بأي حالٍ عُـدت يا رمضـان؟!..
مـحـمـد الغـزالـي
بأي حالٍ عُـدت يا رمضـان؟!..
في صبيحة يوم دراسي جديد من نهار شهر رمضان كنت جالساً متقوقعاً على نفسي سانِداً إحدى يداي على طاولة مكتبي وممسكاً باليد الأخرى قلماً أحمر، مشمراً عن ساعدي وكلي عزيمة في التخلص من تصحيح تلك الكومة من أوراق الاختبارات التي تكدست على طاولتي بسبب تكاسلي من الانتهاء منها ؛ بحيث لم يكن هناك أي مجال أو متسع لأضع ملفات أو أدوات أخرى عليها ، لفت انتباهي حوار ثلاثة من الزملاء الذين كانوا يتجاذبون أطراف الحديث على الجانب الآخر من غرفة المعلمين ، وعلى الرغم من أني لم أعر لحديثهم أي اهتمام في بداية الأمر فقد كان شغلي الشاغل كيف أنجز عملي بتصحيح أكبر قدر من الأوراق قبل أن يسرقني الوقت ، وأضيعُ متنقلاً بين الصفوف في زحمة جدول حصصي الدراسية الذي أثقل كاهلي وجعلني مكبل اليدين من إنجاز أي عمل آخر ، تسارق إلى سمعي جملة خرجت من سياق الكلام الذي كان يدور بينهم : “لم تعد أجواء رمضان ولياليه كما كانت في السابق” ؛ عبارة نطق بها أحد الزملاء ، وعبر بها عن شعوره بعد انقضاء أول خمس ليالي من رمضان ، عبارته هذه كان لها وقعاً غريباً في نفسي جعلني أبادلها تساؤلات وجدانية عميقة : هل صحيح أن رمضان اليوم اختلف عما عهدناه سابقاً ؟ ولماذا اختفت الأجواء الروحانية والطقوس الدينية التي اعدتنا عليها مع استقبالنا لهذا الشهر الفضيل ؟!
وتلاشت مشاعر الود والألفة بين الناس ، والحرص على تفقد احتياجات بعضنا البعض ؟ هل طرأ تغيير في العادات والتقاليد الرمضانية الأصيلة وقيمها الراسخة التي كانت تتوارثها الأجيال جيل بعد جيل ، وانصهرت ديناميكياً في زمن العولمة التي فَرَضَ علينا أنماطاً سلوكية دخيلة على مجتمعاتنا بسبب التطور في أساليب الحياة ؟!.
حالة من “النوستالوجيا” انتابت شعوري في تلك اللحظة جعلتني أسبح بمخيلتي في ملكوت ذكرياتي ، وأعيد سنين عمري إلى الوراء لذلك الزمن الجميل ؛ حيث كان لرمضان مكانة خاصة عند المسلمين لا يضاهيها أي من الشهور ، وإحساسٌ مختلف يعيشه الفرد منا منتشياً بكل جوارحه متلهفاً قرب قدومه.
نعم أتى رمضان ، وللأسف اختفت معه العديد من العادات التي كان يتميز بها هذا الشهر الكريم ، قديماً كان الناس يتبادلون الزيارات مع بعضهم البعض بقصد التهنئة بحلول شهر رمضان فرحين ومستبشرين بقدومه ؛ ختفت هذه العادة الطيبة ، وحلّت محلها رسائل الواتساب ذات المعنى اللاشعوري ، والأحاسيس المتبلدة التي يختصرها البعض منا في نطاق نسخ ولصق ولا يكلف نفسه عناء قراءتها ، كذلك أفتقدنا مهنة “المُسَحِّر” الذي كان يتجول في الحارة قبل موعد السحور بساعة أو ساعتين حاملاً في يديه طبلاً يقرعه ليوقظ النائمين ، وينبههم بحلول وقت السحور ؛ مردداً بعض العبارات منها : “سحور .. سحور .. يا عباد الله” ، ومن الذكريات الجميلة التي تربطني وأنا صغير بهذه العادة ؛ أني كنت أصحو مع عائلتي على وقع صوته وصوت طبله في أذناي وهو ينادي في وقت السحر ؛ حيث الهدوء والسكينة ومناجاة الروح ، فأذهب مهرولاً على ضوء الفنر الخافت الذي بالكاد يضيء زوايا غرفتنا لأفتح إحدى درايشها الخشبية وأشاهده وهو يتجول بين منازل حارتنا ، وكنت بعض الأحيان أنادي عليه وأمازحه ببعض الكلمات ، وهو بدوره يبادلني المزاح ببعض الردود المختصرة ماضياً في حال سبيله يواري جسده ستار الظلام الذي لم يجلي عتمة سواده مصابيح الكهرباء التي لم تكن قد وصلت أنذاك بعد إلى قريتنا ، ولعل اختلاف طبيعة وروتين الحياة اليومية عما كان سابقاً في هذا الشهر ألغى دور “المُسَحِّر” ، فأصبح أغلب الناس يواصلون السهر طوال شهر رمضان إما في ممارسة بعض الأنشطة الرياضية ، أو متابعة المسلسلات التلفزيونية ، والقليل منهم في التهجُّد وأداء الشعائر الدينية.
ومن الأخلاقيات النبيلة التي تخلّى عنها الكثير من الناس في وقتنا الحالي إلا من رحم الله هي تبادل الزيارات بين الجيران والأقارب بعد صلاة التراويح ؛ حيث يجتمع الأهل والأحباب فتصفو النفوس وتزول الشحناء وتتوطدت أواصر المحبة والألفة فيما بينهم ، تناسى الناس هذه العادة أو بالأحرى تغافلوا عنها في خضم مشاغل الحياه اللامتناهية.
كذلك أصبح مجتمعنا على وشك افتقاده لعادة رمضانية جميلة ارتبطت بفترة طفولتنا ، ويحز في النفس كثيراً ونحن نراها اليوم تندثر شيئاً فشيئا ؛ هي أننا لم نعد نرى الأطفال قبل وقت الفطور في هذا الشهر وهم يحملون الأواني والأطباق المليئة بوجبات الأفطار يتنقلون من بيت إلى بيت لتوصيلها ، يتباركون هنا وهناك فتسمع دعاء الكبار مصحوباً بالمحبة للصغار ولمن أرسلهم ، فقد كنا نتزاحم في المطبخ مع إخوتنا ، ونتنافس في من يفوز بمهمة توصيل الطعام لجيراننا على الرغم أننا في بعض الأحيان نخون الثقة ونكشف عن الطبق في منتصف الطريق لنتذوق منه قبل الوصول إلى جهتنا المقصودة تدفعنا في ذلك براءة الصغار وعفوية أفعالنا.
سيل من الحنين الجارف جرى في خافقي في تلك اللحظة ؛ ليعيدني لأيام وسنين خوالي انقضت مع أهلها وناسها الطيبين وعاداتهم التي اختفى بعضها فيما لا زال بعضها يقاوم الاندثار ؛ لم يقطع حبل أفكاري في تلك اللحظة ويؤرّق مسمعي إلا صوت جرس المدرسة المزعج ، والذي أكاد أُجزم بأن الشقوق والصدوع التي ارتسمت على جدرانها العتيقه ما هي إلا تراكمات سنين لهدير رنينه ؛ نهضت متثاقلاً من مقعدي حاملاً بيدي كتبي وأقلامي ، وملقياً على كتفي اليسرى حقيبة جهازي اللابتوب ، ومشيت أُعِدُّ خطواتي نحو غرفة الصف ولسان حالي يقول : “بأي حالٍ عدت يا رمضان”.