مـات مـتـأقـلـمـاً..
ياسمـين عبدالمحسـن إبراهـيم
صانعة محتوى ، ومدربة في مجال اكتشاف وتنمية الذات
مـات مـتـأقـلـمـاً..
يحكى أن هناك ضفدعاً مسكيناً أمسك به أحد العلماء، وقرر جعله حقلاً لتجاربه العلمية، وبدأ ممارسة تجاربه من أول يوم، وهذا المسكين لا يدري لماذا هو من وقع عليه الاختيار ؟، ولماذا هو محبوس في هذا المكان الزجاجي الضيق ؟، وهل يمكنه أن يرى عائلته مرة آخرى؟.
أول يوم هو الأصعب على الإطلاق؛ فقد تم تدبيس أربعته على لوح خشبي، ومن شدة الألم فقد وعيه، ولما استيقظ وجد بجواره العديد من جثث الضفادع المثبتة على لوح خشبي مثله؛ لم يدرك للوهلة الأولى السبب من ذلك الثبات الذي يظهر عليهم؛ ظل يطالعهم يميناً ويساراً ولا أحد منهم يحرك ساكناً، ومن ثم دخل آدمي وجمعهم فوق بعضهم، وألقى بهم في شيء لونه أسود كأنها حلقة زمنية تُخْفي الجرائم، وجاء آدمي آخر ترتسم على وجهه ابتسامات مرعبة، وأمسك به وأخذ يمسح حبات الماء التي خرجت من جسده الصغير من أثر الخوف؛ أحس الضفدع المسكين أن هذا الآدمي هو ملاك الرحمة، وأنه قد جاء لينقذه، بدأ يتخيل أنه عاد لأمه من جديد، وها هو الآدمي يضعه في إناء به ماء بارد يشبه ماء البركة التي يتجمع فيها مع الأصدقاء سابقاً، لقد أحب الضفدع هذا الآدمي بشدة حتى أنه أصبح لطيفاً ولا يقاوم ولا حتى يحاول الهرب، وجاء اليوم الثاني كان الجو بارداً نوعاً ما، فأخذ العالِم الضفدع ووضعه في إناء به ماء دافئ، هنا ذاب قلب الضفدع عشقا في هذا الآدمي، كم هو لطيف وحنون، وقال لنفسه بمجرد أن شعر ببرودة الجو أخذني إلى ماء دافئ حتى أشعر بالدفء؛ هو لا يدري أن وجوده هو الدفء الحقيقي، وبدأ هذا العالِم بتدليك جسد الضفدع، والضفدع يقول لنفسه يا الله إنها خدمة ممتازة، ماء دافئ مع التدليك، إنه أسمى مراحل الحب عند الضفدع، فهو لم يحظَ باهتمام من قبل، و بدأ الضفدع بالتفكير مرة أخرى في جثث الضفادع التي رأها على الألواح الخشبية، ثم قال لنفسه أكيد أنهم ماتوا لأنهم كانوا يقاوموا وحاولوا الهرب من هذا الملاك، لم يفهموا أنه يريد الاعتناء بهم؛ كم هم أغبياء من وجهة نظر ضفدعنا المفكر.
وفي اليوم الثالث جاء العالم ورفع درجة حرارة الماء؛ فجأة قفز الضفدع لا إرادياً؛ ولكنه لم يحاول الهرب نهائياً ظل واقفاً مكانه، بينما كان يرتسم على وجه العالِم الرعب أنه فقد الضفدع وخسر مجهوده في هذه التجارب، رأى أن الضفدع مازال واقفاً، تيقَّن العالِم أن الضفدع فقد اتزانه النفسي، فأخذه العالِم بين كفيه كأنه يعتذر منه، وظل يرتب على رأسه ووضعه في ماء بارد يليق بطبيعته كضفدع، وفي اليوم الرابع وضعه العالِم مرة آخرى في ماء دافئ، وأخذ كل يوم يزيد الحرارة بنسبة بسيطة حتى لا يشعر الضفدع، الضفدع يشعر بتلك السخونة، ولكن لا بأس يمكنه الصبر، وكل يوم تزيد الحرارة والضفدع لا يريد أن يغضب صديقه الوفي فهو لا يريد أن يرى نظرات الحزن التي كانت على وجه الآدمي عندما قفز من الإناء، حتى جاء اليوم الموعود وجاء العالِم إلى معمله ونظر إليه الضفدع نظرةً كلها حب واشتياق، وهنا أعطاه العالِم قبلةً في الهواء، فتغلغلت مسمات جلد الضفدع كأنها ترميم لكل ما عاناه من الغربة عن أهله والألم الذي رآه في هذا المكان الغريب، وبينما الضفدع غارق في مشاعره الفياضة كان العالِم يزيد من حرارة الماء، وكان الضفدع يظن أنها قوة الحب، حتى مات.
مات الضفدع وهو يحاول أن يتأقلم مع الظروف والمشاكل التي يعيشها، لم يحاول مواجهة تحدياته لقد سلّم لأول دائرة أمان قابلها، لم يرحل عندما وجب عليه الرحيل، مات ولم يقاوم من أجل نفسه حتى خسر نفسه.
بطل قصتنا مات متأقلماً.
بينما كان يرسم حياةً خياليةُ وردية، كانت الخطة أنه مجرد حقل تجارب.
مات بطل الحكاية وهو لم يدرك الفرق بين الاستسلام والصبر.
كان يظن الماء الدافئ حبًا، وهو قبر لروحه.
أراد ألا يلحق بتلك الجثث الميتة، فقتل نفسه بالتأقلم على ظروف لا تناسبه ولا ترضيه.
أراد أن يكسب مودة أحدهم، فباع روحه غدراً.
في الختام..
أرجو أن لا نكون الضفدع القادم في مختبر الحياة لأحدهم.