيرة للجدل ولا تضرّ بمصالح الوادي ولا برجاله.
بينما يرى وليد وجماعته، أنه ليس بمُستحسن أنْ تُروى القصص وتُسرد كحكايات مُتفرقة مُلتوية ومكذوبة ثم لا تلبث أنْ تتحوّل إلى خزعبلات مُثيرة للجدل، وإذا ما تحوّلت الأساطير إلى حكايات تقليدية فإنّ مَتْنها سيتحوّل إلى افكار يَعتقد بها الانسان.؛ بل وقد يُظن بأنها قدر وجودي.
رفع وليد رأسه قليلاً ونظر في الوجوه وكأنه يتفحصها.. وقال :
ـ لا أُحَبّذ الأساطير الخالية من القِيَم الأخلاقية، فالحكايات المبثوثة غالباً ما تكون مَسمومة ومَتْنها يكون سَقيماً بالعلّة، فثقافة التشويش لا تُفرز غير سُلوك سَقيم، ومِعْوج، يُعيدنا إلى أساطير مكذوبة.
*****
بدا ثُلّة من الرجال يتزاحمون على مجلس الجد الكبير، فهو الشخصية التي لها أثرها الكبير، ولها سطوة الهيبة وقوة الجاذبية المُهابة، وحين فرغ مكان الجد الكبير لقضاء حاجة، تقدّم وليد وقد تقمّص شخصية جده المهابة:
ـ لا أخفيكم سراً، لقد انتشرتْ الحكايات في أرجاء مَعمورة الوادي بطرق مُختلفة مَبثوثة ومُتفرّقة.
فالحكايات المَسمومة تُثير الأسْقام وتُسبّب الأوجاع، وتُهيّج التخاصم، وأكذوبة الاساطير، وانْتشارها في المُجتمعات، فقد ربطها البعض بالتحولات الاقتصادية ونتاج العلاقات الاجتماعية.
لكني أرى أنّ ذيوع الاساطير وحكاياتها ترتبط بالدين والمُعتقد ولأسباب أخرى في مجملها أكاذيب وهوس مُتخيّل لا ربط بينه وبين التراث الديني.
فأولئك الاقوام من الناس، عقولهم هوجاء خاوية ونفوسهم بالشر حاقدة.
أحنى رأسه إلى صَدره، وتلىَ كلاماً على مسامع الرجال، من كتاب المجد الأول للجد الاكبر قائلاً ” وإذا قُرأتْ عليهم أحاديثنا، قالوا سمعنا وعَلمنا وإذا خلو إلى بعضهم، قالو لا نُطع أحداً ولم نسمع قولهم ونحن عُصبة، فماذا هم فاعلون؟ إذا هم في اساطيرهم مُختلفون.
أؤلئك الصنف من الرجال لم يقتنعوا بل عَصوا وصَمّوا آذانهم، وترفّعوا عن قومهم واغلظوا وجعلوا من أنفسهم فوق الناس وتباهوا بقوة بأس الرجال، وتعاظموا برفعة شأنهم ولم يُذعنوا للحق وازدجروا كل ضَعيف وتكبروا واغتروا وتعامُوا عن الحقّ ولم يُذعنوا إلى أدلّة الرمال ولم ينظروا إلى السماء ولم يَلتفتوا إلى شَمسها وقمرها ونجومها، إنهم قوم لا يريدون، قوم أنكروا وجحدوا كل شيء وأخافوا ضِعافهم …!”.
وحسبما قرأت في المجد الاول، أنّ رجلاً قوي العزم، انتصر للضعفاء وقال، لقومه:
ـ إنّا تاركوا تُرّهاتكم وأكاذيبكم، فاغلظوا قولكم كيف شئتم.؟ واعلموا أنّ الرجال ـ وأشار إليهم ـ سوف يتركونكم ليس عِناداً ولا ضَعفاً منهم، ولكنهم لنْ يَصبروا على الذل ولا إهانة كرامتهم.
وتلا الرجل ذو العزم، شيئاً من السيرة الأولى :
ـ لقد جئناكم بالحقّ ولكنكم عنه تَعدلون؛ ذلك القصص فيه عِبْرة لكم، وإياكم أن تخرجوا عن مزيّة الفضيلة، فيُصيبكم ما أصاب غيركم، من مَعرّة، واخشوا زواجر قادم أيامكم ولا تميلوا إلى غير سَداد رأيكم وحصافة ألْبابكم، فإنّكم عن مَيلكم سوف تُسئلون.
*****
ساد هرج بين المُجتمعين وتقطّعت بينهم سُبل التفاهم، واختلفوا وتفرقوا، فخشي وليد تفرّقهم، وقال :
ـ الهدوء أيها الرجال، لا أقول إلاّ خيراً، أولئك النّفر من الناس أو غيرهم والذين يأتون بعدهم، أقول لهم، كُفّوا ألسنتكم، وصُمّوا آذانكم وتَعاموا عن الحكايات المُثيرة للأسْقام والأوجاع.
سكت وهو يتفحص الوجوه ويُطلق نظره إليهم باندهاش :
ـ أنا أسألكم فأجيبوني ؛ هل سُموم الأسْقام بها شيء مُفيد ؟ وهل بواطن الأوجاع تأتي بغير التخاصم ؟.
ـ أطرح أسئلتي عليكم هذه، علّها تُخفف من شِدة اختلافكم، فالحكايات في وادي الرّمال، لا قيمة لها وبلا مُنطلق فكري.
وقديماً قِيْل، أنّ العين المكسورة تحزن إذا وقعتْ في الخطيئة وتخشى إذا تعامتْ عن الحقيقة؟.
ويعني ذلك، أنه إذا صَوّبتَ نظرك إلى حيث الخطيئة، فتلك حماقة ورُبما تَزداد الاخطاء وتتكاثر تداعياتها، وإنْ تكاثرتْ التداعيات، حدثتْ الخِسّة والدناءة.
وإني ناصح لكم :
ـ أنْ تُصلِحوا أنفسكم، فإن لم نُصلح حالنا، فقد نكون بلا طاقة ولا قوة وإنْ اتّكأنا على ماضِيْنا وعلى عراقتنا دون أنْ نُسَخّر الحياة لسعادتنا، فسوف تُخفىَ عن أعيننا سِرّها وتَنجلي أقدراها وإذا انجلتْ وغابت ذهب النور.!
ولا أحد منكم سيَعلم ماذا سيحدث بعد ذلك ؟.
لم يجبهُ أحد .. ظلّ كل شيء في صمت.
يـتـبـع الحلقة 28