بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

عـمـرتي الأولـى..

أيـهـم بن مصـطـفـى الخـياري

 

عـمـرتي الأولـى..

 

كنت دائماً متفوقاً في دراستي وأنا أطلب العلم في مختلف المدارس التي درست فيها في بلدي العزيز، وكنت دائما ما أحصل على أحسن الجوائز والهدايا والمدح والثناء من معلمي المدرسة التي أكون فيها جراء ذلك، إلا أنه إلى الآن يبقى في ذاكرتي معلم من هؤلاء المعلمين لن أنساه، لما قدمه لي ولإخواني الطلبة والمعلمين من عطاء وجهد متواصل لا ينقطع، وقد كان عطاؤه بمثابة نهر يجري من منبع خالص لا ينقطع، ومن خير ما قدمه لي هذا المعلم أنه أهداني تذكرة للذهاب إلى العمرة بعد أن تفوقت في دراستي، فكانت أول تذكرة أقتنيها بمجهودي، وهذا المقال يتمحور حول هذه المناسبة.

فكانت رحلة الذهاب يوم الأربعاء الموافق للثامن من فبراير، وتحديدا في الساعة الرابعة صباحا، انطلقت حافلة كبيرة تحت مسمى (حملة قباء) محملة بحوالي خمسين راكباً من الوطن مسقط متجهة إلى خير بقاع هذا العالم فكانت تقطع طريقها الطويل إلى مكة المكرمة. وكان هؤلاء الركاب من مختلف الأنواع والأعمار وطبيعة الحياة، حيث كان هناك ذكور وإناث، وكبار وصغار ، وكنت أنا صغيراً، من هؤلاء الركاب، بفضل التذكرة التي أهداني إياها أفضل المعلمين.

كانت رحلة الذهاب قطعة من العذاب بما فيها من مشقة الطريق و كآبة المنظرعلى طوله المديد، حيث كانت المسافة تقارب 3000 كيلومترا ذهابا فقط، وقد تخلى كل منا عن أهله و ماله و وطنه راغباً طاعة ربه ومتفرغا لعبادته في بيته العتيق بمكة، وهنا يتميز الإنسان عن غيره في أمور الدين الإسلامي الشريف، ولكن، كان للرحلة انطباعا فريدا بداخلي آنذاك، حيث أنني غالبا شعرت بالفرح والمتعة أثناء الطريق، ولم أشعر بما كان يشعر به البعض من ملل وكلل وهم وحزن، فقد كنت أعلم أنه يتحتم علي مواجهة شتى أنواع المغامرات والدروس المستفادة في عمرتي الأولى، وكنت عند حسن ظني.

وأخيراً، و بعد انتظار طويل و شوق دام لأكثر من يوم كامل قد قضيناه في الطريق، نتوقف خلاله بين حين وآخر للصلاة و تناول الطعام، كتب لنا أن نصل و لله الحمد في فترة العصر إلى سكننا المؤقت في مكة المكرمة، و لكننا كنا قد بدأنا أول مناسك العمرة قبل ذلك بالإحرام من ميقات قرن المنازل خارج منطقة الحرم، وياله من شعور قد ملأ سائر الركاب في الحافلة بما فيهم أنا، فقد نسي كل منا التعب و المشقة التي واجهناها قبل ذلك، وما كنا نفكر في شيء سوى أداء مناسك العمرة في المسجد الحرام الذي كان قريبا جدا من (سكننا) بفضل الله و توفيقه و رعايته، وما أحسسنا بالفضل من الله إلا بعد أن قابلنا من الناس من لم يجد له سكن يأويه أو كان سكنه بعيدا جدا عن المسجد أو قد وصل متأخرا إلى سكنه.

وبعد تنزيل الأمتعة من الحافلة إلى الغرف السكنية المتجاورة لكل راكب منا في جو من التعاون و الأخوة فيما بيننا جميعا، تفرقنا إلى مجموعات صغيرة من خمسة أشخاص على الأقل، ثم اتجهنا إلى المسجد الحرام لأداء المتبقي من المناسك و الشعائر العظيمة في العمرة، التي تمثلت في الطواف بالكعبة المشرفة، و السعي بين الصفا و المروة، ثم التحلل بالحلق أو التقصير للرجل والتقصير للمرأة.

كنت أنا برفقة الأستاذ (يحيى) وزميلي (أحمد) وبعض من الركاب الأخرين في مجموعة واحدة متعاونة، حيث كان قائدنا الأستاذ (يحيى) بخبرته، وكنا إذا ما فقدنا أحدنا بحثنا عنه ولا نكمل من دونه، وهذا ما كان يميزنا عن باقي المجموعات، و بفضل جهود كل فرد منا و تعاونه مع الآخر، تمكنا من إتمام ثاني المناسك (الطواف سبعة أشواط حول الكعبة) وأداء صلاة المغرب خلاله سالمين بحمد الله، بعد أن اعتمدنا على اتباع شرح وتوجيهات مرشد الحملة الديني (الشيخ أيمن) بحذافيرها لنضمن بعدها أننا نمشي على الصراط المستقيم في ما نفعله.

أما عن المنسك التالي، وهو السعي في مسعى الحرم بداية من الصفا و انتهاء بالشوط السابع في المروة، فقد كان بالنسبة لي أسهل وأيسر بكثير من سابقه، اعتباراً قلة الازدحام بالمعتمرين مقارنة مع الازدحام والاكتظاظ الشديد الذي واجهناه في صحن الكعبة المشرفة، وأيضاً اقتراب انتهاء أداء المناسك من بعده. بعد أن اتممنا الشوط السادس في المسعى، أذن المؤذن لصلاة العشاء فصليناها ثم من بعد ذلك أكملنا السادس و السابع بيسر، ولم يتبق لنا بعد السعي سوى أن نخرج من المسجد الحرام ونتحلل بالحلق أو التقصير، وهذا ما فعلناه مباشرة بعد خروجنا، فقد توجهنا إلى حلاق قريب من السكن وتحللنا هناك، بعض منا حلق شعره كاملا، والبعض الآخر قام بتقصيره، وكنت أنا وزميلي من الفئة الأخرى، ولم يأخذ منا ذلك وقتا طويلا، وبعد الإنتهاء من أداء رابع وآخر مناسك العمرة كما فرضتها الشريعة الإسلامية، اتجهنا إلى سكننا وارتحنا لباقي اليوم.

العبادة أول الأعمال والأقوال..

في اليوم التالي، والذي صادف الجمعة، كان روتيننا مستقراً وعادياً، حيث أننا كنا لا نخرج من سكننا إلا لأداء الصلوات الخمس وتناول وجبات الطعام، فكنا لا نفوت أي صلاة يؤذن لها المؤذن ولا نتأخر على إقامتها، بل كنا شديدي الحرص على الذهاب والوصول إلى المسجد الحرام “أولاً بأول”، فننطلق قبل أن يؤذن المؤذن لتلك الصلاة، ونترك أي شيء يشغلنا، وكنا نستغرق حوالي العشر دقائق للوصول إلى المسجد في كل مرة، فقد كان قريباً من سكننا.

وفي صلاة الجمعة لذلك اليوم، شهدنا ازدحاما لم نشهد مثله كثيرا في حياتنا، حيث كان الطريق وبوابة الدخول والخروج شبه مسدودة من شدة اكتظاظها بالمصلين المواظبين على صلواتهم، خلافا لما كانت عليه المصَلَّيات الداخلية من امتلاء بالمصلين وانعدام أي حيز لآخرين منهم ليجلسوا فيها، ولكن لحسن حظنا (بعد صبر جميل و عناء شديد، في الحقيقة) دخلنا ثم صلينا و بالنهاية خرجنا سالمين ومطمئنين مثل أي شعور يشعر به المسلم بعد أدائه الصلاة.

زيارة المـزارات..

في اليوم التالي الذي صادف السبت، صلينا صلاتي الفجر و الضحى في المسجد الحرام، وقد قيل لنا أنه كان علينا العودة إلى سكننا قبل حلول الساعة الثامنة صباحاً، وذلك لأن حافلتنا ستكون في انتظارنا للركوب فيها وزيارة المزارات التي يؤدي الحجاج فيها مناسك الحج كل موسم، وهذا ما فعلناه كما طلب منا، فقد صعدنا الحافلة قبل الوقت المحدد، وانطلقنا مع الآخرين الذين أرادوا المجيء معنا إلى وجهتنا المقدسة، وفي طريقنا مررنا بـ (منى)، حيث يرمي الحاج الجمرات، ثم مررنا بـ (مزدلفة)، ثم بعرفات حيث يمكث الحاج من زوال الشمس حتى غروبها يصلي صلاتي الظهر والعصر ويذكر الله تعالى كثيرا، كما مررنا بالمخيمات التي يبيت فيها الحجاج في فترة الحج من مختلف البلدان والجنسيات، بالإضافة الى ما تلقيناه من دروس وتعاليم لما يفعله الحاج في موسم الحج، بفضل (الشيخ أيمن) وغيره من المشرفين.

وبعد أن زرنا باقي المزارات، عدنا إلى سكننا ووصلنا كما كنا نريد أن نصل قبل صلاة الظهر، وبعد ذلك قضينا المتبقي من اليوم مثلما قضينا يوم الجمعة، نؤدي الصلوات ونقرأ القرآن الكريم ونذكر الله وندعوه بما نشاء كثيراً كثيرا، وكل هذا كنا نفعله في المسجد الحرام، وكان ما يسعدني ويشد انتباهي، أن الصلاة الواحدة فقط في المسجد الحرام تعادل مئة ألف صلاة، فكان هذا أحد الأسباب التي أنستني مشقة السفر والازدحام لفترة طويلة ذهاباً وإياباً، فذلك الكم من الأجر والثواب العظيم من الله تعالى لا نحصل عليه كل يوم عادي، ويستحق كل التعب والإرهاق بمبتغى الحصول عليه.

زيارة خير المدن و أنورها..

إن من خير المدن وأنورها وأحسنها من بين شتى مدن وبقاع الأرض هي المدينة المنورة، واسمها مبني على مسمى عظيم، إذ أن هذه المدينة منوّرةٌ في الإسلام، وذلك لأنها انيرت بأنوار الهدى حال وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها مهاجراً من مكة المكرمة، ولو أنها لم تكن من محاسن هذه الدنيا، لما جاء إليها خير خلق الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن أزورها أنا شرف وعزة لي مثل أي مسلم آخر، ولذلك كنت سعيدا ومغتبطاً للغاية من داخلي بعد أن علمت أن لدي فرصة لزيارتها وزيارة ما بها من معالم ومساجد عظيمة مقدسة، وذلك بعد أن قضيت ثلاث ليالٍ في مكة المكرمة.

وبالفعل، انطلقت حافلتنا إلى المدينة المنورة فجر يوم الأحد، ولم يكن الطريق طويلاً، فقد استغرق الوصول إلى هناك حوالي ست ساعات فقط، وكان أول مكان توجهنا إليه بعد دخولنا للمدينة المنورة مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام على يد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصلينا صلاتي الظهر والعصر في هذا المسجد، ثم توجهنا إلى جبل (الرماة) من سلسلة جبال أُحد، التي لها تاريخ عظيم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم و صحابته الكرام، وكانت تحاذي هذا الجبل مقبرة الشهداء التي دفن فيها الشهداء في معركة (أُحد) من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبعد أن زرنا كل هذه المعالم من المدينة المنورة، يتبقى لنا أهم المعالم من بينها ، وهو المسجد النبوي الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذي يوجد به قبره ، وقبر صاحبيه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما)، وغيرها من الأشياء التي تميز هذا المسجد العتيق.

قبل أن نذهب للمسجد النبوي، توجهنا إلى سكننا وأخذنا قسطاً من الراحة ثم انطلقنا إليه مشياً بما أنه كان يقابل سكننا ولم يكن أبداً بعيداً؛ صلينا صلاتي المغرب والعشاء فيه، ثم عدنا إلى سكننا، وكان موعد عودتنا إلى وطننا في اليوم التالي، لذلك قررنا أن نشتري بعض الهدايا والتذكارات لنا ولأهلنا، وحفزني لفعل ذلك كون هذه العمرة أول عمرة لي، فذهبنا إلى بعض الأسواق التجارية الصغيرة القريبة من سكننا واشترينا ما يكفينا من هدايا وتذكارات لنا ولأهلنا، ومن ثم عدنا إلى سكننا.

اليـوم المنتـظـر..

إن من أجمل الأمور التي يصادفها المرء كونه في رحلة طويلة من بلده الغالي إلى الديار المقدسة في مكة المكرمة، ولكن الأجمل من ذلك أن يجد نفسه في رحلة من تلك الديار المقدسة إلى بلده الغالي الذي اشتاق إليه كثيرا، بعد القيام بما كان يريد القيام به هناك من مختلف الأعمال. فما أحلى رحلة العودة إلى الوطن بعد انتظار طويل و شوق عظيم، فما يشعر به المعتمر أو الحاج في هذه الرحلة شعورا لا يوصف، وهذا هو بالضبط ما شعرت به ومن معي أثناء رحلة العودة.

انطلقنا قبل أذان الفجر في طريقنا إلى الوطن، وكان شعورنا في رحلة العودة مختلفاً تماما عن شعورنا في رحلة الذهاب، فقد كنا نشعر بمشقة الطريق الذي كان أطول من طريق العودة، وقد كنا نفكر طواله بالأحداث التي تنتظرنا في بلد ليس بلدنا، وأنه هل سنعود سالمين إلى بلدنا ؟ أما في رحلة العودة تنعكس الأحوال، فنحن لا نشعر أبدا بمشقة الطريق الذي هو أقصر من الآخر، ولا نفكر أو نهتم بأي شيء سوى أننا على مشارف إتمام رحلتنا بأكملها ولقاء أهلنا وأحبتنا في وطننا العزيز بدون أي تقصير، بل ننسى كل صغيرة وكبيرة من الهم والحزن والضيق طوال هذه الرحلة التي اعتبرها الكثير منا أنها “شاقة”، ونعود بالزمن إلى قبل أن نخرج من وطننا وكأن شيئاً لم يحدث.

وصلنا إلى أرض وطننا في صباح اليوم التالي، والذي صادف الثلاثاء، بعد أن مكثنا قرابة أسبوع بعيداً عن أرض ديارنا، وحدث أسوأ شيء قد يحدث بعد ذلك، وهو أن يتفرق كل منا عن الآخر ويعود إلى حياته الطبيعية التي يمارسها يوميا، فينفصل شملنا وكأننا لم نتقابل قط، وليت هذا لا يحدث، إلاً أن مثل هذه المواقف تتكرر باستمرار على مدى حياة كل فرد منا، وعليه ألاَ يستسلم للهم والحزن الذي قد يواجهه في أثنائها، وإنما يواصل المسير قدماً نحو الأفضل وهو يعلم أن هنالك مغامرة أخرى تنتظره في المستقبل العاجل، وسوف تعرفه على أصدقاء جدد حتى وإن تفرقوا مرة أخرى.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى